kolonagaza7
بقلم / سلطان العامر
كثيرون يعتقدون أن الثورة هي هذه الفترة التي يستغرقها الشعب للإطاحة بحكومته المستبدة، ولكن هذا غير صحيح: هذه هي مرحلة (التحرر) فقط، مرحلتها الأولى، ومرحلتها الأسهل أيضا. بعد ذلك تأتي مرحلة أخرى، أطول فترة، أقل إثارة، لكنها أصعب بكثير، وعليها وحدها يتوقف كل معنى الثورة، وهذه المرحلة هي مرحلة (الحرية). وفي هذا المجال سأتحدث عن ثلاث نقاط رئيسية:
١- التحرر شيء، والحرية شيء آخر
لنفرض أن شخصا ما مقيدا بسلاسل؛ هو الآن ليس حرا. وبعد عدة محاولات، استطاع التخلص من قيوده والهرب، وبدأ الذين قيدوه أول مرة بملاحقته. هو الآن (تحرر) من قيوده، لكنه هارب ومهدد بأنه في أية لحظة قد يتم القبض عليه وإعادته لتلك السلاسل، أي أنه ليس حر. هو (تحرر) من قيوده، لكنه لم يبن بعد ما به يستطيع منع الذين يلاحقونه من إعادته لقيوده، أي لم يبن المؤسسات التي تجعله يمارس (حريته).
من هذا المثال المجازي، نستطيع القول أن كل ما قامت به الثورة الليبية حتى الآن، كل الدماء التي أريقت، كل الشهداء الذين سقطوا، كل الخيارات التي اضطروا إليها- كالاستعانة بالناتو وغيرها-، كلها بمثابة التخلص من القيود، أي أنها فقط مرحلة التحرر. فهم حتى الآن ليسو أحرارا، بل هم في اللحظة التي فيها الحرية مهددة أكثر من غيرها، فإن لم يتم بناء المؤسسات التي تحميها، عاد الليبيين مجددا إلى القيود التي بذلوا الغالي والنفيس من أجل تحطيمها. فهم الآن يعيشون المرحلة التي قلّما استطاعت الشعوب الأخرى النجاة منها.
في فترة التحرر، يتجاوز الناس خلافاتهم ومصالحهم المتناقضة ويتحدون سوية أمام عدوهم الأوحد: المستبد. وفي هذه الفترة تتسامى النفوس، فيصطف الغني إلى جانب الفقير، الإسلامي إلى جانب العلماني، الرجل إلى جانب المرأة، يحركهم جميعا اندفاعهم الجارف نحو الحريّة.
لكن ما إن يسقط المستبد، وتبدأ مرحلة بناء الحريّة، حتى تظهر المصالح على السطح، ويركز الناس على ما يختلفون به أكثر من تركيزهم على ما يوحدهم، وللأسف الشديد غالبا ما يحسم مثل هذا الخلاف بالعنف.
يقول آدم ميكنيك – أحد مناضلي الثورة البولندية عام ١٩٨٩- “كل ثورة تتألف من طورين. الطور الأول هو طور النضال من أجل الحرية، والطور الثاني هو طور الصراع على السلطة. والطور الأول يجعل الروح البشرية تحلق في عنان السماء ويحرر في الناس أفضل طاقاتهم. أما الطور الثاني فإنه يخرج منهم أسوأ ما فيهم: الحسد، والتآمر، والجشع، والارتياب، والرغبة في الانتقام.”
٢- لماذا تأكل الثورة أبناءها؟
تحرر الفرنسيين من الملكية، لكن الثورة انتهت إلى عهد الإرهاب. وتحرر الروس أيضا من القيصرية لكن ثورة أكتوبر انتهت إلى حكم البلاشفة. وكذلك تحرر الفرس من حكم الشاه، لكن الثورة الإيرانية انتهت إلى “ولاية الفقيه”. كثيرة هي الثورات التي تمكنت من التحرر، لكن القليل منها فقط التي تمكنت من بناء الحرية. فلماذا تأكل الثورة ابنائها؟
ترى حنة أرندت في كتابها “في الثورة” أن السبب الرئيسي الذي يؤدي بالثورة لهذا المصير الدموي هو محاولة حل “المسألة الاجتماعية” قبل حسم بناء الحرية. ماذا يعني هذا الكلام؟
يعني أن الثوار غالبا بعد التحرر وعندما يرون بأعينهم البؤساء والفقر المستشري حولهم، تدفعهم شفقتهم التي تسيطر عليهم إلى حل مشكلة الفقر قبل أن تتم الثورة غايتها، أي بناء مؤسسات الحرية. أي أن مشهد الفقر المستشري حولهم يستولي عليهم فينسيهم توقهم الأصلي للحرية الذي دفعهم ابتداء للثورة فيبدؤون بمحاولة حل المسألة الاجتماعية. وبحسب أرندت، أن كل محاولة لحل مسألة الفقر قبل بناء الحرية تنتهي بالثورة لنهايتها المشؤومة. إذ أن حل مشكلة الفقر، يستلزم قرارت سريعة وحاسمة، وحكومة قوية، فيستنتج الثوار ضرورة وجود “دكتاتورية مؤقتة” تضع هذه الحلول لمشكلة الفقر ثم تمهد الطريق نحو الحرية، ومن هذه النقطة يبدأ مسلسل الدماء الذي يودي بالثورة لمصيرها المحتوم.
الثورة الوحيدة التي استطاعت أن تنجز “بناء الحرية” دون أن تعطل من مسيرتها مسألة الفقر هي- بحسب حنة أرندت- الثورة الأمريكية. وهذا يعود إلى أن العالم الجديد كان غنيا نوعا ما وأن الحكومة التي ثار عليها الأمريكيون لم تكن حكومة ملكية مطلقة، بل كانت ملكية دستورية. إلا أن السمة الأساسية التي قاد الثورة الأمريكية للنجاح هي أن أبناء المستعمرات كانو يمارسون الحكم لأكثر من قرن من الزمان قبل الثورة عبر مجالس الحكم في مستعمراتهم. وهذه المؤسسات التي يجتمع فيها أبناء المستعمرات للتحاور والنقاش من أجل اتخاذ القرارت كانت صمام الأمان الذي حمى الثورة الأمريكية من أن تنحرف للمصير المحتوم، إذ تم بناء الدستور أولا الذي منه انبثقت المؤسسات التي تحمي الحرية من كونجرس ومحكمة عليا وغيرها، والتي في داخلها بدأ المختلفون يتنافسون ويتصارعون كل من أجل تحقيق مصالحه وطموحاته.
وهذا بالضبط الذي جعل هذه الدولة تستطيع الاستمرار لقرنين من الزمان وتتوسع من ١٣ ولاية إلى خمسين. في حين تخبطت فرنسا ما بين جمهورية إلى ملكية، حتى وصلت الآن لجمهوريتها الخامسة.
وعلى الليبيين، أن يتعالو على جراحهم، وأن يتموا مسيرة الثورة إلى نهايتها وأن يؤجلوا حل المسائل الاجتماعية والدينية وغيرها إلى ما بعد بناء مؤسسات الحرية والدستور الذي ينظم العلاقات بين هذه المؤسسات.
٣- الليبيون قاموا بثورة، في حين أن المصريين والتونسيين لم يقوموا
إن ما قام به المصريين والتونسيين لم يؤد إلى إسقاط النظام السابق، بقدر ما أدى إلى أسقاط طغمة متحكمة به، ودفع النظام إلى أن يصلح نفسه بسرعة هائلة. فما زال الذي يتحكم بإدارة التحول الديمقراطي هو النظام السابق، أي أنه ما زال الذين يحكمون من مصر وتونس ينتمون للنظام السابق. أما في الحالة الليبية فقد تم اسقاط النظام بالكامل، من العلم إلى المستبد. والثوار هم من سيحكمون، وهم من سيبنون دولة المستقبل. ولهذا سيتحملون وحدهم ما سيحدث في هذه الفترة الحرجة التي تفصل التحرر عن بناء الحرية.
إن الثورة إن كانت تعني شيئا فهي تعني “البدء بشيء جديد”، ولكنها أيضا تعني البدء بشيء سيستمر. ففي فعل الثورة نفسه تتحد التقدمية مع المحافظة. وهذا اللي نقوله كتابة يستشعره الثوار بطريقة لا يجدون الكلمات التي تصف حالتهم إلا تشويها لها، لكن ما عليهم أن يتذكروه أن هذه التجربة الثرية التي تمتعوا بها عليهم ألا يحرموها أبنائهم، وأن يبنو دولة تستطيع استيعاب “القادمون الجدد” الذين لا توجد أي ضمانة بأنهم سيكونون مثلهم وسيحملون نفس الأفكار والرؤى التي يحملونها، وأن يعلموا جيدا أنهم ما قامو بثورتهم إلا لأن مستبدهم بنى دولة لم تستطع استيعابهم، فعليهم ألا يكرروا أخطاء من سبقهم فيكرر من سيخلفهم معاناتهم نفسها.
كثيرون يعتقدون أن الثورة هي هذه الفترة التي يستغرقها الشعب للإطاحة بحكومته المستبدة، ولكن هذا غير صحيح: هذه هي مرحلة (التحرر) فقط، مرحلتها الأولى، ومرحلتها الأسهل أيضا. بعد ذلك تأتي مرحلة أخرى، أطول فترة، أقل إثارة، لكنها أصعب بكثير، وعليها وحدها يتوقف كل معنى الثورة، وهذه المرحلة هي مرحلة (الحرية). وفي هذا المجال سأتحدث عن ثلاث نقاط رئيسية:
١- التحرر شيء، والحرية شيء آخر
لنفرض أن شخصا ما مقيدا بسلاسل؛ هو الآن ليس حرا. وبعد عدة محاولات، استطاع التخلص من قيوده والهرب، وبدأ الذين قيدوه أول مرة بملاحقته. هو الآن (تحرر) من قيوده، لكنه هارب ومهدد بأنه في أية لحظة قد يتم القبض عليه وإعادته لتلك السلاسل، أي أنه ليس حر. هو (تحرر) من قيوده، لكنه لم يبن بعد ما به يستطيع منع الذين يلاحقونه من إعادته لقيوده، أي لم يبن المؤسسات التي تجعله يمارس (حريته).
من هذا المثال المجازي، نستطيع القول أن كل ما قامت به الثورة الليبية حتى الآن، كل الدماء التي أريقت، كل الشهداء الذين سقطوا، كل الخيارات التي اضطروا إليها- كالاستعانة بالناتو وغيرها-، كلها بمثابة التخلص من القيود، أي أنها فقط مرحلة التحرر. فهم حتى الآن ليسو أحرارا، بل هم في اللحظة التي فيها الحرية مهددة أكثر من غيرها، فإن لم يتم بناء المؤسسات التي تحميها، عاد الليبيين مجددا إلى القيود التي بذلوا الغالي والنفيس من أجل تحطيمها. فهم الآن يعيشون المرحلة التي قلّما استطاعت الشعوب الأخرى النجاة منها.
في فترة التحرر، يتجاوز الناس خلافاتهم ومصالحهم المتناقضة ويتحدون سوية أمام عدوهم الأوحد: المستبد. وفي هذه الفترة تتسامى النفوس، فيصطف الغني إلى جانب الفقير، الإسلامي إلى جانب العلماني، الرجل إلى جانب المرأة، يحركهم جميعا اندفاعهم الجارف نحو الحريّة.
لكن ما إن يسقط المستبد، وتبدأ مرحلة بناء الحريّة، حتى تظهر المصالح على السطح، ويركز الناس على ما يختلفون به أكثر من تركيزهم على ما يوحدهم، وللأسف الشديد غالبا ما يحسم مثل هذا الخلاف بالعنف.
يقول آدم ميكنيك – أحد مناضلي الثورة البولندية عام ١٩٨٩- “كل ثورة تتألف من طورين. الطور الأول هو طور النضال من أجل الحرية، والطور الثاني هو طور الصراع على السلطة. والطور الأول يجعل الروح البشرية تحلق في عنان السماء ويحرر في الناس أفضل طاقاتهم. أما الطور الثاني فإنه يخرج منهم أسوأ ما فيهم: الحسد، والتآمر، والجشع، والارتياب، والرغبة في الانتقام.”
٢- لماذا تأكل الثورة أبناءها؟
تحرر الفرنسيين من الملكية، لكن الثورة انتهت إلى عهد الإرهاب. وتحرر الروس أيضا من القيصرية لكن ثورة أكتوبر انتهت إلى حكم البلاشفة. وكذلك تحرر الفرس من حكم الشاه، لكن الثورة الإيرانية انتهت إلى “ولاية الفقيه”. كثيرة هي الثورات التي تمكنت من التحرر، لكن القليل منها فقط التي تمكنت من بناء الحرية. فلماذا تأكل الثورة ابنائها؟
ترى حنة أرندت في كتابها “في الثورة” أن السبب الرئيسي الذي يؤدي بالثورة لهذا المصير الدموي هو محاولة حل “المسألة الاجتماعية” قبل حسم بناء الحرية. ماذا يعني هذا الكلام؟
يعني أن الثوار غالبا بعد التحرر وعندما يرون بأعينهم البؤساء والفقر المستشري حولهم، تدفعهم شفقتهم التي تسيطر عليهم إلى حل مشكلة الفقر قبل أن تتم الثورة غايتها، أي بناء مؤسسات الحرية. أي أن مشهد الفقر المستشري حولهم يستولي عليهم فينسيهم توقهم الأصلي للحرية الذي دفعهم ابتداء للثورة فيبدؤون بمحاولة حل المسألة الاجتماعية. وبحسب أرندت، أن كل محاولة لحل مسألة الفقر قبل بناء الحرية تنتهي بالثورة لنهايتها المشؤومة. إذ أن حل مشكلة الفقر، يستلزم قرارت سريعة وحاسمة، وحكومة قوية، فيستنتج الثوار ضرورة وجود “دكتاتورية مؤقتة” تضع هذه الحلول لمشكلة الفقر ثم تمهد الطريق نحو الحرية، ومن هذه النقطة يبدأ مسلسل الدماء الذي يودي بالثورة لمصيرها المحتوم.
الثورة الوحيدة التي استطاعت أن تنجز “بناء الحرية” دون أن تعطل من مسيرتها مسألة الفقر هي- بحسب حنة أرندت- الثورة الأمريكية. وهذا يعود إلى أن العالم الجديد كان غنيا نوعا ما وأن الحكومة التي ثار عليها الأمريكيون لم تكن حكومة ملكية مطلقة، بل كانت ملكية دستورية. إلا أن السمة الأساسية التي قاد الثورة الأمريكية للنجاح هي أن أبناء المستعمرات كانو يمارسون الحكم لأكثر من قرن من الزمان قبل الثورة عبر مجالس الحكم في مستعمراتهم. وهذه المؤسسات التي يجتمع فيها أبناء المستعمرات للتحاور والنقاش من أجل اتخاذ القرارت كانت صمام الأمان الذي حمى الثورة الأمريكية من أن تنحرف للمصير المحتوم، إذ تم بناء الدستور أولا الذي منه انبثقت المؤسسات التي تحمي الحرية من كونجرس ومحكمة عليا وغيرها، والتي في داخلها بدأ المختلفون يتنافسون ويتصارعون كل من أجل تحقيق مصالحه وطموحاته.
وهذا بالضبط الذي جعل هذه الدولة تستطيع الاستمرار لقرنين من الزمان وتتوسع من ١٣ ولاية إلى خمسين. في حين تخبطت فرنسا ما بين جمهورية إلى ملكية، حتى وصلت الآن لجمهوريتها الخامسة.
وعلى الليبيين، أن يتعالو على جراحهم، وأن يتموا مسيرة الثورة إلى نهايتها وأن يؤجلوا حل المسائل الاجتماعية والدينية وغيرها إلى ما بعد بناء مؤسسات الحرية والدستور الذي ينظم العلاقات بين هذه المؤسسات.
٣- الليبيون قاموا بثورة، في حين أن المصريين والتونسيين لم يقوموا
إن ما قام به المصريين والتونسيين لم يؤد إلى إسقاط النظام السابق، بقدر ما أدى إلى أسقاط طغمة متحكمة به، ودفع النظام إلى أن يصلح نفسه بسرعة هائلة. فما زال الذي يتحكم بإدارة التحول الديمقراطي هو النظام السابق، أي أنه ما زال الذين يحكمون من مصر وتونس ينتمون للنظام السابق. أما في الحالة الليبية فقد تم اسقاط النظام بالكامل، من العلم إلى المستبد. والثوار هم من سيحكمون، وهم من سيبنون دولة المستقبل. ولهذا سيتحملون وحدهم ما سيحدث في هذه الفترة الحرجة التي تفصل التحرر عن بناء الحرية.
إن الثورة إن كانت تعني شيئا فهي تعني “البدء بشيء جديد”، ولكنها أيضا تعني البدء بشيء سيستمر. ففي فعل الثورة نفسه تتحد التقدمية مع المحافظة. وهذا اللي نقوله كتابة يستشعره الثوار بطريقة لا يجدون الكلمات التي تصف حالتهم إلا تشويها لها، لكن ما عليهم أن يتذكروه أن هذه التجربة الثرية التي تمتعوا بها عليهم ألا يحرموها أبنائهم، وأن يبنو دولة تستطيع استيعاب “القادمون الجدد” الذين لا توجد أي ضمانة بأنهم سيكونون مثلهم وسيحملون نفس الأفكار والرؤى التي يحملونها، وأن يعلموا جيدا أنهم ما قامو بثورتهم إلا لأن مستبدهم بنى دولة لم تستطع استيعابهم، فعليهم ألا يكرروا أخطاء من سبقهم فيكرر من سيخلفهم معاناتهم نفسها.