kolonagaza7
رائد لافي / قطاع غزة
لست من المحظوظين الذين يتمتعون بعلاقات شخصية مع كبار المسئولين في الجانب الفلسطيني من معبر رفح البري مع مصر، ولا أجيد ركوب الدراجات النارية خلف صغار الموظفين في المعبر، كي تفتح لي بوابة المعبر بـ"طرق ملتوية" وأتجنب الانتظار المذل لساعات وساعات وسماع ما لا تطيقه أذني من حراس البوابة الغلاظ الشداد.عندما قررت مصر فتح معبر رفح وهو المنفذ الوحيد لسكان قطاع غزة المحاصرين للعام الرابع على التوالي، عقب المجزرة الإسرائيلية ضد أسطول الحرية أواخر أيار (مايو) الماضي، كان قراراً مصرياً حكيماً، للتخفيف عن الغزيين من ذوي الحاجة للسفر لغرض العلاج والتعليم والعمل...وحتى السياحة التي باتت بالنسبة لهم كـ"الفورة" بالنسبة للمعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.البعض اتهم مصر بممارسة التمييز بحق الراغبين في السفر خلال الشهور الثلاثة الماضية، وإن كانت مصر تمنع فعلاً أحد من دخول أراضيها فلها السيادة أن تمارس ما يتفق مع أمنها ومصلحتها الوطنية، ومع ذلك فإنها تسمح في الوقت نفسه لمن يشاء أن يستخدم أراضيها للمرور إلى أي بقعة في العالم.هذا بالنسبة لمصر، لكن ماذا يمكن تسمية الاستثناءات التي تمارسها إدارة المعبر التابعة للحكومة المقالة التي تديرها حركة "حماس" بحق بعض الغزيين، فتسمح لهذا بالمرور وتمنع آخر مع أنهما حالة واحدة ويتمتعان بنفس الشروط اللازمة للسفر.هذا ما حدث معي بالضبط يا سادة: ففي يوم السبت السابع من الشهر الجاري وبعد محاولات حثيثة على مدار يومين لدخول المعبر، تكللت أخيراً بنجاح من يتمتع بالدلال على السيد غازي حمد رئيس المعبر بأن سمح لي بالمرور والوصول إلى الصالة الفلسطينية، وهناك قابلت زميلاً صحافياً وزوجته وهما بالمناسبة معي في نفس كشف التنسيق الصادر عن جهاز أمن الدولة المصري، وما هي إلا دقائق معدودة حتى خرج ضابط شرطة لينادي عليهما ويذهب بنفسه لموظف الجوازات وينهي معاملتهما وقبل أن يصطحبهما إلى حيث الحافلات التي ستقلهما إلى الصالة المصرية، وقفت مستوضحاً الأمر ولكن وقبل أن أتلفظ بكلمة وإذا بهذا الضابط الهمام الذي يتمتع بالحاسة السادسة وربما العاشرة يقرأ ما لم تتلفظ به شفتاي ومن دون أن يكلف نفسه بسؤالي عن اسمي بادرني بالقول: اجلس ليس لك سفر، ما يدلل على وجود تعليمات مسبقة بمنعي من السفر، ولأنني من فئات الشعب المضطهدة التي لا ينطبق عليها المثل الشعبي "من له ظهر ما بينضرب على بطنه"، امتثلت للأوامر وجلست لأكثر من ساعتين.بعد مرور هاتين الساعتين، جاءني شرطي يطلب مني أن أرافقه بأمتعتي والحجة أنه "ليس لي تنسيق لدى الجانب المصري"، فطلبت منه بلهجة لا تخلو من الرجاء أن يسمح لي بإجراء بعض الاتصالات لأستوضح الأمر فتعطف علي سيادته بخمس دقائق لم أهنأ بها من كثرة الإلحاح علي بالانتهاء، ومع ذلك تمكنت من التواصل مع نقابة الصحافيين الفلسطينيين، لأتأكد بعد ذلك من وجود تنسيق لي لدى الجانب المصري، ورغم ذلك رفض موظفو المعبر التعاطي مع إلحاحي عليهم بتحري الأمر من مسئول التنسيق الفلسطيني في الصالة المصرية أو حتى تمكيني من الاتصال به كي أثبت لهم أن لي تنسيقاً، وأصروا على أن يتصل بهم ضابط أمن الدولة المصري ليتأكدوا من التنسيق في حين لم يطلب الأمر نفسه من الزميل وزوجته.جاءني الضابط الهمام نفسه صاحب الحواس العشرة، وأمسك بي من ذراعي وأوصلني إلى حيث السيارة التي أقلتني عائداً إلى البوابة الرئيسة، وخلال الخطوات القليلة من الصالة إلى السيارة سألته بكثير من الأدب: هل هذه طريقة للتعامل مع مواطن وصحفي ليجيبني بكلمات قليلة لم تخل من فظاظة: "هذه طريقتنا إذا عاجبك"، فاستقليت السيارة ويكاد الصداع أن يعصف برأسي وأنا أتساءل: كيف نطالب العالم بالتضامن معنا ونحن نحاصر أنفسنا؟؟!.هذه كانت نهاية حكايتي مع معبر رفح، أما البداية فكانت يوم الثلاثاء 27 تموز (يوليو) الماضي، عندما اصطحبت زوجتي وأطفالي الأربعة وبرفقة زميلي الصحفي عماد الدريملي وزوجته وأطفاله الأربعة إلى المعبر عند الساعة الثامنة صباحاً بناء على اتفاق مسبق بين الناطق باسم الحكومة طاهر النونو والسيد غازي حمد بأن يسمح لنا بالمرور عند الساعة التاسعة صباحاً، لتمر الساعة تلو الساعة ونحن ننتظر في أجواء من الغبار والحر الشديد وزوجاتنا وأبناءنا الصغار في وضع مأساوي يجلسون في مقهى شعبي وسط مئات المسافرين من الرجال، وبينما نحن كذلك انضم إلينا ثلاثة زملاء آخرين، وإذا بالسيد غازي حمد يخرج من بوابة المعبر بسيارته عند الساعة الثانية والنصف ظهراً فهرولنا نحوه وقد كان زميلنا في المهنة حتى وقت قريب وكنا نفترض أن يتبادل معنا الحديث بطريقة غير الطريقة التي تحدث بها، فلم يمنحنا الفرصة للتحدث واكتفى بالقول: "من له تنسيق سيدخل المعبر"، لتمر الساعات حتى الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم المرير ونعود أدراجنا يتملكنا الحزن والغضب.خلال 11 ساعة من الانتظار على بوابة المعبر لم نتوقف عن إجراء الاتصالات، وكنا نتلقى الوعود مثل "المسكنات" ستدخلون بعد قليل، ستدخلون خلال 10 دقائق، ستدخلون بعد المرضى، لكن ليتهم صارحونا بالحقيقة ووفوا علينا عناء الانتظار الشاق...كان الانتظار في ذلك اليوم مريراً، وما زاد من مرارته سوء تعامل عناصر الشرطة مع المسافرين: فأنت تحتاج إلى أن تستجمع كل ما تمتلك من كلمات الأدب كي تستفسر من شرطي عن أمر ما، لكن ليس بالضرورة أن يجيبك بذات الأسلوب. مشهدان مؤلمان لا يمكن تبريرهما من عنصري شرطة: قال أحدهما صارخاً بحدة في وجوه الراغبين في السفر وبينهم العشرات من النساء وكبار السن: "ارجعوا ورا يا أولاد الكلب"، في حين كان الشرطي الثاني أكثر وقاحة وهو يتحدث عن أزمة السفر إلى صديقين في سيارة جيب، وقال وهو ينهي حديثه معهما: "يا راجل شعب أخو ...."، وبإمكان القراء الأعزاء أن يكملوا الحروف الساقطة من هذه الكلمة الوقحة التي ينعت بها شرطي بالزي الرسمي أبناء شعبه.في اليوم التالي: ذهبنا إلى المعبر مرة ثانية بناء على وعد آخر من السيد غازي حمد لزميل تربطه به علاقة جيدة بأن يسمح لنا بالسفر عند الساعة العاشرة صباحاً، ومن كثرة المشاهد المؤلمة المتكررة أمامي قلت محدثاً زميلي عماد الدريملي "أنا حاسس حالي لسه مكاني من امبارح". المهم أننا انتظرنا من الساعة التاسعة صباحاً حتى الواحدة ظهراً حتى تم السماح لي ولزميلي عماد بالمرور بينما لم يتم السماح للزملاء الآخرين، ولم يكتب لنا أن نصل للصالة المصرية بعد أن اجتزنا المعاملات في الجانب الفلسطيني بسبب عطل أصاب شبكة الكهرباء والانترنت في المعبر المصري.عدنا في اليوم التالي عند الساعة السادسة والنصف صباحاً بناء على طلب إدارة المعبر على اعتبار أننا "أصحاب أولوية" بالسفر وجوازات سفرنا مختومة بختم الخروج، لننتظر في ساحة غير مؤهلة تعصف بها الشمس والغبار حتى الساعة الحادية عشرة، ومررنا بالصالة الفلسطينية مرة ثانية رغم أننا دفعنا رسوم الخروج وجوازاتنا مختومة وكان يفترض أن لا ندخل الصالة مرة أخرى لو كان هناك حسن تصرف بفحص الجوازات قبل الانطلاق.إلى هنا، انتهت حكايتي مع المعبر الفلسطيني، وكان يفترض في اليوم الثالث من المعاناة أن أدخل مصر حيث نجحت في الوصول إلى الصالة المصرية، لكن اعتبارات لدى الجانب المصري أدت إلى عودتي والسماح لزوجتي وأبنائي بالمرور، لأمكث نحو ثمانية أيام في غزة بذلت خلالها نقابة الصحفيين الفلسطينيين جهوداً غير عادية مع الجانب المصري تكللت بحل الإشكالية والحصول على تنسيق لي بالسفر مجدداً لكن إدارة المعبر كان لها رأي آخر ومنعتني من السفر.الذريعة هذه المرة كانت مثيرة للضحك والاستغراب في آن. فقد وصلني أن السيد غازي حمد منعني من السفر حرصاً منه على مصلحتي، بعد اتصال تلقاه من مسئول في المخابرات المصرية بأنه سيتم اعتقالي من قبل أمن الدولة بمجرد وصولي الصالة المصرية !!!!. وبعد أن تبين لي زيغ وبطلان هذه الذريعة من حقي أن أتساءل: لمصلحة من يتم ترهيب المواطنين؟؟. أيام المعاناة على المعبر اقتلعت الرغبة في السفر من نفسي، ولم أكن في وارد المحاولة من جديد إلى أن تتبدل سياسة الضابط الهمام "هذه طريقتنا إذا عاجبك"، فغزة بلدي وأنت موظف تتلقى راتباً من أجل خدمتي ولن أكون يوماً عبداً أنت سيده، فزمن العبيد ولى وعجلة الزمن في حراك دائم، ولو دامت السلطة لغيرك ما وصلت إليك...ولولا أنني تلقيت وعداً بالسفر بكرامة من زميل عزيز بذل جهوداً غير عادية من أجل سفري لما سافرت.
في طريق العودة.. الوجوه غير الوجوه، ولأمانة الرواية أقول أن الأداء والمعاملة على النقيض بالإيجاب، فربما يكفي العائد إلى غزة ما ينتظره من معاناة...
في طريق العودة.. الوجوه غير الوجوه، ولأمانة الرواية أقول أن الأداء والمعاملة على النقيض بالإيجاب، فربما يكفي العائد إلى غزة ما ينتظره من معاناة...