الثلاثاء، 9 أغسطس 2011

وغرقت السفينة .. إلا أنا



kolonagaza7

سأدل عليك الذين غطت على قلوبهم قشور الغفلة. وسأجلو لهم الشمس التي طمستها أنامل الإثم، في وقت الانهزام الكامل، والسقوط المُريع. سأمحو ذلك الأثر الباقي في أغوار النفوس، ذلك الأثر العميق الطعنة في صدر الإيمان. سأمحوه حتى يندرس بالكامل، تحت وطأة سنابك معرفتك، تلك المعرفة التي تهب هذا العالم ملحه من الأناشيد، وبهائه ونوره الساحرين.
سأمحوه حتى يتلاشى في فضاء العدم، وحتى تشيعه إلى مقبرة الفناء، صيحات العائدين إليك في أتم ندم، وفي أكبر احتشادٍ لملكوت الأنفس، في ميدان السَحَرْ، حيث تنثال قطرات محبتك على الصدور الجاثمة في محراب البكاء.
وحيث تدنو منا، ومنهم، ومني. وأنت قبل هذا الدنو تتجلى لنا كل الوقت. تتجلى لنا في شعاع الشمس. وفي بهاء القمر. وفي تغريده العندليب. وفي خرير البحر. وفي شموخ الجبال. وفي عصف الرعود. وفي علو السماء عن الأرض. وفي اتساع البسيطة. وفي سكون الليل. وفي انبلاج النهار. وفي ترادف الفصول. فتتجلى لنا في الربيع، حيث القطوف الدانية. وفي الشتاء، حيث المطر المنساب على مرايا الأرواح. وفي الخريف، حيث البكاء الذي يعزف اللحن المعبر عن شدة التوق لمعرفتك. وفي الصيف، حيث نجلس قُبالة البحر ونحن نصغي إليه ليحدثنا عن وشل من أسرار قدرتك التي لا يحدها شيء.
وأنت بعد هذا الدنو أقرب إلينا من حبل الوريد.
فنشعر بك، عندما تدور الأعين لترى، وعندما ينبسط القلب ليشعر، وعندما تطرق الأذن لتسمع، وعندما يتحرك اللسان ليصدر صوتاً، وعندما يكتشف العقل فكرةً كانت خبيئة.
سأدل عليك الحيراى. والمتعبين. والذين تاهوا عن الدرب.
سأفعل ذلك وكلي أناشيد وغبطة وسرور .
وسأفعل ذلك، وأنا خاشع القلب، خاشع الجوارح، خاشع الروح، وخاشع العقل والفؤاد والضمير. ففي لحظة المعرفة الوضيئة، يخشع كل ما في الكون. يخشع بصمت، وينحني بمحبة. ويتلو بين يديك الذين عرفوك، آيات عظمتك، والدموع تبلل القلوب القاسية المتحجرة بسبب الابتعاد عنك. وفي الحال، وبعد هذا المطر الزاحف من سحبان القلوب، يأتي موسم الحصاد، في ربيع الإيمان العريق.
سأنادي لعظمتك. سأهتف لرحمتك. وسأشق راصفاً طريقاً للمعرفة بك ولو كان ترابها من رماد عظامي، ونورها من سنا بصيرتي.
لأني عرفتك، إلهاً عظيماً ورحيماً وكبيرا، ويوم عرفتك آمنت بك.
ويوم عرفتك، نجوت من فتنة الغرق.
فقد غاصت السفينة وأنا على متنها، لقد غرقت بالكامل، غاصت الأشرعة، وغاصت المجاديف، وغاصت المحركات الكهربائية.
وغاصت ما كان عليها من غطاء لجسدي، ومن وسادة لرأسي، ومن سرير أتمدد عليه، ومن مدفئة أستدفئ بها من هبات الرياح القارسة البرودة.
وغاص ما كان في حقيبتي من زاد و شراب و دواء. وغاصت هويتي الشخصية، واسمي فيها الآن: غارق محتضر، لا حي ينبض، وعنواني البحر، لا التربة. وحالتي الاجتماعية متزوج من كريمة الأهوال البحرية الصاعقة، لا من كريمة نبتت ذات يوم حافل بالمعاني الجميلة، يومها نبتت من ضلع أعوج في بدني، فكانت الدهشة، وكان الركض المستمر، عن فردوسي المسلوب، وعن نصفي المفقود .
غاص كل شيء، وغرق في البحر كل شيء، ويأس من النجاة كل ما غرق إلا أنا. يأسوا من الحياة مرتين. ويأسوا من واسع رحمتك إلا أنا . أنا الذي ناديتك وأنا أتطوح تحت تقلبات الأمواج المستوحشة التي فغرت أفواه الموت لتقذفني تحت أنيابه. وما يئست. وما سلمت لها رايتي. لأنني شعرت بك قريباً مني. كنت أقرب الأشياء إليَّ. بل لا شيء كنت أرى. لا أحد. لا نور . لا ظلمة. لا ماضي. لا حاضر. لا مستقبل. لاشيء. ولا أحد إلا أنت.كان نور رحمتك يملأني. يعبأني. يفتح بصيرتي عليك. فأراك بلا بصر. أراك تصغي إليَّ. ولكنني أتذكر. واخجلي.كم أتذكر.كم أتذكر تلك الشرارات المتجمرة في مواقد الذاكرة. فقد عصيتك.كم تعديت حددوك. كم جهلت عظمتك. فأغرق من جديد. ولكن ليس في هذا البحر المضطرب، الهائج، المائج، المستنمر، المستغل ضعفي، وقلة حياتي. بل في بحر آخر. بحرٍ يسطع نوراً . أمواجه من نور. أعماقه من طمأنينة. مياهه من جلال وعظمة. وشاطئه قريب من روحي. وأغرق في هذا البحر، فأرى في الحال، البحر الترابي الغادر، وقد تحول لجثة ملقاة على شاطئ بحر رحمتك، وأراني وقد نجوت من غضبة هذا البحر الغادر. وأراني وقد اندفعت من أعماق تلك الجثة. كأنني مولود جديد. وكأنني لم أذق ملوحة ذلك البحر المتربص بي. ونجوت . نجوت برحمتك ياربي، لأنني لما عرفتك بصدق ناديتك فأجبتني، ولما أجبتني غرقت السفينة وما فيها، وما عليها، إلا أنا .
-------
بقلم : أسامة جمال الدحدوح
كاتب من غزة
Mobile: 0597446141

مشاركة مميزة