kolonagaza7
بقلم /
حبيب هنا
إن ما
يدفعني للكتابة في هذا الوقت بالذات ، ليس فقط مناسبة يوم الأسير الفلسطيني ،ولا
كذلك إضراب المعتقلين عن الطعام ،بل وكذلك الإصرار المتواصل لدى الباحث في شؤون
الأسرى الأسير السابق عبد الناصر فروانه ، الذي لا يترك مناسبة دون التوقف عندها
للحديث عن الأسرى ومتابعة قضاياهم لدرجة أشعرت المعتقلين أن هناك من يتابع وجودهم
المؤقت داخل سجون الاحتلال في أدق التفاصيل بغية توثيق كل حالة وبالتالي فضح
الاحتلال والسعي تجاه تدويل قضيتهم للحصول على مزيد من التعاطف معهم والدفاع عنهم
بغرض صياغة رأي عام مؤثر لدى الدول التي نشطت فيها الحركة الصهيونية مستغلة في ذلك
ضحايا النازية للحصول على الدعم المادي عند نشأتها وضمان المساندة الدائمة في
المحافل الدولية عند الضرورة ،وهي بالتالي تستطيع التأثير على الاحتلال بشكل عملي
في حال افتضاح أمر أفعاله ، هذا أولاً ، وثانياً ، شعوري بأحقية الكتابة منه عن
القائد أحمد سعدات الذي اقتسمت معه المأكل والملبس والمسكن في منتصف السبعينيات من
القرن الماضي ، عندما انتقل من سجون الضفة الغربية إلى سجن بئر السبع ، وبالتالي
عرفته عن قرب منذ بدايات العمل الوطني الذي استحق أن يكون أحد رواده الأوائل ،بهذا
المعنى ، أنا مدان لعبد الناصر فروانه جراء مسحه الغبار وإيقاظ الذاكرة
.
* *
*
أحمد سعدات
في سجن بئر السبع غرفة 2 قسم (أ ) يحوطه الرفاق وفي عيونهم توق لسؤال لا ينقطع هم
المنقطعون عن العالم الخارجي منذ إنشاء السجن الصحراوي الذي أريد له أن يكون
معزولاً تماماً ، يجلد السجناء بسياط حرارته صيفاً ويخر إلى قاع عظامهم في الشتاء
برداً . وكان سعدات الشاب الفتي مخزوناً لا ينضب من المعرفة وشمولية الثقافة ،
وكلما تحدث حط على رؤوسنا الطير ، متحدث لبق قادر على فرض شروط الاستماع علينا
وقبولها بصمت مترقبين فيض المعلومات الذي يتدفق في حديثه
..
بعد أيام
قليلة فوجئنا بإصدار كراسه الأول عن تجربة عمل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في
الضفة الغربية على المستوى الحزبي ، تجربة ناضجة نابضة بالحياة قابلة لإعادة النظر
حسب المعطيات وملائمة مع ظروف العمل السري وتشكيل نواة العمل المسلح القادر على
الاستمرارية في كل الأحوال والظروف وبما ينسجم مع مكونات الحياة اليومية للجماهير
وضرورة المحافظة عليها بغية تعزيز صمودها وتوفير الحد الأدنى لرفد الجبهة الشعبية
بالدماء الجديدة . غير أنه لم يتطرق إلى مفاصل العمل السري خشية أن تتسرب هذه
الوثيقة إلى الاحتلال مكتوبة بخط يده وهو الذي تعرض لأصناف مختلفة من التعذيب بغرض
الإفصاح عنها .
على أية
حال، قرأنا هذا الكراس بلهفة العطش في صحراء النقب، ناقشناه نقاشاً جاداً يرقى
لمستوى التجربة التي عكفنا على دراستها منذ السماح للسجناء التزود بالكتب، لاسيما
وأننا كنا قد وصلنا مرحلة متقدمة من فهم الحياة الحزبية وبالتالي واظبنا على عقد
مؤتمراتنا الدورية بانتظام لدرجة أصطلح فيها على تسمية غرفة 2 قسم (أ) في تلك
الفترة ب(كومونة باريس) وبالتالي شكلت لاحقاً مدرسة حزبية عن
جدارة.
أسابيع لا
تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة حتى صدر كراسه الثاني عن الحياة الثقافية وتفاعلاتها
داخل المجتمع، فيه ألقى الضوء على العديد من الفرق المسرحية التي تشكلت في الضفة
الغربية والأراضي المحتلة عام 1948، ودور هذه الفرق في نشر الوعي الوطني وطبيعة
العلاقة مع الجبهة ودورها في خلق حركة جماهيرية فاعلة ومتفاعلة مع الأحداث في مختلف
مدن الضفة الغربية وفلسطينيي ال 48،وبعيداً عن ذكر أسماء هذه الفرق لابد من الإشارة
إلى نهوض وطني مميز برز في تلك الفترة مع تقديم العديد من العروض المسرحية التي
احتلت عن جدارة مكان الصدارة من اهتمامات الجماهير وبالتالي استقطبت الجبهة من
خلالها أوسع القطاعات وانضم إلى صفوفها العديد من الأعضاء والأصدقاء والأنصار وباتت
الجبهة تعول كثيراً على حاضنتها الطبيعية الكفيلة بحمايتها
وتواصلها.
هذا الحراك
لم نكن على دراية كافية به، غير أنه بفضل الرفيق سعدات تعرفنا عليه، وغدا محل
اهتمام العديد من الرفاق الذين أوشكوا على إنهاء محكومياتهم والإفراج عنهم
قريباً.
في هذه
الأجواء، كان الرفيق سعدات الهادئ الرزين يشق طريقه نحو القمة، بات محل أنظار جميع
الرفاق وهو المتفاعل إيجابا مع الجميع، في وقت كان فيه العديد من الرفاق يحاولون
استقطاع جزء ضئيل من وقته لأجل الإفادة من كنز المعلومات الذي يمتلكه،من المخزون
الهائل المتجدد الذي لا ينضب ، بغرض تحصين أنفسهم بتجارب الآخرين ومعرفة أي شيء عن
كل شيء ، باعتبار أنهم سيحتاجون له يوماً إذا ما أرادوا الانخراط في الحياة
السياسية ومفاعيلها .
بعد أشهر
قليلة تم عقد المؤتمر الدوري للجبهة في سجن بئر السبع حصد فيه سعدات أعلى الأصوات
ليصبح واحداً من القادة الثلاثة الذين يقع على عاتقهم قيادة العمل اليومي لمنظمة
السجن ، غير أنه لم يكن كالبقية الباقية التي تبوأت هذا الموقع عبر المراحل
المختلفة ، قلة فقط هم الذين يعرفون أن سعدات واحداً من القادة الثلاثة
.
لقد حافظ
على سرية العمل حتى عندما كان شبه علني رافضاً أن يلفت الأنظار إليه مثل غالبية
قيادة العمل الوطني الذين كانوا أعلاماً للجميع وبالتالي يتم عزلهم من قبل إدارة
السجن عند أية مواجهة بغية تحسين شروط الاعتقال.
هذا هو
الرفيق سعدات، قائد متميز لا يرى في المظاهر سوى تغطية فشل يعاني منه أصحابه، بل
وفي أحيانٍ كثيرة يؤدي إلى كارثة تنظيمية كان من الممكن تجنبها قبل أن تقود إلى عمل
طائش سرعان ما تتكشف مفاصله، الأمر الذي كان دوماً يحذر منه داعياً إلى السرية في
العمل مهما كانت مبررات العلنية.
وبعد، انتقل
سعدات إلى سجون الضفة الغربية متنقلاً فيما بينها. كانت إدارة السجن تدرك خطورته،
فملف التحقيق عند الاعتقال كان يسبقه إلى السجن الذي ينقل إليه وبالتالي اتخذت
إدارة السجون العامة قرارها بعدم الاستقرار وتوفير أية فرصة له بإقامة علاقات حميمة
مع بعض الرفاق لئلا ينعكس ذلك على تشكيل نواة خلايا تتواصل فيما بينها بعد انتهاء
مدة محكوميتهم ، لاسيما وأن جهاز المخابرات العامة يدرك تماماً مدى خطورته بعد أن
اختبرته في التحقيق وأوصى بعدم استقراره. فرفيقه أحمد الخواجا فضل الاستشهاد أثناء
التحقيق على أن يعترف بكلمة واحدة تؤدي إلى المساس بالجبهة الشعبية، فكان له ذلك،
وكان من الممكن أن يتعرض سعدات لنفس المصير إن واصل المحققون الضغط عليه لانتزاع
المعلومات إلا أن الضجة التي واكبت استشهاد الخواجا حالت دون تعريض سعدات لنفس
المصير، الأمر الذي كانت جريرته الملاحقة في كافة السجون التي ينقل إليها بغية عدم
توفير الاستقرار وبالتالي حرمانه من أبسط الحقوق.
***
بعد ثلاثة
عقود تقريباً التقيته بالصدفة في مدينة رام الله كان لقاءً حميمياً بحضور رفيق آخر.
تحدثنا في أمور كثيرة، عن السجن، عن غزة، عن رام الله، عن أمور سياسية متنوعة، سألت
كثيراً كي أتعرف على المدى الذي وصل إليه هذا الموسوعي الذي بهرني بكم المعلومات
التي يمتلكها قبل ما يزيد عن ثلاثة عقود، وكان يعرف إلى ما أهدف من وراء أسئلتي،
ورغم ذلك كان يجيب بهدوء رزين بعيداً عن الاستعراض المعرفي غير أنه مقنع تماماً
وينفذ إلى العقل مباشرة دون وساطة التكرار والتأكيد وبذل الجهد في الإقناع. فقلت:
إنك لم تتغير يا أبا غسان إلا من حيث الشكل وقدرة الربط بين القضايا المختلفة بمنطق
قوي ومتين لا يمتلكه الكثير من المحللين السياسيين ،بل ولا يستطيعوا بلوغه
.
هنا بالضبط
سأل ثالثنا بعد أن تعرف على علاقتنا القديمة في السجن: هل تقوم بصباغة شعرك؟ ضحكت
وأنا أنظر إلى شعر أبي غسان المكسو بالبياض أنا الذي لم يكن يعرف الشيب طريقاً
لشعري في تلك الفترة، ثم قلت: لا، لم أصبغه يا رفيق ولكنني لا أحمل هموم الوطن على
كتفيّ بالقدر الذي يحمله أبو غسان حتى يملأ البياض
رأسي!
تحياتي لك
أبا غسان أنت ورفاقك في الأسر وقريباً سيكون لقاؤنا الثالث .