الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

المفاوضات المباشرة.. ارتكاس عربي وصعود إسرائيلي

kolonagaza7
مؤمن بسيسو
فتح قرار لجنة المتابعة العربية القاضي بمنح الرئيس محمود عباس والسلطة الفلسطينية الضوء الأخضر للانتقال إلى المفاوضات المباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي، بوابة واسعة من الارتكاس الفلسطيني والعربي الرسمي تعود بأفدح الضرر على حقوق الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وتمنح كيان الاحتلال فرصة تاريخية لاستثمار خطير في مناحي البطش والعدوان والاستهداف المنظم على حقوق ومقدرات الفلسطينيين واستكمال مخططات التهويد والتهجير التي ينتظر أن تبلغ آفاقا غير متوقعة في المرحلة المقبلة.
ولئن حاولت السلطة الفلسطينية إلقاء الكرة في الملعب العربي الرسمي، وإلباس قرار عودتها إلى المفاوضات المباشرة لبوسا عربيا رسميا، فإن القاصي والداني يدرك أن استئناف المفاوضات تحصيل حاصل، وأن المناورات السياسية والإعلامية التي اجترحتها السلطة بين يدي عودتها إلى المفاوضات استهدفت تخفيف وقع الحرج الذي ولغت فيه أمام شعبها، وتغطية عجزها السياسي وارتهانها للإرادة والإملاءات الأميركية والأوروبية بغطاء خارجي.
وداعا للحقوق الفلسطينية
أول الأخطار التي حملها قرار العودة إلى المفاوضات المباشرة أصاب الحقوق الوطنية الفلسطينية في العمق والصميم، وجعل إمكانية تحصيل أو إبرام اتفاق تسوية يلبي أو يقارب الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية أمرا مستحيلا بكل المقاييس.
لم يجنِ الفلسطينيون شيئا طيلة ما يقارب عقدين من العمل التفاوضي الماراثوني، وحتى حكومة أولمرت المنصرمة التي بلغت فيها المفاوضات السرية نقاطا حاسمة حول العديد من القضايا الأساسية والجوهرية، تنصلت من التزاماتها ومسؤولياتها وتراجعت عن كل ما اتفقت عليه مع السلطة الفلسطينية، ولم تبدِ أي استعداد لإبرام أية صفقة تسوية -مهما كانت ظالمة أو مجحفة- تمنح فيها شيئا من إدارة الأرض للفلسطينيين.
لاحقا عاشت إسرائيل تحت حكم نتنياهو المتطرف الذي أسفر عن وجهه السياسي الكالح، وشكل ائتلافا يمينيا لا يؤمن مطلقا بالحق الفلسطيني، ويرى في تسمين المستوطنات وتهويد القدس ومحو معالمها الفلسطينية والعربية والإسلامية وتهجير أهلها، واجبا صهيونيا مقدسا لا يمكن التنازل عنه بأي حال من الأحوال.
مضت أشهر طوال في ظل عهد نتنياهو لم يبدر عن حكومته خلالها أي تنازل ولو كان شكليا، بل إن تجميد الاستيطان الذي أعلنه نتنياهو في مناطق الضفة الغربية جاء مفرغا من مضمونه، ومستثنيا مدينة القدس وما حولها، ولم يراع في ذلك موقفا أميركيا ولا أوروبيا رافضا.
بل إن حكومته بالغت في عربدتها واستخفافها بالمجتمع الدولي ولم تجد حرجا في الإعلان عن بناء الوحدات السكنية في المستوطنات لحظة استضافة كبار القادة والمسؤولين الذين تربطهم بإٍسرائيل علاقات تحالف وطيدة ومميزة.
وإذا استحضرنا الموقف الإسرائيلي القريب الذي رفض حتى مجرد تقديم اعتذار لتركيا عقب جريمة الاعتداء على أسطول الحرية رغم علاقات التحالف الوثيقة -سياسيا وعسكريا- التي تربط البلدين، فإننا وقتئذ نستطيع الجزم بأن الحقوق الفلسطينية قد أضحت في ظل المفاوضات المباشرة في خبر كان، وأن حكومة نتنياهو ذات البرنامج السياسي الواضح والصريح لن تكون في وارد التعاطي مع أي مطلب فلسطيني، أو الاستجابة لأية رغبة أميركية لتحقيق أي إنجاز تفاوضي كان، أو أي شكل من أشكال التقدم في إطار المسيرة التفاوضية ولو كان صوريا للزوم دعم الموقف والسياسة الخارجية الأميركية في إطار التحديات التي تواجهها في بؤر المواجهة الخارجية.
سقوط السلطة ومشروعها الوطني
يشكل قرار العودة إلى المفاوضات المباشرة سقوطا مدويا للسلطة الفلسطينية ونهاية متوقعة لمشروعها الوطني.
صحيح أن السلطة انخرطت في مسار المفاوضات منذ وقت طويل، ومرت بمفاصل ومنعطفات حساسة، إلا أن المرحلة الراهنة تختلف اختلافا جذريا وتبدو فيها القضايا والمواقف أكثر حسما وأشد جلاء من أي وقت مضى.
تعيش السلطة اليوم وضعا كارثيا بكل معنى الكلمة، فهي مجبرة على العودة إلى مفاوضات صورية ذات مرام وأهداف خطيرة، في نفس الوقت الذي تمارس فيه تعاونا أمنيا واسعا وعميقا مع الاحتلال، أقل نتائجه استئصال المقاومة في الضفة الغربية والزج بالمقاومين في غياهب السجون.
ثمة تقديرات وطنية واسعة للغاية تكاد تقترب من الإجماع على أن وجود السلطة أضحى عبئا كبيرا على القضية الفلسطينية، وأنها تؤدي دورا وظيفيا خادما للاحتلال، وترتبط عضويا ومصيريا بوجود الاحتلال ومصيره، ولا يمكنها أن تخرج عن إطار دورها الوظيفي المرسوم في إطار الاتفاقيات الإسرائيلية الفلسطينية التي جرت برعاية إقليمية ودولية كاملة.
قد لا تكون هذه التقديرات جديدة وكانت سائدة بشكل واضح فيما مضى، لكن دائرة المؤمنين بها بلغت اليوم حدا كبيرا جدا، وغزت حتى قناعات الكثير من أبناء حركة فتح وأنصار الدفاع التقليدي عن السلطة ومشروعها السياسي والوطني.
ولم يكن يخفف وقعها سابقا سوى الروح الوطنية للرئيس الراحل ياسر عرفات ومحاولته الخروج عن الإطار الوظيفي المفروض، وهو ما انتهى لاحقا باغتياله وتمهيد الطريق أمام محمود عباس صاحب النهج السياسي المعروف خليفة له.
اليوم، تبدو السلطة أوضح ما تكون ارتباطا وتبعية للاحتلال، وأبعد ما تكون عن المشروع الوطني ومصلحة الوطن والقضية، فهي لا تقدم للفلسطينيين من خدمات سوى خدمات ذات طابع اقتصادي ومعيشي مقابل ارتكاس وطني وسياسي يجسده الانبطاح السياسي الحاصل، والتعاون الأمني المستفحل، مما ينذر بتحول القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني وصراع مع الاحتلال إلى قضية اقتصادية إنسانية معيشية لا غير.
شرعنة الانحطاط الفلسطيني الرسمي
لا تبدو الأمور على المستوى العربي الرسمي طبيعية على الإطلاق، فحال التردي والضعف العربي المعهود تحول إلى واقع مُخز تنخره أشكال التواطؤ، وتحكمه معاني الهزيمة والتقهقر والانحدار.
الحال العربي لم يعد كما كان، فقد بات النظام العربي جزءا من منظومة دولية ذات نسق معروف، وتكاد لا تجد من أصحاب النخوة والمروءة في العرب الرسميين إلا القليل القليل.
منذ فترة تخلت معظم الأنظمة العربية عن مسؤولياتها القومية والتاريخية تجاه فلسطين والقضية الفلسطينية، ونفضت يدها من أية تبعات أو مترتبات تجاه الفلسطينيين، وتحول دورها من ظاهرة صوتية تتقن الشجب والاستنكار إلى ظاهرة تواطؤ وتآمر مفضوحة لا تدرك لنصرة الفلسطينيين وقضيتهم العادلة سبيلا، وتعمد إلى خنقهم وحصار مشروعهم التحرري بكل الوسائل والأساليب.
تجلت الظاهرة التآمرية العربية الرسمية على الفلسطينيين في الأعوام الأخيرة التي أعقبت الانتخابات التشريعية مطلع العام 2006 التي فازت فيها حماس بشكل ساحق ومدوّ، لنشهد فصولا متتابعة من التآزر العربي الرسمي في حصار التجربة الديمقراطية الفلسطينية الناشئة، ورسم المخططات السياسية والاقتصادية الكفيلة بإفشال تجربة حماس وإجهاض مشروعها الجديد الذي يلامس أرضية الحكم والقيادة للمرة الأولى.
في إطار المخططات السياسية مارست الأنظمة دورا ضاغطا على السلطة الفلسطينية، وبالإضافة إلى الضغط الأميركي والأوروبي لعبت مصر دور عرّاب الضغوط الممارسة على السلطة عربيا، في حين تبلور دور الجامعة العربية في منح السلطة الضوء الأخضر للسير قدما في المبادرات والطروح السياسية الخاصة بالقضية الفلسطينية، وشرعنة طلباتها وتوجهاتها وقراراتها، وإلباسها لبوسا عربيا شرعيا يخرج السلطة من دائرة حرجها المتفاقم أمام سطوة الرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي.
وبالرغم من أن لجنة المتابعة العربية المُشكّلة من وزراء الخارجية العرب أعطت المفاوضات غير المباشرة مهلة أربعة أشهر لتحقيق نتائج مرضية فإنها تجاهلت موقفها السابق، وأقرت الانتقال إلى المفاوضات المباشرة بشكل عبثي رغم فشل المفاوضات غير المباشرة في تحقيق أي إنجاز أو اختراق تفاوضي أيا كان.
كل ذلك يضع الموقف العربي الرسمي في إطار وظيفي خادم للإرادة والتوجهات الأميركية، ولا يتعدى منح الشرعية الزائفة للارتكاس السلطوي الفلسطيني بعيدا عن أي موقف متوازن أو دور مشرف.
استثمار إسرائيلي خطير
لا يعني قرار استئناف المفاوضات المباشرة سوى غطاء مثالي للكيان الإسرائيلي لممارسة كل المخططات العدوانية والإجراءات العنصرية في المرحلة المقبلة.
وبوسع أي محلل صغير في علم السياسة أن يدرك أن الهدف الإسرائيلي من وراء الانتقال إلى المفاوضات المباشرة هو الرغبة الجامحة في استدعاء الغطاء الذي يستر الحلقات المتقدمة للمخطط الإسرائيلي الخطير الذي أعدّ خصيصا لحسم تهويد القدس، وقضم مساحات واسعة من أرض الضفة الغربية لصالح الكتل الاستيطانية الضخمة، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى ملحق إداري وأمني للاحتلال، والفكاك من "عقدة" غزة المزمنة عبر ضربها عسكريا أو تدجينها سياسيا وإلقاء مسؤوليتها في حضن المجتمع الدولي.
ولن تكون المفاوضات المباشرة التي تكثر فيها الاجتماعات والحوارات والمصافحات والابتسامات إلا الفرصة الأكثر مثالية لتوظيف هذه المخططات في إطار عملي ونقلها إلى حيز التنفيذ، خصوصا أن المراحل الأولى من هذه المخططات قد تم تنفيذها بنجاح، ومن الصعب أن تجترح إسرائيل خطوة نوعية إضافية في هذا المضمار دون تغطية مناسبة.
وهكذا قد لا يمر وقت طويل عقب استئناف المفاوضات المباشرة التي يجري الآن البحث في موعد عقدها، حتى تبدأ إسرائيل في إنفاذ حلقات مخططاتها، متسلحة بقوة دفع إقليمية ودولية كبيرة.
وحينها فإن المعالجات ذات العلاقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي لن تكون نفس المعالجات السابقة، وستأخذ طابعا أكثر انحيازا ومحاباة لصالح الاحتلال أكثر من ذي قبل.
في استقراء واقع ما بعد استئناف المفاوضات المباشرة المنتظر، ستصبح إسرائيل أقل التزاما بالقيود والمحددات التي حكمتها طيلة المرحلة الماضية، وأكثر توجها نحو تصفية حساباتها مع أعدائها، وأشد إيغالا في برنامج استيطانها وعدوانها، وأكثر سرعة في حسم ملفاتها السياسية والعسكرية.
قد يكون من الخطأ الاعتقاد بأن يد حكومة الاحتلال ستكون طليقة بشكل كامل دون ضوابط في ظل سريان حالة المفاوضات المباشرة، إذ إن هناك عوامل ومحددات وحسابات تلعب دورا في تحديد مسار واتجاهات السياسة الإسرائيلية وصناعة القرار الإسرائيلي في مجالاته السياسية والعسكرية.
لكنّ الثابت أن السياسة الإسرائيلية ستغدو أكثر تحررا وانفلاتا من ذي قبل، وأن الحسابات الإسرائيلية ستصبح أكثر مرونة في إطار تفاعلها مع مفردات الواقع السياسي والميداني، ولن تكتسي بالجمود الذي ران عليها إبان المرحلة الماضية.
بدت المؤشرات الأولى الخاصة بالاستثمار الإسرائيلي لقرار استئناف المفاوضات على الجبهة الإسرائيلية اللبنانية والجبهة الحدودية مع قطاع غزة.
على الجبهة الأولى، تسببت إسرائيل في إحداث توتر حدودي مقصود لخلط الأوراق وإرباك الساحة اللبنانية الداخلية، وربما استهدف جس نبض الجيش اللبناني وقياس رد فعل حزب الله على الحادثة، مما يستوجب الاستعداد لكل احتمالات التصعيد الإسرائيلي خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة، رغم أن التقديرات الراهنة تشير إلى الركون إلى أجواء الاستقرار المشوب بالحذر ولا تنبئ بمواجهة قاسية أو كبرى بين الطرفين.
أما على الجبهة الثانية، فقد تصاعدت الأوضاع بشكل واضح إثر الصاروخ الذي أطلق على مدينة عسقلان مؤخرا، وما تلاه من غارات واغتيالات كسرت حدة الهدوء التقليدي الذي ميز الأوضاع الميدانية في غزة.
وبلغت الأمور حدا خطيرا باتهام نتنياهو حركة حماس بالمسؤولية عن إطلاق صواريخ على مدينة إيلات جنوب إسرائيل، في الوقت الذي اتهمت فيه السلطات المصرية فصائل فلسطينية في غزة بإطلاق الصواريخ من شبه جزيرة سيناء المصرية.
ما يلاحظ في سياق تتبع رد الفعل الإسرائيلي على تساقط الصواريخ الفلسطينية في المرحلة التي أعقبت الحرب على غزة نهاية عام 2008 وبداية 2009 هو أن ردة الفعل الإسرائيلية هذه المرة كانت الأكثر شدة وقسوة من أي وقت مضى، وأن حجم الرد العسكري الميداني والتصعيد السياسي والإعلامي إسرائيليا يؤشر إلى تسخين مبرمج تستحثه إسرائيل ضد حركة حماس في قطاع غزة، توطئة لعمل عسكري ما يتم انتظار اللحظة المواتية والذريعة المناسبة لتنفيذه.
وأغلب الظن أن غزة ستكون على رأس المعالجات العسكرية الإسرائيلية، وما لم يتم ضبط الوضع الميداني ومناطق التماس ومنع إطلاق الصواريخ منها، فإن إسرائيل قد تجد ضالتها المنشودة التي تشعل من خلالها فتيل ضربة عسكرية محسوبة بقيت حبيسة الأدراج منذ انتهاء الحرب الأخيرة، يؤازرها تغطية تفاوضية نموذجية وتعاون إقليمي ودولي صريح.
خلاصة
إن حالة الانهيار الفلسطيني والعربي الرسمي المتسارع إبان المرحلة المقبلة المسقوفة بسقف المفاوضات المباشرة ينبغي أن تخضع لتقييم جدي من لدن دول الممانعة وقوى المقاومة، وترتقي إلى مستوى مواجهة المخطط الإسرائيلي الخطير وآثاره السلبية المتوقعة على الوضع الفلسطيني بشكل خاص والوضع اللبناني والمنطقة العربية بشكل عام، عبر مجموعة من الإجراءات والاحتياطات السياسية والإعلامية والعسكرية والأمنية المضادة.
قد لا تفلح الاحتياطات المتخذة في إحباط المخطط الإسرائيلي بشكل تام، إلا أنها كفيلة بوضع كوابح معقولة تسهم في تفريغه من بعض جوانبه، والعمل على تقليل الخسائر الفلسطينية والعربية إلى الحد الأدنى، وتهيئة الظروف والمناخ لمعادلة صراع أفضل، ومرحلة أقل استعلاء وعربدة وفجورا إسرائيليا.

مشاركة مميزة