الجمعة، 5 أغسطس 2011

المفاهيم القومية في المنهاج التربوي عند ساطع الحصري

kolonagaza7

د. موسى الحسيني
mzalhussaini@btinternet.com
5/8/2011
يمثل ساطع الحصري نموذجاً متفرداً, للسياسي المندفع بقوه واٍيمان في متابعة اهدافه, وباَمال كبيرة لتحقيقها, لكنه في المقابل رفض كل اْشكال العمل السياسي التقليدية والشائعة, كتشكيل اْحزاب او منظمات سياسية اوكتل برلمانية, بل وحتى قبول مناصب سياسية, واختار طريق التربية والتعليم كاداة سياسية لتجسيد اْفكاره ومناهجه, وقد شرح فلسفته هذه في اْحد رسائله التي نشرها رداً على اقتراحات البعثة الامريكية التي استقدمتها الحكومة العراقية لدراسة اْوضاع التربية في العراق او ما عُرف في حينها ب(بعثة مونرو) حيث اكد "ان في كل اْمة فئة منورة مدبرة تتقدم على عوام الناس وتقودهم الى الاْمام, والاْمة التي تتكون من شعب مهذب راق وفئة مدبرة قديرة, تكون اْمة سعيدة, تتقدم في الطريق بخطى ثابتة وسريعة, موضحاً ان نهوض الامم المتاْخرة, لايمكن ان يحدث اٍلا بنهضة تدريجية تبداْ من الفئه المنورة, وتسري بعد ذلك الى سائر طبقات الناس" . ( المذكرات ، ج2،ص:203 )
وباسخدام المصطلحات الحديثة, نجد ان ساطع الحصري يوْمن بدور النخب في عملية التغيرالسياسي- الاجتماعي , لكنه لا يلجاْ الى اْي من اْشكال العمل السياسي لتكوين او تشكيل النخبة المطلوبة لهذه المهمة,كما لم يحاول ان يُؤطر عملها او توجهاتها باٍطار فكري محدد, بل يترك لهذه النخب الحرية الكاملة في ان تختار طريقها واْساليبها في تحقيق عملية التغير, ففي اْجابته لاحد الدارسين لفكره, وقد سأله عن طبيعة نظام الحكم الذي يفضله بعد تحقيق الوحدة, كان راْي الحصري: ان شكل الحكم لا يهمه كثيراً, او انه سيكون من مسوْولية الجيل اللاحق, مشيراً الى ان الوعي يقود بالضرورة الى الالتزام القومي. اْما ما هي اْدواته التي استخدمها, او لجاْ اٍليها لخلق مثل هذه النخب؟
لقد اختار الحصري طريق التربية والتعليم, لخلق جيش من المعلمين, يحملون اْفكاراً وينشرونها في المجتمع, فهم الفئة المتنورة التي اْناط بها القيام بالدورالقيادي في التنوير القومي, وقد لاحظت الباحثة الروسية تيخونوفا سرعة نضج اْفكار الحصري وجهوده التي اْينعت ثمارها, وبرزت اَثارها في نمو الوعي الوطني والقومي في صفوف المعلمين الذين لعبوا دوراً رائداً في الحركة الوطنية والقومية وشاركوا في التظاهرات الجماهيرية عام 1930-1931 ضد دكتاتورية نوري السعيد و اتفاقاته مع الانكليز في تشرين الاول/ اْكتوبر1930, التي ربطت العراق بالتبعية لبرطانيا .الامر الذي نبه سلطات الانتداب البرطاني, والمرتبطين بها, الى قوة ومتانة سياسية الحصري فلجاْت الى اٍغلاق دار المعلمين الاْولية, ثم دار المعلمين الابتدائية, انتقاماً من المعلمين وللحد من تاثيرات ساطع الحصري في بلورة وعي وطني وقومي عربي (تيخونوفا ، ساطع الحصري ، ص:31 ).
ان هذا التصور لدور التربية والتعليم في عملية التغير الاجتماعي والسياسي, يمثل بالنسبة للحصري (السياسة العليا) كما يسميها هو, حيث قسم السياسة الى: السياسة العليا: اْي سياسة التربية الوطنية والقومية التي ترمي الى بث المشاعر الوطنية والقومية في نفوس النشئ الجديد بوجه خاص. السياسة العملية: اوسياسة الادارة والحكم وما يتفرع منها من اْدوات سياسية, وظيفية او حزبية. و هو يرى ضرورة فصل السياستين عن بعضهما, وان تضل السياسة التربوية او العليا بعيدة عن تدخلات الاْحزاب والتيارات السياسية السائدة في المجتمع.
ويقول الحصري, انه اَمن بهذه الفكرة منذ ان كان يعمل في الموْسسة التربوية للدولة العثمانية, وبهذا التصوير يفسر ايضاً عدم انتسابه لاي حزب من الاحزاب, لا في الدولة العثمانية, ولا في المملكة العربية السورية, ولا في حتى خلال وجوده الطويل نسيباً في العراق. ولعل هذا التصور للسياسة وعلاقاتها بالتعليم , هو ما يفسر الكثير من الصدامات و المواجهات التي تعرض لها الحصري خلال عمله في وزارة المعارف فهو يرى ان الوزارة وظيفة سياسية او مركز سياسي لا علاقة له بالسياسة العليا للتربية, خاصة وان معظم الوزراء الذين خدم معهم ليسوا من ذوي الاختصاص, بل لم يحصلوا على اْي تعليم نظامي يمكن ان يؤهلهم للتخطيط والبرمجة العلمية, لذلك فان تصوراتهم تظل سطحية وهامشية قياساً لما يملكه الحصري من تصورمنهجي شمولي متكامل عن العملية التربوية, ثم ان وجود هؤلاء الوزراء في مناصبهم, يظل محكوماً بالتغيرات السياسية التي يخضعون لها, كما انهم لا يستمرون طويلاً في مواقعهم الوزارية على ضوء الاْحداث والتطورات السياسية السائدة في العهد الملكي. ان العملية التربوية, ورغم كل ما اْضفاه عليها ساطع الحصري من اهمية, باعتبارها (السياسة العليا) لم تكن في فلسفته وفكره, اٍلا اْداة او وسيلة سياسية لغاية اكبر, هي تنمية الشعور القومي العربي وخلق االاٍنسان العربي القادر على استخدام طاقاته العقلية, ولمواجهة متطلبات العصر وتحقيق اْهداف اْمته الكبيرة, اْي التخلص من النفوذ الاْجنبي واٍنجاز الاستقلال, وبناء الدولة الحديثة, ولم يكن الاٍنسان العربي في العراق, هو المعنى وحده باهتمام ساطع, بل اْينما كان في سائر الاْقطار العربية الاْخرى. ففي خلال عمله في العراق ظل الحصري يتابع بجد منقطع النظير تطورات الوعي القومي العربي, والتيارات المناهظة لفكرة القومية العربية من خلال كتاباته العميقه وتصدى بحزم للتوجهات الاٍقليمية التي نادى بها انطوان سعادة وحزبه, كما فند بنجاح طروحات طه حسين وتوفيق الحكيم, وغيرهم. وواصل متابعة برنامجه التنويري حتى بعد اٍسقاط الجنسية العراقيه عنه, واٍبعاده خارج العراق عام 1941, واستمر في مهمته التي نذر نفسه من اجلها, بلا كلل حتى اخر يوم من عمره.
ان ملامح وسمات صورة الٍانسان التي يريد الحصري بناءها من خلال التربية والتعليم, والتي يعتقد ان بلوغها كاف لتجعل الفرد العربي ملتزماً بقضاياه القومية في السيادة والاستقلال و الوحدة العربية والتنمية والتقدم. لقد سعى الحصري الى ان يحدد معالم هذه الشخصية بالاستعانة بمعطيات علمي النفس الاجتماع, وتحليل الميول الفطرية عند الاٍنسان, تجاه ذاته ويسميها بالانوية, و تجاه الاَخر ويسميها بالايثار او الغيرية, ثم تجاه المجتمع وقد سماها بالميول النحنية, وصحيح ان كل فرد من اْفراد المجتمع هو اجتماعي بطبعه وبلا استثناء ولكن هذه الروح الاجتماعية تختلف وبدرجات من فرد الى اخر, بل هناك في المجتمع من يعيش بشكل طفيلي, ذاك الذي يعيش مع اْبناء نوعه, ياْخذ منهم دوماً بدون ان يعطيهم شيئاً, فهو يعيش في المجتمع لا كعضو نافع وعنصر فعال, بل كعضو طفيلي وعنصر مخرب, يرى الحصري ان هذه الظاهرة تعكس حالة شديدة من الاْنانية والانوية, وهي تمثل تربة كثير ما تضرب المصالح العامة لحساب الاْغراض الشخصية, وتصبح هذه الاْغراض بعد ذلك اشد ضرراً على المصالح القومية عندما تتقنع بقناع خداع من الادعاءات الوطنية والدينية اْحياناً, لكنها رغم ذلك ليست من المظاهر التي تثير الياْس, فهي ظاهرة طبيعية ترافق مراحل الانتقال في حياة الشعوب من مرحلة الى مرحلة, كا هوحالة انتقال البلدان العربية في تلك المرحلة من الحكم الاْجنبي الى الحكم الوطني, مما يحدث هزات واْزمات في نفوس الناس, وتخلخل التركيبة الاجتماعية القديمة, والاصطدام بين توجهات المستسلمين للحكم الاْجنبي الذين لا يستطيعون التخلص من اَثاره النفسية والاجتماعية, وبين حشود الثائرين الذين اقتلعوا هذه الاَثار من نفوسهم وتطلعوا الى المستقيل بتفاؤل واْمل.
وهنا ياْتي دور العملية التربوية التي عليها ان تستخدم كل الاْساليب والتدابير لتنمية النزعة الوطنية والقومية, وجمع السبل من اجل تعويد الاْطفال والشبان على العمل المشترك, وتوسيع الشعور بالنحنية, بما يشدد ارتباط الفرد بالجماعة بحيث تختلط منفعتة بمنفعة المجموع وتصبح لغة الاْنسان التى تسيطر على سلوكه هي لغة ال (نحن) لا (الانا) فواجب المدرسة كما هو واجب الثكنه العسكرية ان تصل الفرد بالاْمة والوطن, وتعوده على التضحية والعطاء الحقيقي, من التضحية بالراحة الشخصية الى التضحية بالدم والنفس في سبيل الاْمة والوطن.
على ان هذا لا يعني مسخ الفرد والٍغاءه, بل العكس, ان ذلك لايمكن ان يتحقق في فلسفة الحصري اٍلا من خلال الارتفاء بالاٍنسان وتنمية قدرته على التفكير العلمي, والمنطقي, الذاتي, المستقل, وتقوية روح المبادرة لديه بما يحقق:الجمع بين حرارة العاطفة وقوة العقل, بين نزعة الاستقلال وضرورة الانضباط, بين الحسيات الوطنية والعواطف الاٍنسانية, بين القوى الفردية والخصال الاجتماعية, بين الروابط التقليديه والنزعات التجديدية, بين مقتضيات التربية المسلكية, ومطالب الثقافة العامة, وبما يؤمن تنشئة الفرد ونزوعه الى الصراحة, على ان لا تصل هذه الصراحه الى درجة السذاجة, وتطبيق روح الاٍقدام والشجاعة على ان لا تؤدي الى الحرمان من البصيرة واكتسابه نزعه سامية وثابتة تحمله على السير نحو المثل العليا, دون ان تجعله ضالاً وراء الاْحلام, وتعويده على الخصال الاقتصادية دونتركه فريسة للغرائز النفعية, وحمله على التخصص في مهنة او حرفة دون حرمانه من الثقافة العامة, واٍيجاد توازن معقول و ترتيب مفيد بين اهتماماته الدينية والمدنية وميوله الشخصية والمسلكية والاجتماعية.
هذا هو نموذج الاٍنسان الذي يعتقد الحصري, انه المؤهل للالتزام و بناء الدولة العربية الواحدة, بالوعي والقدرة على اختيار السبل الكفلية لتحقيق هذه الغايات, بنفسه, ودونما حاجة, لفرض حالة علية اْو الٍزامه باْطار نظري ، او اْيديولوجية مسبقة تحدد له طبيعة مساراتة, وبالتالي فاٍنه يصبح قادراً على اختيار شكل نظام الحكم الذي يريده لدولته الجديدة, وفقاً لحاجاته ومتطلبات مصلحته الوطنية العليا. وتاْسيساً على ذلك, لم يقدم ساطع الحصري اْي تصورات محددة عن شكل نظام الحكم الذي يجب ان تكون عليه دولة الوحدة, اشتراكية او ليبرالية, ولم يحدد ايضاً, كيف ستكون هذه الدولة اتحادية, فدرالية, او موحدة مركزية, وقد كان هذا سبباً في اٍثارة الكثير من انتقادات الجيل الجديد من القوميين في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي, المتاْثربالفكر الاشتراكي الذي كان سائداً في تلك المرحلة. تلك هي الاْسس العامة لتصورات الحصري في السياسة وعلاقاتها بالتربية التي غالباً ما يردفها بصفة اجتماعية. ويمكن الاٍشارة في هذا الصدد الى الخطوات العملية التي اعتمدها وطبقها ساطع الحصري من خلال خدمته القصيرة في وزارة المعارف العراقية , بدرجة معاون وزير المعارف, ثم مدير عام المعارف العامة, ودروسه في دار المعلمين العالية وكلية الحقوق ودائرة الاَثار العراقية, وفي كل هذه المهام لم ينطلق الحصري من نقطة الصفر لتخطيط وتنظيم جهاز التعليم في العراق, رغم انه ورث اْرضية مخلخلة مليئة بالفجوات, لا يمكن اعتبارها مؤسسة تعليمية فعلياَ, لكنه استطاع في فترة قصيرة جداً ان يحقق بجهد ومثابرة وعناد, تتجاوز طاقات الاٍنسان العادية, كثيراً من الاٍنجازات التي اْرست قواعد متينة لمؤسسة التعليم في العراق, ما تزال اَثار بصماته عليها رغم مضي اكثر من ثمانين سنة عليها,
ففد استطاع ان يحقق: - وحدة النظام التعليمي في جميع ارجاء العراق.- وحدة المناهج في جميع المدارس الحكومية والاْهلية, بما فيها الخاصة ببعض الطوائف الدينية.
– اعداد كادر واسع من المعلمين والمدربين على طرق التدريس الحديثة بما يمكنهم من اْعداد جيل قادر على الاٍسهام في بناء الوطن, ولعل ظاهرة مساهمة المعلمين في العمل السياسي في العراق, هي واحدة من نتائج واثار الحصري, واٍسهاماته في خلق الوعي الوطني والقومي عند الكادر التعليمي.
– بناء نظام مركزي للتفتيش والاٍرشاد التربوي لا زال قائماً على الاْسس التي اْرساها الحصري بنفسه حتى اليوم.
– استخدام المناهج يشكل علمي لزرع قيم التربية الوطنية والقومية عند الطلبة, وخاصة دروس التاريخ والاَدب والتربية الاْخلاقية, واستحدام حتى دروس النشيد والرياضة البدنية في هذا السياق. مع الاهتمام بالمستوى العلمي وبالمواد الرياضبه والعلمية البحتة, مما جعل شهادة الثانوية العراقية تؤهل حاملها لدخول اْي جامعة في العالم. وقد مثلت التربية بالنسبة للحصري عملية مستمرة ترافق الاٍنسان خلال مختلف مراحل حياته, داخل المدرسة وخارجها, والى ما بعد انتهاء مرحلة الدراسة, وتابع الحصري, برنامجاً من التعليم الموجه للشباب والكبار من خلال محاضراته المستمرة في النوادي الثقافية والمؤسسات العلمية, ومقالاته في الصحف العراقية والعربية, واٍصداره مجلة متخصصةهي الاولى من نوعها في الوطن العربي.
ولااحد يستطيع تجاوز دور القراءة الخلدونية التي وضعها ابو خلدون ساطع الحصري ، والتي علمت الملايين من العراقيين القراءة والكتابة .كما لااحد يمكن ان يتجاوز دور نشيد:
بلاد العرب اوطاني .. من الشام لبغدان
ومن نجد الى يمن .. الى مصر فتطوان
في تشكيل الوعي القومي العربي في عقل الملايين من الاجيال العراقية المتعاقبة .
هذا موجز عن الانجازات الكبرى التى حققها المربي والمفكر, ساطع الحصري, على امتداد ستة قرون,حفلت بالعطاء وخدمة الاْمة العربية, واْسست نهضة علمية وتربوية ساهمت بترسيخ ايمان الاْنسان العربي بذاته وهويته القومية, وفتحت اْمامه افاق المستقبل والتقدم المنشود،واذا كانت هناك عوامل كثيرة ساهمت في نشر الفكر القومي العربي في العراق ستظل جهود واعمال ساطع الحصري اهمها .

مشاركة مميزة