الثلاثاء، 20 ديسمبر 2011

التغليب بين قواعد العزة والوحدة والعدل-منير شفيق



kolonagaza7


من بين القواعد الأساسية ذات الأبعاد العقدية والاجتماعية والسياسية في الإسلام قاعدة العدالة الاجتماعية والعدل السياسي وقاعدة وحدة الأمة، وقاعدة عزة الأمّة إلى جانب عدد من القواعد الأساسية الأخرى إذ لا حاجة إلى الوقوف عندها من أجل التركيز على القواعد الثلاث المذكورة ويمكن اعتبارها أربع قواعد إذا أفردنا للعدل السياسي قاعدة خاصة به.
العدل بين الناس والحكم بالقسط يشملان الجوانب الاقتصادية والمعيشية كما يشملان حقوق الإنسان وحق الشعب في اختيار الحاكم. وذلك حيثما اقتضى الأمر أن يكون ثمة عدل ومساواة. وكل هذا نقيض للطغيان والظلم والاستبداد والفساد وحرمان الناس من حقهم في العمل والعيش الكريم وتكافؤ الفرص، كما هو نقيض للقهر والإذلال والتعذيب.
وقاعدة وحدة الأمّة تشمل ما يربط الأمّة من وحدة عقيدة ووحدة سياسية ووحدة كلمة وهي نقيض للتجزئة والانقسامات، وإقامة الحدود السياسية أو الحدود من أي لون كانت في ما بين الشعوب الإسلامية كما هي نقيض للحروب الأهلية والفتن وكل ما من شأنه أن يذهب بريح الأمّة مثل التنازع.
أما قاعدة عزة الأمّة فهي الحفاظ عليها سيدة مستقلة تملك إرادتها فلا تخضع لقوّة خارجية أو تسمح بغزو بلادها، أو بالسيطرة الخارجية على مقدّراتها وثرواتها وحكامها وأراضيها. وهي نقيض لموالاة الغزاة أعداء الأمّة من أي لون كانوا. على أن اجتماع هذه القواعد معاً، وفي آن واحد، لم يحدث في التاريخ الإسلامي إلاّ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ومرحلة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم وحالات متفرّقة قليلة إذا ما قيست في الأزمان التي غابت فيها بهذا القدر أو ذاك قاعدتا العدالة الاجتماعية والعدل السياسي لحساب وحدة الأمّة وعزتها. وكذلك مرّت أزمان غابت فيها الوحدة الشاملة للأمّة لحساب كيانات كبيرة موحدّة حققت قاعدة العزة إلى حدّ بعيد. من هنا اضطر الفقه الإسلامي أن يُفاضل بين هذه القواعد حين عزّ اجتماعها في آن واحد. فالفقه السني، مثلاً، مال إلى تغليب وحدة الأمّة وعزتها حين قام الحكم الأموي الذي أخلّ، بهذا القدر أو ذاك، بقاعدتيْ العدالة الاجتماعية والعدل السياسي فأقام حكم الغلب والملك العضوض. ولم يكن هذا التغليب من جانب الفقهاء إسقاطاً أو تخليّاً من حيث المبدأ والشرع عن قاعدتيْ العدالة الاجتماعية والعدل السياسي. ومن هنا مُيّزت خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه واعتبرت من الخلافة الراشدة حين اقتربت من الجمع في ما بين القواعد الأربع إلى حدّ بعيد (دائماً إلى حدّ بعيد لأن مسألة العدل تظل نسبية).
فالعدل الكامل لا يكون إلاّ في الجنة. أما على الأرض فالتدافع والسعي الحثيث باتجاه العدالة الاجتماعية والعدل السياسي من دون بلوغ الحدّ الأسمى لأن («الإنسان ليطغى»).
في المقابل ركز الفقه الشيعي على عنصر الإمامة وما يتولّد عنها من عدل. ولم يغلّب حكم الغلب أو الملك العضوض حين عزّ تحقيق الحكم الراشد العادل سواء أكان عن رضى وتوافق أو عن قوّة وثورة. ولكن الإمامة هنا غير نابعة من الاختيار والتوافق على البيعة، وإنما من الوصية.
يجب أن يُؤكد أن تناول مختلف الاجتهادات الفقهية المتعلقة بهذه القواعد والقضايا حين يعزّ اجتماعها، بسبب حكم السيف والغلب، لا يمكن حصره بالأمثلة الواردة أعلاه سواء أكان بالنسبة إلى الفقه السني أم كان بالنسبة إلى الفقه الشيعي. لأن التاريخ كان دائماً يحتكم إلى التدافع والغلب واختلاف الأحوال والحالات.
هذه الإشكالية (التدافع والغلب) واجهت التنظير السياسي في الغرب بعد الثورتين الأميركية والفرنسية ومن قبلهما ثورة كرمويل وما بعدها. وقد راحت تواجه بلدان العالم الثالث ولا سيما الإسلامية والعربية منها في مرحلة دولة الاستقلال التي نشأت على أنقاض السيطرة الاستعمارية وفي ظل موازين قوى عالمية فرضت عليها أن تتشكل على أسس قومية على المستوى الإسلامي غير العربي (تركيا، إيران، أندونيسيا مثلاً) وعلى أسس قطرية على المستوى العربي الذي جُزِّئ إلى 22 قطراً.
لو اتخذنا الحالة العربية نموذجاً لا سيما خلال العشر سنوات الأخيرة لوجدنا أنفسنا أمام دول خلت من القواعد الأربع مجتمعة إذ وقعت تحت الهيمنة الإمبريالية بالرغم من عَلَم الاستقلال. فالعزة هنا مفقودة بسبب تلك الهيمنة، والإرادة في ظل حالة القطرية والتجزئة اخترقت قاعدة وحدة الأمّة بفظاظة أشدّ، أما قاعدتا العدالة الاجتماعية والعدل السياسي فقد انتهكتا بأشد مما انتهكتا طوال التاريخ الإسلامي تقريباً. ووصل الأمر ببعضها في العشر سنوات الماضية إلى حدّ الارتهان شبه الكامل لأميركا والعولمة (الأجندة الاقتصادية المفروضة عليها من الغرب والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، والتفريط في القضية الفلسطينية إلى حد التواطؤ مع الكيان الصهيوني في عدد من القضايا والسياسات حتى مواجهة حربيْ 2006 على لبنان و2008/2009 على قطاع غزة.
بالنسبة إلى هذه الحالة من الدول لم تكن ثمة حاجة إلى الانقسام على أساس التفضيل في ما بين القواعد الأربع المذكورة.
ولكن هذا الانقسام برز في حالة الدول التي تبنت أنظمتها، ولو بنسب متفاوتة، سياسات استقلالية وتحرّرية وصدمت بالهيمنة الخارجية الإمبريالية والسياسات الصهيونية في فلسطين وخارجها، ولكنها افتقرت إلى القواعد الثلاث الأخرى وحدة الأمّة، والعدالة الاجتماعية، والعدل السياسي.
موضوع قاعدة وحدة الأمّة غاب حتى من أن يتحوّل إلى قضيّة صراع وانقسامات وذلك بسبب الوقوع في براثن القطرية على المستوى العُلمائي الفقهي كما على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وهذه نقيصة مشتركة عموماً، ولا يجب أن يُستسلم لها أو يُسمح بإسقاطها من التداول والخلافيات بسبب سيادة الاتجاه لتغييبها، أو إبقاء وحدة الأمّة على اللسان شكلياً.
الانقسام احتدّ في موقعين، بصورة خاصة، وهما العراق وسورية. ففي العراق غلّب الفكر السياسي الشيعي العدل على الاستقلال والسياسات المناهضة لأميركا والكيان الصهيوني إلى حدّ وصل ببعضه إلى التحالف علناً مع العدوان الأميركي واحتلال العراق من أجل الخلاص من الاستبداد وما ارتكب من مجازر ومظالم. وقد أخلّ بذلك بقاعدة عدم موالاة أعداء الإسلام.
أما في المقابل فكان هنالك اتجاه واسع من قوى قومية وإسلامية سنيّة وقفت ضدّ العدوان والاحتلال وما نشأ من وضع بعد الاحتلال فغلّبت العزة والعدل على قاعدتيْ الوحدة وعدم التنازع.
الأمر نفسه انتقل إلى سورية الآن ولكن بتبادل المواقع بين الفكر السياسي السني والشيعي. فمن جانب الأولى راح يغلّب العدل والعدالة على «العزة» واحتضان المقاومة ومواجهة السياسات الأميركية والصهيونية فيما انتقل الجانب الثاني إلى تغليب جانب العزة على العدالة الاجتماعية والعدل السياسي بين المواطنين.
هذه المفارقة في تبادل المواقع في ما بين هذين التيارين في موضوعيْ العراق وسورية يفترض بها أن تُضعف، لا أن تلغي ما اعتبر في التاريخ خلافاً مبدئياً أو خلافاً يقوم على المبدأ والعقيدة في ما يتعلق بالتعامل مع هذه القواعد الأربع التي لا خلاف حولها حين تجتمع في آن واحد. وذلك لأن الخلاف يقع حين يُصار إلى ضرورة الترجيح والتفضيل في الموقف السياسي والعملي منها في هذه الحالة أو تلك.

مشاركة مميزة