الأربعاء، 24 أغسطس 2011

شمعة وانطفأت



kolonagaza7

لا أبدو، على تقشفي هذا اليوم من خميرة الملل، بقادر على إنجاز أكثر أعمالي أهمية. يدفعني هاجس ما، للابتعاد عن الضوء، وأقترب في لحظة عصيان للعقل، من شمعة كانت تحترق في داخلي. ما الذي يدعوني بعدما خط الشيب رأسي، ودنت مني طيور الرحيل، كي أفتش عن تلك الأوراق المبعثرة كزهور خريفٍ آيل للنسيان. وأين أفتش عنها ؟! بين كومات متعالية، على أسس من الفوضى، حيث تنتظم بلا انتظام، فوق أرفف الذاكرة. الغبار يغطي رخام الذاكرة. الغبار يتوغل في أعماق الزمن. وينسرب الغبار بين دفتي ما مضى عني من صفحات، سطَّرتها بالنيابة عن خواطري، أحرف التوهان المستعار من شبيهي، الذي يسكنني كالمجهول. يمزقني هذا الاستدعاء لذلك الزمن، هو غريب عني الآن، ولكنه يتبختر في حقولي الجرداء من مطر الصهيل. تقدمي للمجابهة يا أفكاري الأسيرة بين أسيجة حدائقه الخضراء. فلعل هذا الغريب الباحث عن ظلاله الممتدة، على مسرح غيابي، المتمرد على حاضري المتعقل، لعله أن يكف عن إرسال شكواه بلا دموع. يخطو من لا أعرفه نحوي، لباسه من قمح السنابل، حديثه منطوق من فم الشلال الجاري على ضفاف المدى. لوجهه سطوع القصائد من نوافذ الأنجم المعلقة بين فكرتين عن الابتسام المقتبس من أسفار الخلود. ويخطو نحوي بلا ارتجاف، كأن صورته تنعكس عن أعماقي. هل هو مرآتي وأرى فيها ما يدعوني لكل هذا التشتت. حائر أنا بيني وبينه، ثم ماذا ؟!.
- لن نختلف على الشكل، فالأشكال تتشابه في القديم المنفي من الابتكارات، فدعك من هذا الارتطام الفجائي، وأرهف لي سمعك المستعار مني.
يقول هذا الغريب المتعدد الجهات.
ثم يتبعني بما لا أشتهي من سراب، وقبل أن أمنحه حرية إسداء النصائح المقشورة، عن جواهر قد تمت لأناي بصلة، أبعثر هذا السؤال الفوضوي الهش باتجاهه :
- وما الذي يغويك بزيارتي بعد هذه القطيعة ؟!
- الشمعة التي تحترق في داخلك .
- وما صلتك بها ؟!
- ألا تعرف من أكون أنا ؟!
- كلا، ولا ماذا تريد مني بالضبط .
- أنسيت ليلة الدنان المترعة بأفراحك المكذوبة ؟!
- لا ما نسيتها، وما أنا بالذي ينسى، ما بنته له رياح الشتاء، من قصورٍ عاجية لم أتركها إلا بقدر ما سكنتها، وما سكنتها منذ بُنيت. ولكنها انكسرت، تلك الدنان، عندما ألقت عليها عواصف الخريف حجارة من السماء، وحتى تلك القصور الغنَّاء، تداعت أركانها، فهوت كنافذة من زجاج، قبل أن يخطو مالكها الحزين، في رواقها الفسيح ، خطوتين للابتهاج المقنع.
- اتشتاقها من جديد ؟!
- وما الجدوى من دنان مهشمة، وقصور متداعية، وكان ما كان فيها، من صهباء لأشباح الأفراح المؤقتة، ما يربو على نهرين شبيهين بنهري دجلة والفرات.
- حتى ولو تمثلت بين يديك الآن ؟! أما كنت تجرعها كمدمن ومجرب ؟! وتلك القصور الهاوية، أما كنت لتسكنها لو أنها نهضت كالجبابرة، من رفات الهشيم ؟!
- لا لن يلمع في بصري ذلك السراب البعيد من جديد، فكما أنه مستحيل أن يثمر الملح، فسيكون من البلاهة التصديق بأن هناك أسطورة قُبرت، وسيبعثها من بعد الموت، دخان المسرات المكذوبة.
- لكنك ما برحت تفتش كل نهار عن حلم عابر، يشبه في المعنى، ما خسرته بالأمس، وأحياناً، يتطابق بالصورة والسريرة، مع فصولك الآفلة عن زمانك المشلول هذا، كأنك ما تجاوزت بعد سن القنوط ؟!
- ومن قال لك إنني من القانطين ؟!
- وجهك المكفهر، روحك التائهة، قلبك المنفصل عن نبضاته المشرقة، حديثك المرتجف، وما يكسو أعماقك من جليد .
- لا أنت تكذب، فأنا أسطع وجهاً من شموس الحقيقة، ومشاعري أرق من مشاعر عندليب غريد، وروحي تسبح في الفضاء الأعلى، وما ضرني أن رأيتني بعينين كليلتين.
- وهل أنت مقتنع بهذه الأوهام ؟!
- بل أنا على يقين من هذه المسلمات .
- والشمعة التي تحترق في داخلك ؟!
- إنها تنير لا تحرق.
- لا بل أنت مخادع لي ولك.
- بل أنت الغريب الدخيل الطارئ على وقتي. فاخرج منه كما يخرج الشيطان من جسد الإنسي، وانصرف مُنسلاً من حضوري كما تنسل الشعرة السوداء من أوعية العجين .
- أو لست أنت أنا ؟!
- قد نتشابه في المجهول المقُنع، عند مفترق طرق الغرائز المتعددة، ولكن الأرواح أبعد ما تكون عن التوأمة. ثم ماذا تريد مني أيها المتخفي وراء قناع شفيف ؟!
- أن تعترف .
- أعترف ؟! وبماذا أعترف أيها الشبيه الغريب ؟!
- بأنك ما عدت بقادرٍ على أن تتجاهل سرابك في الماضي، ودليلي هو الشمعة ؟!
- وما الجدوى ؟!
- حتى ينحسر عنك أوارها، ودخانها الذي يلفك من جميع جهاتك، وساعتئذٍ، يمكنك الانتقال من قعر الخيارات المنهزمة في حياتك، لذرى البدائل الحياتية الأجمل والقابلة للمثول بين يدي مسراتك المؤجلة، بسبب هذا الانقسام بينك وبين سرابك في الماضي.
- ولو اعترفت، هل سيحالفني الحظ بغيابك من وقتي، والى الأبد ؟!
- قد أختفي ولكن ليس بعيداً عنك، فأنت جزئي وأنا كلك.
- المهم أن تنصرف الآن.
- سأنصرف ولكن أتعدني ؟!
- بماذا أعدك أيها الشبيه ؟
- أن تطفئ تلك الشمعة التي تحرقني كما تحرقك ؟
- كيف أطفئها ولست أنا الذي أوقدها، ثم هي تنير لي، وتبدد من أمامي جيوش الظلمة، فكيف تريدني أن أطفئها ؟! ؟!
- إنها لا تنير لك إلا الدروب الخلفية لأحلامك الذابلة ؟!
- وهل اعترافي بقادر على إخماد فتيلها المشتعل ؟!
- انه، ومتى نطقت بالحرف الأول من فضيلة الاعتراف، ستهب على تلك الشمعة، موجة من الهواء البارد، فلن تدعها حتى تخر على قدميها منطفئة، هيا اعترف، يا من أنت أنا ؟!!
- أ .. عـ .. تـ .. ر .. ف .. هيا انصرف ؟!
- سأنصرف لا لشيء، بل لأنك اعترفت بعجزك عن الاعتراف، ولأن الشمعة احترقت بداخلك بالكامل، ولم يعد لها من وجود في ذاكراتك الهرمة، وداعاً يا شبيهي، وداعاً يا صنو شبيهي.
ولما انصرف عني، علقت في الحال، على شماعة اللامبالاة، ما كان يشغلني ليلة أمس. ثم ألقيت برأسي على سطح مكتبي الخشبي، ثم رحت بعد نعاس خفيف، أبحث من جديد، بين برنامجي اليومي للعمل، عن أقل المهام أهمية، وأكثرها جلباً لصداع رأسي حاد.
------
بقلم : أسامة جمال الدحدوح
كاتب من غزة
Mobile: 0597446141
رأيك، على هذا الايميل، تاجٌ يُزين أعمالي : osamahe1@hotmail.com

مشاركة مميزة