الأربعاء، 2 ديسمبر 2009

صاحب الدبلوم الأحمر


kolonagaza7
من ممارسات السلطة في الضفة المحتلة
مقدم بواسطة: عياش
أتممتُ دراسة الطب في روسيا، وتخرجت من الجامعة بحمد الله حاصلاً على "الدبلوم الأحمر"، وهو شهادة بالامتياز والتفوق مع مرتبة الشرف، لا تمنح إلا للطلبة المتفوقين الذين أنهوا امتحاناتهم في جميع سنوات الدراسة حائزين على أعلى الدرجات، مع المواظبة على الدوام وحضور المحاضرات والتطبيقات العملية، دون غياب، والحفاظ فوق ذلك على علاقات طيبة مع الأساتذة والطلبة، وعدم تسجيل أي ملاحظة سلبية من أي كان..أي بكلمات أخرى لقد كنت بحمدالله وفضله مخلصا في دراستي، مجدا في كدي وتحصيلي، وبذلت وسعي، كي أتخرج طبيبا حاذقا ونطاسيا بارعا، أخدم وطني وشعبي، وأمتي.. أردت منذ صغري تحقيق حلمي بأن أكون طبيبا، وحلم أبي الذي طالما حدثني عنه وأنا صغير، أنه ينتظر ويحلم مثلي برؤية ذلك اليوم الذي أرجع له بشهادة الطب كي يقال له أبو الدكتور..كان حصولي على مرتبة الشرف مثار فخر وإعجاب الجامعة، فمنذ سنين لم يحصل على هذه المرتبة في دراسة الطب إلا أفراد قلائل، وقد انقضت سنين منذ أن حصل آخرهم على هذه الدرجة ..ولذا فقد كانت سعادة الجامعة وإدارتها مضاعفة لدى تقديمي امتحانات الدولة وحصولي على أعلى الدرجات فختمت دراسة الطب بتفوق ونجاح كبير..والحمدللهوللتوضيح فإن امتحانات الدولة في الطب، هي امتحانات يقدمها الطلبة في سنة التخرج، أمام لجنة من كبار الأساتذة والأطباء، وغالبيتهم من خارج طاقم التدريس في الجامعة، وذلك منعاً للمحاباة، وحرصاً على تكافئ الفرص للجميع ...كنت الطالب الأجنبي الوحيد الذي يحصل على هذه الدرجة، منذ سنين، فاحتفت بي إدارة الجامعة أيما احتفال، ومنحني رئيسها ميدالية مذهبة، عليها رسم وشعار الجامعة، وذلك أثناء حفل الخريجين السنوي، وخطب خطبة عصماء في الطلبة أثناء الاحتفال الذي ضم إضافة إلى إدارة الجامعة وهيئة التدريس، ضيوفا من خارج الجامعة، وأهالي الخريجين..في كلمته التي ألقاها في الحفل قال رئيس الجامعة، موجهاً حديثه لي، أهنئك يا علي على جدك واجتهادك، وأهنئ أهلك الذين ربوك وغرسوا فيك، هذه الأخلاق وهذا الالتزام، وأتصور مشاعر أبيك وأمك الذين ينتظرانك على أحر من الجمر ليفتخرا بك، ولكني – يقول رئيس الجامعة- قبل ذلك أهنئ الشعب الذي أنجبك، ويحق لقومك أن يفخروا بنجيب مثلك..شعبكم عانى كثيرا وآن له أن ينال حريته..لامستْ كلمات الأستاذ شغاف قلبي وملأتني فخراً واعتزازاً، فسالت دموعي رغماً عني، وبالأخص حين مدح الأستاذ شعبي المعطاء وذكر معاناته، وقال أن خلاصنا بالعلم فهو الأمل الذي ينبعث في الظلماء لينير طريق الحرية ..حمدت الله في سري أن مكنني من تبييض وجه أسرتي ورفع رأسها، وأن جعلني مجلبة فخر ومدح لشعبي المصابر المرابط،، وقبل أن أسترسل في أفكاري جاءت كلمة عميد شؤون الطلبة لتهزني وتوقظني من سرحاني.. وتقول لي اصح واسمع ما يقول هذا..لقد حفلت كلمته بالكثير من المقارنات ..قارنَ بين المجدّ والمهمل، بين الطبيب الحاذق والطبيب الفاشل، ولكن أكثر ما لفت انتباهي أنه قارن بيني وبين بعض الطلبة الفلسطينيين في الجامعة، ذاكراً معاناته من مشاكلهم وكثرة متاعبهم، طاعناً فيهم وبتصرفاتهم، ومن طرف خفي كأنه يأتي على طرفي، قائلاً لولا أن علياً فلسطيني متعصب، وشديد الاعتداد بوطنه وفلسطينيته لكان نموذج الطالب المثالي..ثم ردد كلاماً قاسياً عن طلبة فلسطين...طبعاً عميد شؤون الطلبة الدكتور الخبير هو روسي له جذر يهودي، واليهود الروس بشكل عام متغلغلون في المؤسسات التعليمية، ويحابون قومهم بلا شك، ولكنهم في الوقت نفسه أخصائيون أصحاب مكانة عالية في تخصصاتهم..لم أشهد خلال هذه السنوات السبع مشاكل تذكر مع عميد شؤون الطلبة هذا، ولكن علاقاته مع بقية الطلبة الفلسطينيين كانت مشدودة دوماً، لكونه المشرف المباشر على شؤون الطلبة الأجانب، ويتعمّد إيذاءنا أو الإضرار بنا، ولكن هذه الكلمات التي يلقيها اليوم تظهر حقداً دفيناً لم يستطع أن يكتمه خاصّة بعد كلمات رئيس الجامعة المؤثرة.ولكن من ناحية أخرى فإن بعض الطلبة الفلسطينيين لا يستحقون أن يكونوا ماسحي أحذية فضلاً عن طلبة في أعلى وأفضل جامعات الطب الروسية.. وقد ابتلينا في السنوات الأخيرة بعدد من الطلبة ممّن أتى لا يشغله لاهم الدراسة ولا التحصيل العلمي وليس ذلك في رأسهم أصلا ، ولا أعتقد أن في واردهم الاهتمام بالتخرج أوالحصول الدرجات العلمية...كانوا مجموعة طلبة من أبناء مسؤولين فتحاويين أوموظفين كبار في السلطة، جاؤوا مستغلين مِنَحاً دراسية حصلوا عليها عن طريق السفارة الفلسطينية التي كانت توزعها لأقارب السفيرالسابق حصراً، ومن ثم معارفه وأبناء بلدته حوسان قضاء بيت لحم بالدرجة الأولى، ومن ثم يوزعها على أقارب ومعارف المسؤولين في وزارات رام الله ..وإن فاضت المنح عن حاجتهم باعوها بمبالغ طائلة لطلبة من شتى الدول العربية والأجنبية..كانت غالبية من حصل على تلك المنح من الطلبة ضعيفي التحصيل العلمي، أو الفاشلين في تحصيل قبول في دول أخرى، ولم يكونوا إطلاقاً من مستحقيها، فأساؤوا لفلسطين أولاً وأساؤوا لروسيا ثانياً بتشويه سمعة جامعاتها..وقد عكسوا – مع الأسف- صورة شديدة السلبية عن فلسطين وأهلها بتسيـّبهم وعدم اهتمامهم بالدراسة، وملاحقتهم الفتيات وبائعات الهوى، وقضائهم معظم الأوقات في المطاعم والبارات، واشتباكاتهم المتكررة مع الطلبة في السكن الجامعي، مما دفع الطلبة الأجانب إلى التعوذ بالله ألف مرة عند ذكر فلسطين، وأما إن وقع حظ أحدهم العاثر لمشاركة الغرفة مع أحد هؤلاء الطلبة الفلسطينيين، فكان لا يترك رجاء ولا واسطة، ولاحيلة ليفرّ من ذاك الخيار إلا اتبعها، وإن لم يحالفه الحظ بتغيير الغرفة، فكان يذهب إلى الغرفة كمن يساق إلى قبره..وللعلم فإن الحكومة الروسية، دأبت على تقديم هذه المنح الدراسية لأبناء فلسطين خاصة، دعماً وتشجيعاً لهم، على التحصيل والعلم، فيما أوقفت أو خفضت منحها لباقي دول العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيييتي..وللمقارنة فإن فلسطين لها 175 منحة سنوية بينما ليس لسوريا أوالأردن أولبنان إلا 5 منح لكل منها ..جالت كل هذه الخواطر في رأسي وأنا في سيارة الأجرة المتجهة من عمان إلى الجسر في طريق عودتي إلى بلدتي قلقيلية الحبيبة بعد سبع سنوات من الغربة والافتراق عن الوطن..سنوات سبع مرت علي كأنها الدهر، ما أصعبها وأقساها، عانيت خلالها مرارة الغربة والبعد عن الأهل والصحب والوطن.. فقد آثرت عدم العودة طيلة هذه السنوات السبع، للعمل في أشهر العطلة الصيفية، وتأمين مبلغ أنفق منه خلال العام، توفيراً على أبي الموظف محدود الدخل، والذي يئن تحت وطأة المصاريف المتزايدة لإخوتي الصغار.. علما أن المنحة التي نلتها من الجامعة كانت تغطي تكاليف الدراسة السنوية، والسكن الجامعي، ومبلغاً شهرياً يمنح للمتفوقين فقط، فكان هذا المبلغ مع ما أحصله من نقود من العمل في أشهر الصيف، وما أحصله من أعمال مختلفة أؤديها أثناء العطل يكفيني لتأمين حاجتي الأساسية، دون أن أثقل على أسرتي.اقتربنا من الجسر وقلبي يكاد يطير من بين جوانحي شوقاً وحنيناً للوطن الحبيب.. يكاد يقفز من بين ضلوعي ليسبقني إلى قلقيلية الحبيبة، آآه يا قلقيلية كم أحبك، صدق من قال حب الأوطان من الإيمان ..كنت أرسم في مخيلتي صوراً للقاء مع الأهل، كيف سأدخل على أبي حاملاً شهادتي، لا بل سألبس روب الأطباء الأبيض قبل أن أدخل على أمي، لتقرّ عينها بابنها الطبيب المتفوق، وكيف سأوزع الحلوى على إخوتي الصغار الذين ولد ثلاثة منهم أثناء غربتي.. ورسمت صوراً مختلفة للقائهم الأول بي، كيف سيستقبلونني؟ هل سينفرون مني أم يقبلون علي؟ هل سيخجلون من معانقتي.. ويختبئون خلف أمي..يا إلهي الشوق يكاد يمزقني ..هيا أسرع يا سائق الحافلة اقطع الجسر بسرعة لأصل لبلدي فلم أعد أطيق انتظارا ...للأسف تبخرت أحلامي ما أن وصلنا أرض الوطن المحتل..فعلى معبر أريحا استدعاني ضابط فلسطيني - ليدردش معي - كوني من قلقيلية..وأهل قلقيلية لهم (معزة خاصة) عنده.سألني ذلك الضابط وهو مقطب العينين: لم ترجع منذ مدة طويلة، فما السبب؟ وقبل أن أجيب قال : خايف؟؟ أجبت ومم أخاف؟ لم أرجع توفيراً لنفقات السفر ...قال مقاطعاً: ما رأيك بما جرى في قلقيلية؟ قلت وما الذي جرى؟ لم أسمع شيئاً في أخبار اليوم، هل هناك اجتياح جديد، لاسمح الله؟ قال: (لا، ما في اجتياح، ولكن هظول الزعران اللي من حماس قتلوا ثلاثة من رجال الأمن؟ ) فما رأيك بما فعلوه؟ قلت كاظماً غيظي: قتل الفلسطيني لأخيه الفلسطيني جريمة والمستفيد الأوحد هو الاحتلال..قال: ومش بس هيك، وحاولوا يفجروا عبوة تحت دورية من رجال الأمن؟ يا رجل عندهم فتاوى جاهزة بتكفيرنا وسفك دمنا..، ومش بس هيك وجدنا مستودع متفجرات هائل تحت أرضية المسجد، تصور حجم المذبحة التي كان يمكن أن تقع لا سمح الله..قلت: لاحول ولاقوة إلا باللهقال : ولكنا بحمدالله قضينا عليهم، خليناهم (ينسّوا زي البسس) انتبه أنه هو الذي يتحدث وأنا أستمع، قال أرجو أن يكون المستمع الجيد هو المتحدث الجيد تفضل أريد أن أسمع رأيك بصراحة.قلت هذا لا يجوز يجب ألا ننشغل ببعض ونغفل عن مخططات اليهود، فهاهم بدأوا هجمتهم على القدس، ولا أستبعد أن يقترفوا جريمة أخرى بحق المسجد الأقصى.قال أريد رأيك بزعران "حماس" اللي ذبحوا رجال الأمن..قلت – واعترف انني هنا ربما أخطأت - أنا لا أعرف أن "حماس" فيها زعران..وما تتحدث عنه قتل فيه خمسة من "حماس" كذلك..ولكن ما علاقتي أنا بكل هذا، فأنا خارج الوطن من سبع سنوات و بالكاد أسمع الاخبار، لانشغالي بدراستي..قال - يعني برأيك احنا مشغولين بحكي تافه، واللي ذبحوا رجال الأمن شباب وطنيون ومخلصون..قلت أنا لم اقل ذلك، كل ما قلته : ما علاقتي بكل هذا، اتركني أرجع لأهلي أرجوك..قال: نحن نعرف أنك من مؤيدي حماس ولكني كنت أظن أنك عقلت خلال هذه السنين ثم نهض منهيا المقابلة وقال: عليك أن تراجع المخابرات أول ما تصل ..في الطريق إلى قلقيلية ركبني الهم وتملكتني الهواجس ما الذي أوقعت نفسي به ..كان يجب أن أتركه يشتم كما يشاء ولا أجيبه..لاحول ولاقوة الا بالله ..كلما اقتربنا من قلقيلية كلما ازدادت دقات قلبي وارتفع ضغطي وتوترت أعصابي ثم لا ألبث أن أطمئن نفسي فإن هي إلا هنيهة وتلتقي بالوالدة الحنون وتقبل يد الوالد ويضمك الى صدره حيث سألقي على كتفه أعبائي وهمومي وسأجد الحنان الذي افتقدته طيلة سنوات .. ترى كيف سألقى أهلي وأخبرهم أن علي مراجعة المخابرات من أول يوم...لم يطل بي التفكير فعلى الحاجز الصهيوني في مدخل قلقيلية اقتادني مجند إثيوبي بعد أن أخذ هويتي إلى الضابط المناوب على الحاجز الذي أخبرني أنني معتقل لأنني من مؤيدي "حماس".. وقعت كلماته علي كالصاعقة، كيف أكون مطلوباً وقد اجتزت للتو الجسر وعدة حواجز حتى وصلنا هنا على بعد خطوات من بيتي ..واقتادوني..ها أنا الآن في سجن النقب الصحراوي أقضي حكما بالسجن الإداري وأتذكر أحلامي المتكسرة وأماني المذبوحة التي حرمني منها أذناب الاحتلال..فأبي لم ألتقه، وأمي لم تفرح برؤية ثوبي الأبيض، ولم أحتضن إخوتي الصغار ، ولم ..ولم ..ولاحول ولاقوة إلا باللهومن ظلام سجني هذا أقول لئن صفحت حماس فلن أصفح، وإن نسيت حماس فلن أنسى، وإن غفرت حماس فلن أغفر ؛ هذا عهد ووعد وقسم، ويا قلقيلية انتظري فجري ولاتهني..

مشاركة مميزة