الاثنين، 30 أغسطس 2010

حول الجدل الدائر بين مشروع التوريث وفكرة الثورة



kolonagaza7
القدس
محمد عبد الحكم ديابالتمويه عمل مقصود ومتعمد لإخراج مخطط التوريث، بالشكل الذي جرى من بدايته الأولى وصولا إلى حالته الراهنة. ولعبة الائتلاف الفكاهي (الكوميدي) المطالب بترشيح جمال مبارك للرئاسة. تمثل الفصل قبل الأخير من مسرحية هزلية. تهدف إلى إعطاء انطباع مزيف بشعبية الوريث وإلحاح الناس في طلب التوريث. ما يجري محاولة بائسة تتخيل أنها تقلد خطط التمويه الاستراتيجي والعسكري والنفسي السابقة على حرب 1973، وتكشف بذلك مدى محدودية الأفق، ومستوى التفكير القاصر في معالجة قضية بخطورة مستقبل ومصير الحكم في بلد مثل مصر. والتمويه حلقة من حلقات عديدة مر بها التوريث من قبل. وكلها تمت بمعرفة الأب وقراراته ورضاه. وعائلة مبارك مجتمعة تعتبر التوريث مشروعها الاستراتيجي ولذا تستميت من أجل تحقيقه.وشتان بين مشروع ومشروع وتمويه وآخر. ففيما بين 1967 و1973 كانت خطط القادة العظام تتمركز حول إزالة آثار العدوان وتحرير الأرض المحتلة، وجعلوا منه مشروعا استراتيجيا، التف حوله المواطنون بعد النكسة، وأثناء حرب الاستنزاف. وسرعان ما تحول ذلك المشروع بعد النصر من مشروع تحرير إلى مجرد معركة تحريك. انتهت بتوقيع معاهدة كامب ديفيد، وصهينة السياسة المصرية والعربية بشكل عام. كانت مهمة التمويه الاستراتيجي، السياسي والعسكري وقتها مهمة وطنية وقومية كبرى، أوكلت إلى أجهزة ومؤسسات ذات كفاءة عالية، تملك إرادتها المستقلة، ولديها قدرة على العمل والتضحية. وكان تضليل العدو وخداعه جزءا من معركة تحرير كبرى أجهضت. أما التمويه الراهن هدفه تضليل الشعب وخداعه. ومهما كان المظهر البادي على السطح فإن مسؤولية مخطط التوريث محصورة بين أفراد عائلة مبارك الأربعة. وهم مستندون إلى طبيعة رسخها حسني مبارك في السياسة الرسمية المصرية. أساسها الفردية والعناد، وحجب الحقائق، وحظر تداول المعلومات، مع دوام الرهان على واشنطن وتل أبيب. المشهد المصري يعلن بوضوح أن السخط وتحدي رأي الناس السلبي والرافض لحكم الابن وصل مداه. لكن في المقابل ازدادت عائلة مبارك اصرارا على فرض الابن رئيسا بالقوة. والتمويه الجاري يضعف ما قيل ونشر عن خلافات بين الأخ وأخيه، وبين الأم وزوجها، وبين الأب وابنه الأصغر، والأم وابنها الأكبر، والمؤكد أن كل ذلك مقصود، وينطلق من تصور عن ضعف الذاكرة التاريخية. وتقتضي المواجهة المطلوبة تنشيط هذه الذاكرة، واسترجاع كل ما أدى وأوصل الابن إلى ما هو فيه. وسوف نجد أن توجيهات وأوامر وقرارات مبارك الأب وإجراءاته هي التي فرضت الابن رقما أعوج وناقصا في معادلة الحكم وتوجيه السياسة. ولم يكن ذلك لميزة فيه أو لتفوق عرف عنه في التحصيل العلمي أو العمل الوظيفي. وحكى لي رجل أعمال كان لصيقا بجمال مبارك لسنوات عن تربيته، شبهها بطرق تربية النباتات في الصوبات الزراعية، المعروفة في الغرب بالبيوت الخضراء أو الزراعية. قال عنه أنه تربى بتلك الطريقة. كل ما حوله مصطنع ومفتعل. وقال أنه مثل ثمار الصوبات، كبيرة الحجم قليلة الفائدة..وتجمع المصادر الموثوقة أنه لم يتعرض لما تعرض له من كانوا في سنه عندما كان صغيرا. ولما كبر لم يدخل انتخابا طلابيا، ولم يخض معركة حزبية ولا محلية أو عامة، ومع أن انتخابات مصر مزورة والأمن يضمن له الاكتساح لكنه يعاني من رهاب التواصل والاحتكاك بالناس وطلب مساعدتهم وأصواتهم. وحتى التواصل الشكلي عجز عنه. لذا فلح في أعمال السمسرة والمضاربات وبيع الديون. وحدود قدرته هي التعامل مع الأموال والأوراق والأرقام، أما التعامل مع الناس فلا.وبجانب رهاب التواصل والاحتكاك ترسخت في نفسه قناعة بحقه المطلق في المُلْك. والملك أو المالك غير الحاكم. لا يختبر ولا يمتحن ولا ينتخب وليس مطلوبا منه التواصل مع أحد. والحاكم يختبر ويمتحن وينتخب، وعليه التواصل والاحتكاك بالناس، ودون ذلك يفقد أهليته وشرعيته معا. وجد الابن أن التوريث ملائما لظروفه، والتمويه مناسبا لتجنب العرض على الناس وطلب أصواتهم، إنها مأساة بكل معنى الكلمة لن تنتهي بالتوريث إذا ما تحقق أو لم يتحقق. فوضعه ينكشف تماما إذا اختفى الأب من المشهد السياسي.تنشيط الذاكرة التاريخية مطلوب لنتذكر أن الأب هو الذي عين ابنه بقرار منه مستشارا اقتصاديا بالرئاسة بدرجة وزير، فور عودته من رحلة العمل والعلاج ببريطانيا في تسعينات القرن الماضي. وكانت بداية مكنته من وضع اليد والاستحواذ على الاقتصاد المصري دون أدنى خبرة، اللهم ما ذكرناه عن السمسرة والمضاربة وبيع الديون الوطنية للأجانب والتربح منها. نفس الشيء حدث بخصوص إستلام الحزب الحاكم.. تسليم مفتاح بلغة المقاولين.. وبقرار من الأب بصفته رئيسا للحزب، وبقرارات مشابهة وتدخل مباشر من الأب تم التنازل عن الأصول الصناعية والاقتصادية والمالية التي كانت للدولة، ومنها صناعة الحديد، التي منحت لأحمد عز، ومقابلها أُستُخدم ملك الحديد كرافعة يستند إليها الابن في صعوده، وتمكن عز فيما بعد من خصخصة الحزب الحاكم وشرائه وإدارته لحسابه. والأب هو الذي أصدر قرارات تشكيل لجنة السياسات. جمع فيها شركاء وخلان الابن، ووضعها فوق كل الأجهزة والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية. وتُرك لها الحبل على الغارب فعاثت في مصر فسادا. وصارت لها مخالب وأنياب، وسلطات وصلاحيات. أعلى من كل السلطات، وأكبر من كل الصلاحيات.يؤكد لنا التاريخ القريب أن مخطط التوريث يجري على قدم وساق منذ عام 1997، وقراء 'القدس العربي' القدامى يتذكرون أنها انفردت قبل أي صحيفة أخرى بكشف ما يجري، وكان شيئا لا يصدق في وقته. وبدأ تنفيذ المخطط الفعلي والعملي بإنشاء 'جمعية جيل المستقبل'، التي وُصِفت حينها بأنها جمعية أهلية غير حكومية لا تهدف للربح!!! وعلامات التعجب من عندي وليست في النص الأصلي، وكان ذلك في تشرين الثاني/نوفمبر 1998. والملفت للنظر أن ما ورد في نظامها الأساسي جاء مخالفا لنصوص قانون الجمعيات الأهلية المصري بصيغتيه القديمة والمعدلة. فذلك القانون يحظر على أعضاء هذه الجمعيات الاشتغال بالسياسة أو الدين أو الاثنين معا فضلا عن منعهم من العمل التجاري بالبيع أو الشراء، وجمعية أنشئت بالمخالفة للقانون، يعمل أعضاؤها ومسؤولوها في السياسة والاقتصاد والاستثمار، ولحسابات فئوية خاصة (رجال الأعمال)، وجاء في حيثيات إنشائها أن 'استراتيجية مصر في ظل المتغيرات العالمية الجديدة تعتمد اعتمادا أساسيا على دور ريادي للقطاع الخاص'، وحددت أولى مهاماتها 'دعم قدرات هذا القطاع بموارد بشرية مؤهلة تمكنه من الوصول إلى أعلى مستوى من الكفاءة والفاعلية والإنتاجية' ومن يطلع على تفاصيل ذلك النظام يكتشف أن الجمعية كانت مشروعا لدولة الابن، إذا جاز التعبير. خرج من رحمها مشروع حزب المستقبل، الذي لم ير النور.وأخطر ما قامت به هو اختزال مصر، ونقلها من مستوى الوطن ووزن الدولة إلى حجم شركة استثمارية. تعمل في مجالات المال والاقتصاد والتجارة والعلاقات العامة، ومجال العلاقات العامة حل محل العمل السياسي. وتشكلت لجنة السياسات وخرجت من عباءة جمعية جيل المستقبل الأهلية!! وأوكل إليها إدارة الحزب والوزارة وشؤون الحكم. ضمت أحمد المغربي، وزير السياحة السابق ووزير الإسكان الحالي، ورشيد محمد رشيد، وزير التجارة والصناعة، وكبار حيتان المال والأعمال؛ مثل جلال الزوربا، وأحمد عز، ومعتز الألفي، وشريف والي، وهشام الشريف، وغيرهم. وهم عينة من مُلاك مصر الجدد. ما ظهر منها وما بطن. وحال مركز الدراسات الوطنية الذي يملكه ويديره جمال مبارك، لا يختلف كثيرا عن حال جمعية جيل المستقبل، وإذا كانت الثانية قد اختزلت مصر في شركة استثمارية، فإن الأول حل مكان مؤسسة الرئاسة. وكانت تضم أكفأ وأهم الخبراء والمستشارين، وخرجت منها أهم وأخطر المشروعات والخطط، منذ نشأتها عام 1953. وجاء ذلك المركز البدائي ليلغيها ويقيم على أنقاضها المؤسسة العائلية الحاكمة. هل كان هذا رغما عن الأب ودون رضاه وبغير موافقته؟!. أردنا من ذلك التأكيد على التعمد المبكر في زرع نبتة التوريث السامة ورعايتها حتى نمت وكبرت وسممت المناخ الوطني، ولوثت الحياة السياسية، إلى أن اعتاد كثير من الناس على ذلك. وسرت سموم التوريث في العقول والأبدان. وتحولت لمنظومة راعية للاستبداد والفساد والتبعية والإفقار، وعبدت الطريق أمام الطامحين والطامعين في الحصول على قطعة من لحم مصر الحي. ونعود لنسأل ماذا بقي للمصريين في مواجهة مشروع التوريث الشيطاني؟وفي محاولة للرد على هذا السؤال جاء طرح الثورة كحل للمأزق الراهن للنقاش. ومن الطبيعي أن يثير هذا الطرح جدلا واسعا. وقد فرضته الضرورات التي تبيح المحظورات. ويُكمل ويُتوج مطلب العصيان المدني، المتداول بين الجماعات الراديكالية والحركات الجديدة والشابة، الرافضة لما هو مطروح من حلول ومطالب جزئية وشكلية من جانب الحكم والمعارضة. وما إذا حدث واستجاب الناس للعصيان المدني. فإن سؤالا آخر يفرض نفسه مجددا، ما هو مداه وإلى أين يصل؟ وكما أثار العصيان المدني الجدل تثير فكرة الثورة جدلا مماثلا، ومن المتوقع أن تكسب الفكرة أنصارا في ظروف غاب فيها مشروع حقيقي وجاد للتغيير، بعد أن اكتفت النخب السياسية بالعرائض والمطالب القانونية والفئوية والطائفية، التي لم ترق بعد لمشروع وطني جامع ومتكامل. يواجه مشروع التوريث العائلي ويزيحه من الطريق، ويبدو أن الجدل الذي نشأ يقتضي العودة لضبط المصطلحات حول معاني وأشكال التغيير المطروح.' كاتب من مصر يقيم في لندن

مشاركة مميزة