kolonagaza7
د. إبراهيم علوش
منذ عقود، وثمة شبحٌ يجول في العقل السياسي الفلسطيني هو شبح "الدولة الفلسطينية". فمن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى رأسها حركة فتح، إلى حركة حماس، مروراً بالعديد من الشخصيات الوطنية المستقلة والمناضلين والمفكرين الموالين والمعارضين، بات ذلك الشبح يسيطر على العقول والأفئدة، وباتوا يستدعونه عبثاً لعله ينتقل من الأذهان إلى الأبدان، ولعله يحل بينهم أخيراً على شكل "دولة"، دولة فلسطينية مثل أية دولة في العالم، لا أقل، سوى أن كيانه الهلامي بقي سراباً سياسياً يقود كل المسيرة السياسية للعمل الوطني الفلسطيني إلى صحراء مقفرة لا رجاء فيها ولا دولة ولا من يحزنون، وهم ما برحوا يضربون في المندل، وعلى الدف والأبواب، وليس من مجيب. فالواقع هو واقع احتلال. والاحتلال يستلزم مشروع تحرير، والتحرير يتطلب إستراتيجيةً أخرى لا موضع فيها للأوهام، ولا تعلق بكرم الإمبرياليين والصهيونيين.وقد تم تدشين مشروع الوهم المسمى دولة رسمياً في برنامج النقاط العشر الذيتبناه المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة في القاهرة في 8/6/1974 علىخلفية مفاوضات جنيف التي ظنت قيادة م.ت.ف وقتها أنها ستنتج حلاً سياسياً للقضيةالفلسطينية.
ومن هنا بدأ تكريس الانحراف على شكل قرارات للمجلس الوطني، بعدما كان حكراً على بعض قيادات فتح والجبهةالديموقراطية لتحرير فلسطين.
وبمناسبة خطاب خالد مشعل في دمشق في 25/6/2009 الذي اعترف فيه رسمياً ببرنامج الدولة الفلسطينية رداً على خطاب أوباما في القاهرة، والذي يبدو أن البعض ظن أيضاً أنه فاتحة حل سياسي للقضية الفلسطينية، كتبت في النقاط العشر ما يلي:
برنامج النقاط العشر لعام 1974 في الواقع يمثل بالمقارنة سقفاً سياسياًأعلى بكثير من مشروع الدولة الفلسطينية الذي باتت تتبناه حماس رسمياً للأسف، بعدما كان يُقال سابقاً بأنه مجرد تكتيك. وإليكم مقتطفات منه يستطيع كل من يرغب أن يعود للنص الأصلي للنقاط العشر على الإنترنت وغيره ليتأكد منها ومن سياقها:
تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة عل كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها...
تناضل منظمة التحرير ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنةوالتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وتقرير مصيره فوق ترابهالوطني… إن أية خطوة تحريرية تتم هي حلقة لمتابعة تحقيق إستراتيجية منظمة التحريرفي إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المنصوص عليها في قرارات المجالسالوطنية السابقة...”.
وبالرغم من الحديث الوارد في النقاط العشر عن التحرير والكفاح المسلح ورفض الاعتراف بالكيان كثمن للكيان الفلسطيني، وبالرغم من اعتبار ما ورد “خطوة” على طريق الدولة الفلسطينية "المنصوص عليها” سابقاً، أي على كامل فلسطين، فإن التنازل المبدئي المهم والجديدفيها كان الحديث عن قبول تأسيس “سلطة وطنية” فلسطينية على جزء من فلسطين، والحديثعن تقرير المصير للشعب الفلسطيني “فوق ترابه الوطني”، وليس على كل ترابه الوطنيمثلاً، ثم أن الجديد الذي تم البناء عليه لاحقاً كان تكريس فكرة “المرحلية”،واستبدال هدف التحرير بهدف الدولة.
وفي النقطة الأولى من النقاط العشر تم رفض القرار 242 لأنه “يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين” فحسب، وليس لأنه يعترف بالكيان الصهيوني مثلاً، كما أن ديباجة النقاط العشر التي تقدم لها وتبررها تبنيها على أن عملية التسوية تحركت بفعل حرب تشرين عام 1973، وكما جاء نصاً: “كان من نتائج حرب تشرين أن تحركت قضية الشرق الأوسط على الصعيد الدولي بعد أن كانت تمر قبل ذلك بحالة ركود اصطلح تسميتها ” حالة اللاحرب واللاسلم” وصدر عن مجلس الأمن القرار رقم 338 في 22/11/1973 الذي جاء يؤكد القرار رقم 242″، وبالتالي فإن م.ت.ف هيالممثل الشرعي الوحيد ولا يحق لأحد أن يتفاوض بالنيابة عنها… إذن السياقالسياسي لطرح النقاط العشر كان سياقاً تسووياً، ومحاولة قيادة م.ت.ف وضع موطئ قدملها على طاولة الحلول السياسية، ولم يكن أبداً سياق تحرير على مراحل أو بلا مراحلكما ما برح يُقال ذراً للرماد في الأعين.
المهم بالنسبة لنا ليس تقييم النقاط العشر التي تجاوزها واضعوها إلى ما هو أدنى منها بكثير، بل الصيرورة وعملية التحول التي أسست لها النقاط العشر ببرنامج “المرحلية” والدولة، فكما تتحول الشرنقة إلى فراشة، والبذرة إلى نبتة، لا يمكن للنهج المرحلي إلا أن يطلق آلية يتجاوز بها ذاته إلى أسفل سافلين في صيرورة معاكسة لقانون نفي النفي، نحو الاختفاء، بدلاً من الارتقاء،ما دامت القدم قد بدأت تنزلق، لينبثق عباس من رحم عرفات، ولينبثق عبد ربه من رحمحواتمة، كنتيجة موضوعية للخط السياسي التسووي، وليعمل عباس وفياض على شطب حركة فتح بعدما لعبت دور القابلة القانونية لولادة السلطة… فالصيرورة هنا هي الأساس وكيفيةتحول الإنسان التسووي بالضرورة من عميل بالقوة إلى عميل بالفعل.
وهذه الرؤية ليست للمزايدة على أحد، بل لتقييم مسار تاريخي نضجت نواته التسووية حتى سقطت وتعفنت أمام أعيننا جميعاً دون أن تعود علينا إلا بالمزيد من الخراب. وهذه الطريق سبق أن سار عليها الجمع، فلماذا نجرب ما تم تجريبه من قبل؟!
)انتهى المقتطف(
وعودة إلى ما يسمى "استحقاق أيلول"، الذي ترفضه حماس، ونرفضهمثلها كما يرفضه كثيرون، والذي ينبني بدوره على تلويح أوباما قبل عام، أي في أيلول2010، في خطاب له في الأمم المتحدة، أن تتأسس دولة فلسطينية في أيلول، نقول أن الوهمالذي أفضى إليه هو خط سياسي ومنهج وعقلية، لا مجرد تكيتك، وقد بدأ رسمياً بتبنيبرنامج النقاط العشر، وكبر منذ عام 1974 حتى جاء عام 1988 عندما تم إعلان"الدولة الفلسطينية" الأول في 15/11/1988 في دورة المجلس الوطنيالفلسطيني التاسعة عشرة في الجزائر ليصل إلى توقيع اتفاقية أوسلو في 13 أيلول عام93، وفي كل مرة كان وهم الدولة يكبر، وكانت فلسطين تتقلص. وفي أوسلو تم القبول بحكم ذاتي محدود الصلاحيات على شذرات من فلسطين، باسم وهم الدولة أيضاً. وهي دولة غير موجودة إلا على الورق طبعاً، طبل لها البعض وزمروا حتى تعبواوناموا، والأرض ما برحت محتلة، والكيان الصهيوني يزداد تجذراً فيها. وتحتغلاف إعلان الاستقلال الوهمي، تم تمرير الاعتراف بالقرار 242 وقرارات الشرعيةالدولية المتخلية عن 78% من فلسطين، وبعد خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة تمتمطالبته بإدانة "الإرهاب" ومحاربته، فعقد مؤتمراً صحفياً وفعل.
ومنذ تلك اللحظة بدأ رسمياً تبني نهج التشكيك بالعمل المسلح الذي انتهى إلىعهد التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية للحد الأقصى في ظل محمود عباس وسلامفياض، حتى أن الصحف الصهيونية نقلت في 16/9/2011 عن عاموس جلعاد، رئيس الدائرة السياسية والأمنية في وزارة الأمن "الإسرائيلي" قوله: "رفض محمود عباس ورئيس وزرائه سلام فياض لظاهرة العنف ضد إسرائيل هو ما جلب لنا الأمان، فهما يحاربان حركة حماس والتنظيمات الأخرى لأنهما يعلمان جيداً أن التنظيمات الفلسطينية من الممكن أن تحطم وتقضي على السلطة الفلسطينية، بالإضافة لإعدام احتمالات السلام مع إسرائيل"... أي أنالعمل المسلح، حسب هذه الرؤية، يمكن أن يقضي على برنامج "الدولة"، فكممن التنازلات والخطوات ارتكبت باسم تلك "الدولة"، لعل أخطرها علىالإطلاق كان التخلي عن 78% من فلسطين، والاعتراف بالكيان الصهيوني، في "إعلانالاستقلال" عام 88 الذي كتبه محمود درويش.ويرى الكاتب أحمد السعدي في ورقة له في 25/7/2011 حول ما يسمى"استحقاق أيلول" أن الاستحقاق المذكور سيقود إلى نتيجة محددة. فإذا كان "إعلان الاستقلال" عام 88 قد أدى إلى التفريط بمعظم فلسطين، والاعتراف بمشروعية وجود الكيان الصهيوني،والتمهيد للتعاون الأمني، فإن "إعلان الدولة" للمرة الثانية سيؤدي، منأجل عيون الدولة، إلى التفريط بقضايا الحل النهائي مثل اللاجئين والقدس والحدودوالمستعمرات والمياه... والقضية قضية أولويات. فإذا كان مخدر "الدولة" السياسي لم يعد من الممكن الاستغناء عنه، فإن ذلك يعني بالضرورة الاستعداد للتفريط بكل شيء من أجل تلك"الدولة".
ولا يهم طبعاً إعلان الدولة مرة أو مئة مرة أو ما إذا كانت ستسمى"دولة" أو حتى "إمبراطورية فلسطين". المهم هو ميزان القوى والوقائع العنيدة علىالأرض. وكما ذكر أحد المواقع الصهيونيةعلى الإنترنت في مقالة بالإنكليزية بعنوان "مخاطر الاعتراف المبكر بدولةفلسطينية": حسب الاتفاقات الموجودة،فإن السلطة الفلسطينية تمارس درجات متنوعة من السيطرة على مناطق صغيرة من الضفة،كما أن اتفاقيات عام 95، الملحقة بأوسلو، تمنع السلوك المنفرد من أي من الطرفينلتغيير وضعية الضفة وغزة.
وبالرغم من ذلك، فإن الكيان الصهيوني ماضٍ في تهويد القدس ومصادرة الأراضيوبناء الجدار، الخ... فيما السلطة ملتزمة بكل ما نصت عليه الاتفاقيات المعقودةمعها من تعاون أمني. وبما أنها الطرفالأضعف، فإنها من سيحاسب على السعي لتغيير وضع الضفة من خلال "سلوك منفرد"في الأمم المتحدة.
وبالمناسبة، ليس الخلاف على إعلان الدولة أو حتى على إقامة دولة، فالساسةالصهاينة يتفق أغلبيتهم على تأسيس دولة فلسطينية. حتى اليمين الصهيوني تبنى فكرة تأسيس دولة فلسطينية. وقد بدأ ذلك مع أرييل شارون في 16/10/2001، حينأعلن موافقته على تأسيس دولة فلسطينية بشروط صارمة بعدما قبل بها جورج بوش، الرئيسالأمريكي السابق. وفي مؤتمر صحفي فيالعقبة جمعه مع جورج بوش ومحمود عباس، أعلن أرييل شارون تأييده لمطلب الدولةالفلسطينية في 4/6/2003، مع مراعاة مصالح "إسرائيل" الأمنيةبالطبع.
فالدولة الفلسطينية مصلحة "إسرائيلية" لأنها تأتي ضمن اعترافبالكيان، وتعاون أمني معه، ولأنها ستحول الصراع من صراع وجود إلى نزاع حدودي، ومنمشروع تحرر من الاحتلال إلى جسر للعبور للمحيط العربي، كما نص الملحق الرابع،الاقتصادي، من اتفاقية أوسلو، ولأن الدولة تعني أن العودة، إذا تمت، تكون إليها،وليس إلى المدن والقرى التي هجر من اللاجئون. والدولة تعني أن القضية الفلسطينية قد حلت، مما يعطي الكيان الصهيوني مشروعية عربية ودولية ناقصة حتى الآن، كما أن وجود دولةفلسطينية قد يصبح مبرراً للمطالبة بالاعتراف بيهودية الدولة الصهيونية، مما يحملأخطاراً كبيراً على شعبنا في ال48. كماأن الدولة التي تأتي ضمن ميزان القوى الحالي ستكون بلا سيادة وصلاحيات، وستكون فيقبضة الكيان الصهيوني تماماً، فهو يسيطر على هوائها ومائها ومعابرها وتجارتها، ولايستطيع أي مسؤول من السلطة الفلسطينية حالياً، بالرغم من كل مظاهر الدولة الشكلية،أن ينتقل من مدينة إلى مدينة ضمن الضفة الغربية دون أخذ إذن من الاحتلال. فما يجري الحديث عنه هنا ليس دولة، بل مهزلة.
لكن، إذا كان الأمر كذلك حقاً، لماذا يرفضها الكيان الصهيوني إذن، ويسعىجاهداً لإحباط الجهد الدبلوماسي للسلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة؟ والجواب على هذه النقطة لا يكون بأن الكيان الصهيوني يرفض وجود دولة فلسطينية، خاصة أنها يسيطر تماماً على شروط إخراجها إلى حيز الوجود. الجواب يكمن في أن الكيان الصهيوني يرفض أن يفرض عليه شيء بتاتاً، حتى لو كان تحت سقفه الأدنى. فلا يجوز للسلطة التي تعبت من التسويف أنتتجاوز طاولة المفاوضات للتوجه مباشرة، من فوق رأس الكيان، إلى الأممالمتحدة. فإذا تعلم العرب أن يفعلوا ذلك، فإن ذلك يفتح باباً خطيراً من المطالبات لا يقبله اليهودي كتاجر ومرابي منذ فجر التاريخ، ولا يقبله ساسة الكيان الصهيوني لأن الطرف الأخر عليه أن يتعلم أنه يتسول فحسب، ولا يفاوض، ولا يملك أوراقاً أصلاً. والكيان الصهيوني يتعامل باستعلاء وعنجهية لأن ذلك جزء من الثقافة التوراتية التي تعكس ثقافة اليهودي العملي، فهو يريد أن يفاوض وهو يوسع المستعمرات، ويعلي الجدار، ويهدم المنازل، ويقتلع الأشجار، دون أن يسأله أحدٌ لماذا. فجوهر المشكلة في التوجه للأمم المتحدة ليست"الدولة"، بل القفز من فوق رأس الكيان... ولعل هذا من حسن حظنا. فالخطورة الحقيقية تأتي من ساسة صهاينة مرنون قادرون على تجاوز الاستعلاء والصلف والعنصرية، ساسة قادرون على ابتزاز كل شيء من المفاوضين العرب والفلسطينيين بقليل من التنازلات، سوى أن هذا الكيان لا يريد أن يقدم أي تنازلات.
بالرغم من ذلك فإن الباحث القانوني الفلسطيني في جامعة أريزونا الأمريكيةمحمد رياض يقول أن التوجه للأمم المتحدة لم يحدث بعد، وبأن ما يجري لا يعدو عنكونه مسرحية إعلامية. فحسب أكثر من مقالةكتبها محمد رياض، فإن إقرار عضوية دولة في الأمم المتحدة تقتضي في البداية التوجهللسكرتارية العامة للأمم المتحدة بطلب عضوية، وتحول السكرتارية العامة ذلك الطلبلمجلس الأمن عبر اللجنة القانونية، فإذا وافق عليه تسعة أعضاء في مجلس الأمن منأصل خمسة عشر عضوا، وإذا لم يتعرض للنقض من أيٍ من الأعضاء الدائمين، فإن الطلبيحول للجمعية العامة التي يجب أن تقره بأغلبية الثلثين.
فهل تلعب السلطة بقصة طلب العضوية من أجل تحسين الشروط التفاوضية مع الكيانالصهيوني؟ ليس هذا مهماً في الواقع،فالخسائر من جهتنا في الحالتين، سواء سارت السلطة ب"المعركةالدبلوماسية" حتى النهاية أو لم تسر، وخسائرنا ستكون أكبر لو اعترف الكيانالصهيوني بالدولة الفلسطينية مما لو لم يعترف، لأن التنازلات الإستراتيجيةوالمبدئية والتاريخية التي تعرضها السلطة مقابل "الدولة"، خاصة فيمايسمى "قضايا الحل النهائي"، أكبر بكثير من أي "استقلال"مزعوم.
أخيراً، يزعم البعض أن قبول السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة ولو كدولةغير عضو في الهيئة العامة سيتيح للسلطة أن تقاضي الكيان الصهيوني أمام المحكمةالجنائية الدولية. لكن هذا هراء ما بعدههراء. فالكيان الصهيوني ليس عضواً فيالمحكمة الجنائية الدولية، وكدولة غير عضو، لا يمكن رفع أيه قضية ضده في تلكالمحكمة إلا إذا تم تحويلها إليها من مجلس الأمن الدولي الذي تتمتع فيه الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا بحق النقض. واقتبس هنا من مقالة نشرتها عام 2008 عن تحويل ملف الرئيس السوداني عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية: ما يغفله من يقولونأن السودان لم يوقع على معاهدة روما، وبالتالي أنه غير ملزَم بالمحكمة الجنائيةالدولية وقراراتها، والرجاء الانتباه جيداً هنا، أن البند الثالث عشر من معاهدةروما يقول أن مجلس الأمن الدولي من حقه أن يحول قضايا للمحكمة الجنائية الدوليةحيث لا تمتلك المحكمة الجنائية الدولية ولاية قانونية.وقد مارس مجلس الأمن هذه الصلاحية بالفعل في آذار/ مارس 2005، عندما حولملف دارفور كمجلس أمن دولي إلى المحكمة الجنائية الدولية، حيث لم تكن تستطيعالمحكمة الجنائية الدولية التدخل في شأن دارفور مباشرة بدون قرار من مجلس الأمنلأن السودان لم يوقع على معاهدة روما. فتدخلالمحكمة الجنائية الدولية في قضية دارفور يتم بغطاء قانوني وسياسي من مجلس الأمنأصلاً... إذن اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية ضد الكيان الصهيوني مرهون بحق النقضللدول العظمى في مجلس الأمن، والعبرة واضحة...لكن ماذا عن محكمة العدل الدولية؟ وهي أحد أذرع الأمم المتحدة التي تضم تحت جناحها ممثلين عن الدول الأعضاء فيها؟ الجواب على هذا أيضاً أن ولاية محكمة العدل الدولية، حسب الباحث محمد رياض، تقتصر على الدول التي تعترف بسلطتها،والكيان الصهيوني لا يعترف بالولاية الجبرية لمحكمة العدل الدولية، فإذا تم تحويلأية قضية لمحكمة العدل الدولية بعد ذلك، فإن ذلك يكون لإبداء رأي استشاري غيرملزم، تماما كما حدث في حالة الرأي غير الملزم الذي أبدته محكمة العدل الدولية فيقضية الجدار العازل عام 2004.
وعلى كل حال، أحارب منذ سنوات أوهام العمل الدبلوماسي والقانوني والإعلاميالدولي كبديل عما هو أهم: مشروع التحرير القائم على عروبة فلسطين كلها والذين لايتم إلا بالكفاح الشعبي العربي المسلح، لكنني ذكرت النقاط أعلاه لإظهار مدى خواءقصة إعلان الدولة حتى على صعيد قانوني. وفي الخلاصة نقول أن هذه المسرحية تعبير عن أزمة المشروع السياسي للدولةالفلسطينية برمته، وأن هذه الخطوة ستكون أكثر خطراً علينا لو مرت مما لو لم تمر،لأن تحقيقها يتطلب تنازلات في مجال قضايا الحل النهائي مثل القدس واللاجئينوالحدود والمستعمرات والسيادة والمياه تعمق وتكرس التنازلات التي سبق أن قدمت فيمجال الاعتراف بالكيان الصهيوني وحقه في الوجود والتعاون الأمني ضد المقاومةالفلسطينية.
منذ عقود، وثمة شبحٌ يجول في العقل السياسي الفلسطيني هو شبح "الدولة الفلسطينية". فمن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى رأسها حركة فتح، إلى حركة حماس، مروراً بالعديد من الشخصيات الوطنية المستقلة والمناضلين والمفكرين الموالين والمعارضين، بات ذلك الشبح يسيطر على العقول والأفئدة، وباتوا يستدعونه عبثاً لعله ينتقل من الأذهان إلى الأبدان، ولعله يحل بينهم أخيراً على شكل "دولة"، دولة فلسطينية مثل أية دولة في العالم، لا أقل، سوى أن كيانه الهلامي بقي سراباً سياسياً يقود كل المسيرة السياسية للعمل الوطني الفلسطيني إلى صحراء مقفرة لا رجاء فيها ولا دولة ولا من يحزنون، وهم ما برحوا يضربون في المندل، وعلى الدف والأبواب، وليس من مجيب. فالواقع هو واقع احتلال. والاحتلال يستلزم مشروع تحرير، والتحرير يتطلب إستراتيجيةً أخرى لا موضع فيها للأوهام، ولا تعلق بكرم الإمبرياليين والصهيونيين.وقد تم تدشين مشروع الوهم المسمى دولة رسمياً في برنامج النقاط العشر الذيتبناه المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة في القاهرة في 8/6/1974 علىخلفية مفاوضات جنيف التي ظنت قيادة م.ت.ف وقتها أنها ستنتج حلاً سياسياً للقضيةالفلسطينية.
ومن هنا بدأ تكريس الانحراف على شكل قرارات للمجلس الوطني، بعدما كان حكراً على بعض قيادات فتح والجبهةالديموقراطية لتحرير فلسطين.
وبمناسبة خطاب خالد مشعل في دمشق في 25/6/2009 الذي اعترف فيه رسمياً ببرنامج الدولة الفلسطينية رداً على خطاب أوباما في القاهرة، والذي يبدو أن البعض ظن أيضاً أنه فاتحة حل سياسي للقضية الفلسطينية، كتبت في النقاط العشر ما يلي:
برنامج النقاط العشر لعام 1974 في الواقع يمثل بالمقارنة سقفاً سياسياًأعلى بكثير من مشروع الدولة الفلسطينية الذي باتت تتبناه حماس رسمياً للأسف، بعدما كان يُقال سابقاً بأنه مجرد تكتيك. وإليكم مقتطفات منه يستطيع كل من يرغب أن يعود للنص الأصلي للنقاط العشر على الإنترنت وغيره ليتأكد منها ومن سياقها:
تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة عل كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها...
تناضل منظمة التحرير ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنةوالتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وتقرير مصيره فوق ترابهالوطني… إن أية خطوة تحريرية تتم هي حلقة لمتابعة تحقيق إستراتيجية منظمة التحريرفي إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المنصوص عليها في قرارات المجالسالوطنية السابقة...”.
وبالرغم من الحديث الوارد في النقاط العشر عن التحرير والكفاح المسلح ورفض الاعتراف بالكيان كثمن للكيان الفلسطيني، وبالرغم من اعتبار ما ورد “خطوة” على طريق الدولة الفلسطينية "المنصوص عليها” سابقاً، أي على كامل فلسطين، فإن التنازل المبدئي المهم والجديدفيها كان الحديث عن قبول تأسيس “سلطة وطنية” فلسطينية على جزء من فلسطين، والحديثعن تقرير المصير للشعب الفلسطيني “فوق ترابه الوطني”، وليس على كل ترابه الوطنيمثلاً، ثم أن الجديد الذي تم البناء عليه لاحقاً كان تكريس فكرة “المرحلية”،واستبدال هدف التحرير بهدف الدولة.
وفي النقطة الأولى من النقاط العشر تم رفض القرار 242 لأنه “يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين” فحسب، وليس لأنه يعترف بالكيان الصهيوني مثلاً، كما أن ديباجة النقاط العشر التي تقدم لها وتبررها تبنيها على أن عملية التسوية تحركت بفعل حرب تشرين عام 1973، وكما جاء نصاً: “كان من نتائج حرب تشرين أن تحركت قضية الشرق الأوسط على الصعيد الدولي بعد أن كانت تمر قبل ذلك بحالة ركود اصطلح تسميتها ” حالة اللاحرب واللاسلم” وصدر عن مجلس الأمن القرار رقم 338 في 22/11/1973 الذي جاء يؤكد القرار رقم 242″، وبالتالي فإن م.ت.ف هيالممثل الشرعي الوحيد ولا يحق لأحد أن يتفاوض بالنيابة عنها… إذن السياقالسياسي لطرح النقاط العشر كان سياقاً تسووياً، ومحاولة قيادة م.ت.ف وضع موطئ قدملها على طاولة الحلول السياسية، ولم يكن أبداً سياق تحرير على مراحل أو بلا مراحلكما ما برح يُقال ذراً للرماد في الأعين.
المهم بالنسبة لنا ليس تقييم النقاط العشر التي تجاوزها واضعوها إلى ما هو أدنى منها بكثير، بل الصيرورة وعملية التحول التي أسست لها النقاط العشر ببرنامج “المرحلية” والدولة، فكما تتحول الشرنقة إلى فراشة، والبذرة إلى نبتة، لا يمكن للنهج المرحلي إلا أن يطلق آلية يتجاوز بها ذاته إلى أسفل سافلين في صيرورة معاكسة لقانون نفي النفي، نحو الاختفاء، بدلاً من الارتقاء،ما دامت القدم قد بدأت تنزلق، لينبثق عباس من رحم عرفات، ولينبثق عبد ربه من رحمحواتمة، كنتيجة موضوعية للخط السياسي التسووي، وليعمل عباس وفياض على شطب حركة فتح بعدما لعبت دور القابلة القانونية لولادة السلطة… فالصيرورة هنا هي الأساس وكيفيةتحول الإنسان التسووي بالضرورة من عميل بالقوة إلى عميل بالفعل.
وهذه الرؤية ليست للمزايدة على أحد، بل لتقييم مسار تاريخي نضجت نواته التسووية حتى سقطت وتعفنت أمام أعيننا جميعاً دون أن تعود علينا إلا بالمزيد من الخراب. وهذه الطريق سبق أن سار عليها الجمع، فلماذا نجرب ما تم تجريبه من قبل؟!
)انتهى المقتطف(
وعودة إلى ما يسمى "استحقاق أيلول"، الذي ترفضه حماس، ونرفضهمثلها كما يرفضه كثيرون، والذي ينبني بدوره على تلويح أوباما قبل عام، أي في أيلول2010، في خطاب له في الأمم المتحدة، أن تتأسس دولة فلسطينية في أيلول، نقول أن الوهمالذي أفضى إليه هو خط سياسي ومنهج وعقلية، لا مجرد تكيتك، وقد بدأ رسمياً بتبنيبرنامج النقاط العشر، وكبر منذ عام 1974 حتى جاء عام 1988 عندما تم إعلان"الدولة الفلسطينية" الأول في 15/11/1988 في دورة المجلس الوطنيالفلسطيني التاسعة عشرة في الجزائر ليصل إلى توقيع اتفاقية أوسلو في 13 أيلول عام93، وفي كل مرة كان وهم الدولة يكبر، وكانت فلسطين تتقلص. وفي أوسلو تم القبول بحكم ذاتي محدود الصلاحيات على شذرات من فلسطين، باسم وهم الدولة أيضاً. وهي دولة غير موجودة إلا على الورق طبعاً، طبل لها البعض وزمروا حتى تعبواوناموا، والأرض ما برحت محتلة، والكيان الصهيوني يزداد تجذراً فيها. وتحتغلاف إعلان الاستقلال الوهمي، تم تمرير الاعتراف بالقرار 242 وقرارات الشرعيةالدولية المتخلية عن 78% من فلسطين، وبعد خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة تمتمطالبته بإدانة "الإرهاب" ومحاربته، فعقد مؤتمراً صحفياً وفعل.
ومنذ تلك اللحظة بدأ رسمياً تبني نهج التشكيك بالعمل المسلح الذي انتهى إلىعهد التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية للحد الأقصى في ظل محمود عباس وسلامفياض، حتى أن الصحف الصهيونية نقلت في 16/9/2011 عن عاموس جلعاد، رئيس الدائرة السياسية والأمنية في وزارة الأمن "الإسرائيلي" قوله: "رفض محمود عباس ورئيس وزرائه سلام فياض لظاهرة العنف ضد إسرائيل هو ما جلب لنا الأمان، فهما يحاربان حركة حماس والتنظيمات الأخرى لأنهما يعلمان جيداً أن التنظيمات الفلسطينية من الممكن أن تحطم وتقضي على السلطة الفلسطينية، بالإضافة لإعدام احتمالات السلام مع إسرائيل"... أي أنالعمل المسلح، حسب هذه الرؤية، يمكن أن يقضي على برنامج "الدولة"، فكممن التنازلات والخطوات ارتكبت باسم تلك "الدولة"، لعل أخطرها علىالإطلاق كان التخلي عن 78% من فلسطين، والاعتراف بالكيان الصهيوني، في "إعلانالاستقلال" عام 88 الذي كتبه محمود درويش.ويرى الكاتب أحمد السعدي في ورقة له في 25/7/2011 حول ما يسمى"استحقاق أيلول" أن الاستحقاق المذكور سيقود إلى نتيجة محددة. فإذا كان "إعلان الاستقلال" عام 88 قد أدى إلى التفريط بمعظم فلسطين، والاعتراف بمشروعية وجود الكيان الصهيوني،والتمهيد للتعاون الأمني، فإن "إعلان الدولة" للمرة الثانية سيؤدي، منأجل عيون الدولة، إلى التفريط بقضايا الحل النهائي مثل اللاجئين والقدس والحدودوالمستعمرات والمياه... والقضية قضية أولويات. فإذا كان مخدر "الدولة" السياسي لم يعد من الممكن الاستغناء عنه، فإن ذلك يعني بالضرورة الاستعداد للتفريط بكل شيء من أجل تلك"الدولة".
ولا يهم طبعاً إعلان الدولة مرة أو مئة مرة أو ما إذا كانت ستسمى"دولة" أو حتى "إمبراطورية فلسطين". المهم هو ميزان القوى والوقائع العنيدة علىالأرض. وكما ذكر أحد المواقع الصهيونيةعلى الإنترنت في مقالة بالإنكليزية بعنوان "مخاطر الاعتراف المبكر بدولةفلسطينية": حسب الاتفاقات الموجودة،فإن السلطة الفلسطينية تمارس درجات متنوعة من السيطرة على مناطق صغيرة من الضفة،كما أن اتفاقيات عام 95، الملحقة بأوسلو، تمنع السلوك المنفرد من أي من الطرفينلتغيير وضعية الضفة وغزة.
وبالرغم من ذلك، فإن الكيان الصهيوني ماضٍ في تهويد القدس ومصادرة الأراضيوبناء الجدار، الخ... فيما السلطة ملتزمة بكل ما نصت عليه الاتفاقيات المعقودةمعها من تعاون أمني. وبما أنها الطرفالأضعف، فإنها من سيحاسب على السعي لتغيير وضع الضفة من خلال "سلوك منفرد"في الأمم المتحدة.
وبالمناسبة، ليس الخلاف على إعلان الدولة أو حتى على إقامة دولة، فالساسةالصهاينة يتفق أغلبيتهم على تأسيس دولة فلسطينية. حتى اليمين الصهيوني تبنى فكرة تأسيس دولة فلسطينية. وقد بدأ ذلك مع أرييل شارون في 16/10/2001، حينأعلن موافقته على تأسيس دولة فلسطينية بشروط صارمة بعدما قبل بها جورج بوش، الرئيسالأمريكي السابق. وفي مؤتمر صحفي فيالعقبة جمعه مع جورج بوش ومحمود عباس، أعلن أرييل شارون تأييده لمطلب الدولةالفلسطينية في 4/6/2003، مع مراعاة مصالح "إسرائيل" الأمنيةبالطبع.
فالدولة الفلسطينية مصلحة "إسرائيلية" لأنها تأتي ضمن اعترافبالكيان، وتعاون أمني معه، ولأنها ستحول الصراع من صراع وجود إلى نزاع حدودي، ومنمشروع تحرر من الاحتلال إلى جسر للعبور للمحيط العربي، كما نص الملحق الرابع،الاقتصادي، من اتفاقية أوسلو، ولأن الدولة تعني أن العودة، إذا تمت، تكون إليها،وليس إلى المدن والقرى التي هجر من اللاجئون. والدولة تعني أن القضية الفلسطينية قد حلت، مما يعطي الكيان الصهيوني مشروعية عربية ودولية ناقصة حتى الآن، كما أن وجود دولةفلسطينية قد يصبح مبرراً للمطالبة بالاعتراف بيهودية الدولة الصهيونية، مما يحملأخطاراً كبيراً على شعبنا في ال48. كماأن الدولة التي تأتي ضمن ميزان القوى الحالي ستكون بلا سيادة وصلاحيات، وستكون فيقبضة الكيان الصهيوني تماماً، فهو يسيطر على هوائها ومائها ومعابرها وتجارتها، ولايستطيع أي مسؤول من السلطة الفلسطينية حالياً، بالرغم من كل مظاهر الدولة الشكلية،أن ينتقل من مدينة إلى مدينة ضمن الضفة الغربية دون أخذ إذن من الاحتلال. فما يجري الحديث عنه هنا ليس دولة، بل مهزلة.
لكن، إذا كان الأمر كذلك حقاً، لماذا يرفضها الكيان الصهيوني إذن، ويسعىجاهداً لإحباط الجهد الدبلوماسي للسلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة؟ والجواب على هذه النقطة لا يكون بأن الكيان الصهيوني يرفض وجود دولة فلسطينية، خاصة أنها يسيطر تماماً على شروط إخراجها إلى حيز الوجود. الجواب يكمن في أن الكيان الصهيوني يرفض أن يفرض عليه شيء بتاتاً، حتى لو كان تحت سقفه الأدنى. فلا يجوز للسلطة التي تعبت من التسويف أنتتجاوز طاولة المفاوضات للتوجه مباشرة، من فوق رأس الكيان، إلى الأممالمتحدة. فإذا تعلم العرب أن يفعلوا ذلك، فإن ذلك يفتح باباً خطيراً من المطالبات لا يقبله اليهودي كتاجر ومرابي منذ فجر التاريخ، ولا يقبله ساسة الكيان الصهيوني لأن الطرف الأخر عليه أن يتعلم أنه يتسول فحسب، ولا يفاوض، ولا يملك أوراقاً أصلاً. والكيان الصهيوني يتعامل باستعلاء وعنجهية لأن ذلك جزء من الثقافة التوراتية التي تعكس ثقافة اليهودي العملي، فهو يريد أن يفاوض وهو يوسع المستعمرات، ويعلي الجدار، ويهدم المنازل، ويقتلع الأشجار، دون أن يسأله أحدٌ لماذا. فجوهر المشكلة في التوجه للأمم المتحدة ليست"الدولة"، بل القفز من فوق رأس الكيان... ولعل هذا من حسن حظنا. فالخطورة الحقيقية تأتي من ساسة صهاينة مرنون قادرون على تجاوز الاستعلاء والصلف والعنصرية، ساسة قادرون على ابتزاز كل شيء من المفاوضين العرب والفلسطينيين بقليل من التنازلات، سوى أن هذا الكيان لا يريد أن يقدم أي تنازلات.
بالرغم من ذلك فإن الباحث القانوني الفلسطيني في جامعة أريزونا الأمريكيةمحمد رياض يقول أن التوجه للأمم المتحدة لم يحدث بعد، وبأن ما يجري لا يعدو عنكونه مسرحية إعلامية. فحسب أكثر من مقالةكتبها محمد رياض، فإن إقرار عضوية دولة في الأمم المتحدة تقتضي في البداية التوجهللسكرتارية العامة للأمم المتحدة بطلب عضوية، وتحول السكرتارية العامة ذلك الطلبلمجلس الأمن عبر اللجنة القانونية، فإذا وافق عليه تسعة أعضاء في مجلس الأمن منأصل خمسة عشر عضوا، وإذا لم يتعرض للنقض من أيٍ من الأعضاء الدائمين، فإن الطلبيحول للجمعية العامة التي يجب أن تقره بأغلبية الثلثين.
فهل تلعب السلطة بقصة طلب العضوية من أجل تحسين الشروط التفاوضية مع الكيانالصهيوني؟ ليس هذا مهماً في الواقع،فالخسائر من جهتنا في الحالتين، سواء سارت السلطة ب"المعركةالدبلوماسية" حتى النهاية أو لم تسر، وخسائرنا ستكون أكبر لو اعترف الكيانالصهيوني بالدولة الفلسطينية مما لو لم يعترف، لأن التنازلات الإستراتيجيةوالمبدئية والتاريخية التي تعرضها السلطة مقابل "الدولة"، خاصة فيمايسمى "قضايا الحل النهائي"، أكبر بكثير من أي "استقلال"مزعوم.
أخيراً، يزعم البعض أن قبول السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة ولو كدولةغير عضو في الهيئة العامة سيتيح للسلطة أن تقاضي الكيان الصهيوني أمام المحكمةالجنائية الدولية. لكن هذا هراء ما بعدههراء. فالكيان الصهيوني ليس عضواً فيالمحكمة الجنائية الدولية، وكدولة غير عضو، لا يمكن رفع أيه قضية ضده في تلكالمحكمة إلا إذا تم تحويلها إليها من مجلس الأمن الدولي الذي تتمتع فيه الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا بحق النقض. واقتبس هنا من مقالة نشرتها عام 2008 عن تحويل ملف الرئيس السوداني عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية: ما يغفله من يقولونأن السودان لم يوقع على معاهدة روما، وبالتالي أنه غير ملزَم بالمحكمة الجنائيةالدولية وقراراتها، والرجاء الانتباه جيداً هنا، أن البند الثالث عشر من معاهدةروما يقول أن مجلس الأمن الدولي من حقه أن يحول قضايا للمحكمة الجنائية الدوليةحيث لا تمتلك المحكمة الجنائية الدولية ولاية قانونية.وقد مارس مجلس الأمن هذه الصلاحية بالفعل في آذار/ مارس 2005، عندما حولملف دارفور كمجلس أمن دولي إلى المحكمة الجنائية الدولية، حيث لم تكن تستطيعالمحكمة الجنائية الدولية التدخل في شأن دارفور مباشرة بدون قرار من مجلس الأمنلأن السودان لم يوقع على معاهدة روما. فتدخلالمحكمة الجنائية الدولية في قضية دارفور يتم بغطاء قانوني وسياسي من مجلس الأمنأصلاً... إذن اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية ضد الكيان الصهيوني مرهون بحق النقضللدول العظمى في مجلس الأمن، والعبرة واضحة...لكن ماذا عن محكمة العدل الدولية؟ وهي أحد أذرع الأمم المتحدة التي تضم تحت جناحها ممثلين عن الدول الأعضاء فيها؟ الجواب على هذا أيضاً أن ولاية محكمة العدل الدولية، حسب الباحث محمد رياض، تقتصر على الدول التي تعترف بسلطتها،والكيان الصهيوني لا يعترف بالولاية الجبرية لمحكمة العدل الدولية، فإذا تم تحويلأية قضية لمحكمة العدل الدولية بعد ذلك، فإن ذلك يكون لإبداء رأي استشاري غيرملزم، تماما كما حدث في حالة الرأي غير الملزم الذي أبدته محكمة العدل الدولية فيقضية الجدار العازل عام 2004.
وعلى كل حال، أحارب منذ سنوات أوهام العمل الدبلوماسي والقانوني والإعلاميالدولي كبديل عما هو أهم: مشروع التحرير القائم على عروبة فلسطين كلها والذين لايتم إلا بالكفاح الشعبي العربي المسلح، لكنني ذكرت النقاط أعلاه لإظهار مدى خواءقصة إعلان الدولة حتى على صعيد قانوني. وفي الخلاصة نقول أن هذه المسرحية تعبير عن أزمة المشروع السياسي للدولةالفلسطينية برمته، وأن هذه الخطوة ستكون أكثر خطراً علينا لو مرت مما لو لم تمر،لأن تحقيقها يتطلب تنازلات في مجال قضايا الحل النهائي مثل القدس واللاجئينوالحدود والمستعمرات والسيادة والمياه تعمق وتكرس التنازلات التي سبق أن قدمت فيمجال الاعتراف بالكيان الصهيوني وحقه في الوجود والتعاون الأمني ضد المقاومةالفلسطينية.