kolonagaza7
د. عادل محمد عايش الأسطل
إذا كان استقلال السودان أوائل عام 1956، معناه تحقيق إنجازه الكبير بإسقاط حكم المستعمر البريطاني، منذ العام 1898، فإن الإنجاز الأكبر المتمثل في تحرير الوطن من التبعية الاستعمارية، ظل أمامه تحدياً ماثلاً معجلاً ومؤجلاً، من خلال إشكالات كثيرة ومعقدة، عمل على تغذيتها الاستعمار البريطاني، أثناء جثومه على أرضه، وقبل الرحيل عنه، والتي توضحت في مشكلات جمة، سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها، وتجلت في معارك مختلفة، كانت تثور وتخبو، ومعارك أخرى لم يحن أوان حسمها بعد.
فقد كانت هناك العديد من الأزمات، التي أرّقت القطر السوداني في الماضي، وترافقه في الحاضر، وتنتظره في المستقبل، وكان من أخطر هذه الأزمات التي مر بها، هي مسألة الجنوب السوداني، بالرغم من الدور الذي قامت به القوي السياسية بعد خروج المستعمر واحتلالها للفضاء السياسي بالسودان، من عمليات توافق مبدئي علي توحيد شطري القطر، حيث تراضي ممثلون للجنوب والشمال منذ منتصف عام 1947، على توحيد شطري القطر، ولكن على أرض الواقع، لم يلق قبولاً حينها، للتخوفات الجنوبية المتزايدة، والآتية بشكل خاص من الدول المستعمرة، خاصة وأن بريطانيا كانت قسمت ما بين الشمال والجنوب منذ العام 1930، وهي تبدي عدم تقبلها منذ البداية، أية نوايا بشأن عملية التوحيد، وبالمقابل فإن ذلك يعني في ظل هذا الوضع، فشل سياسات كل الحكومات التي مرت علي حكم السودان، لأن كل الأزمات والمشاكل المتراكمة منذ 1821، إلي 1956، وما بعد، كانت تحتاج إلي بعد نظر وتشخيص دقيق، حتى يكون الحل ممكناً لكل قضايا السودان.
يعزو البعض فشل الحكومات السودانية، في حل أو حلحة مشكلات السودان المختلفة، إلى تجاهل الحكومات، التي تعاقبت على الحكم في الخرطوم، انشغالها في أمور ثانوية وشخصية، وإلى التغافل عن أهم القضايا التي كانت تحدق بالاستقرار السوداني، وهو عدم لجوء تلك الحكومات كفايةً، في عمليات صهر التعدد والتنوع العرقي داخل البلاد، فيما يسمى بعملية الدمج المتبعة في العديد من الدول، وخاصة المتقدمة منها وبالطرق الممكنة، ونتيجة لذلك فشلت هذه الحكومات تماماً، في خلق هوية مشتركة، تجمع كل أهل السودان، بمختلف ثقافاتهم وأجناسهم وأديانهم وقبائلهم،
وقد ظلت الأنظمة منذ الاستعمار، تخدم نفس الأغراض التي كان يخدمها أيضاً، وحتى في الفترة التركية السابقة للاحتلال البريطاني، من حيث فرض الوحدة على مجموع البلاد بالقوة، من أجل استحواذ السلطة، على حساب حقوق الشعب السوداني من قبل الحكام وأتباعهم، فمنذ حكم الرئيس (إبراهيم عبود) للفترة (1958-1964)، كان همه إيقاف العمل بالدستور، وتعطيل البرلمان، والقضاء على نشاط الأحزاب السياسية، ومنح المجالس المحلية المزيد من السلطة وحرية العمل، كما اتخذ سياسة فاقمت من مشكلة جنوب السودان، حيث عمل على أسلمة وتعريب الجنوب قسراً.
وكذلك لم يختلف كثيراً إسماعيل الأزهري، الذي تولى منصب رئاسة السودان، بعد قيام ثورة أكتوبر 1964، وأيضاً (جعفر النميري) الذي بادر عام 1983، إلى تقسيم الجنوب، الذي كان ولاية واحدة إلى ثلاث ولايات (أعالي النيل وبحر الغزال والاستوائية)، خشية من سيطرة قبيلة الدينكا – أكبر القبائل- على مقاليد الأمور في الجنوب، وكان ذلك إعلاناً بإلغاء اتفاقية أديس أبابا، التي نصت على جعل الجنوب ولاية واحدة.
وعندما استلم السلطة المشير (سوار الذهب) أثناء انتفاضة أبريل 1985، بصفته من قيادات الجيش العليا، حاول في مسألة تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السودانيين، من خلال مائدة الحوار للتباحث حول القضايا المصيرية للبلاد، والعمل على إخراج السودان من أزماته والتصدي للاستهداف الخارجي، حيث هناك بعض الجهات تسعى لتفتيت السودان والنيل من استقراره، لكنه لم يستطع فعل الكثير، نظراً لمواجهته تيارات وخصوم مناوئة، لقصر مدة رئاسته للجمهورية السودانية، حين قام بعمل غير مسبوق في العالم العربي، بتسليم السلطة للحكومة المنتخبة في العام التالي.
لقد ظلت هذه الحكومات وحتى في عهد الرئيس (عمر حسن البشير)، تتمسك بعنصرين من عناصر الواقع السوداني، (العروبة والإسلام) مما قاد إلي المواجهات والتمردات وإشعال نار الحرب. وذلك الذي اتضح جلياً في المسألة الجنوبية ( كل الحكومات التي تعاقبت علي حكم السودان انفردت بالسلطة دون استشارة الآخرين الموجودين في الدولة السودانية، وكان نتاج ذلك هو الفشل، وعدم المقدرة في بناء وطن موحد لجميع مواطنيه على اختلافهم، إضافة إلي ما تقدم، فقد ذهبت هذه الحكومات إلي فرض أحادية دينية وثقافية، وذلك ببناء دولة عربية إسلامية في السودان تتميز بتهميش الآخر الديني والثقافي, رغم التعدد والتنوع الديني والثقافي الذي يتميز به المجتمع السوداني.
السودان في ظل صناعة الأزمات
لقد اتُهمت الحكومة كما الحكومات السابقة، بالتخصص في خلق الأزمات المفتعلة وتتاليها، وفي إعادة إنتاجها، وتسعى إلى خلق أزمات متحركة من شأنها البقاء لمدة أطول في السلطة "في حين أن السودان بحاجة إلى من يوقف الأزمات، وليس من يصنعها أو يعيد إنتاجها كما يحدث حالياً.
وتطابقت رؤى بعض المحللين السياسيين، حول الأسباب والأهداف الحقيقية لتوالي الأزمات السودانية وتكاثرها بصفة تراكمية، الأمر الذي يقود الجميع للاعتقاد بظلمة مستقبل البلاد على المنظورين القريب والبعيد.
وعلى الرغم من سعي الحكومة لمعالجتها واحدة تلو الأخرى، قبل أن تعود ذات الأزمات إلى الظهور من جديد، يرى محللون متابعون أن للحكومة دوراً، وإن كان غير مباشراً في تأجيجها وسوقها نحو الانفجار، لأجل البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة.
وبينما ترفض الحكومة تلك الاتهامات التي تعتبرها مغرضة، فإن ما يثيره المناوئون لها ربما أقنع الجميع بأن الحكومة – وإن لم تكن كلها– تسعى للبقاء دون النظر إلى بعض السياسات الخاطئة التي تنفذها.
وكان الرئيس عمر البشير، قد طلب من القوى السياسية المعارضة الجلوس حول طاولة للحوار لأجل مستقبل البلاد ووضع حد لأزماتها المتلاحقة، الأمر الذي اعتبرته قوى المعارضة مناورة لإطالة بقاءه على رأس النظام في السلطة.
غير أن بعض الدارسين اعتبروا، أن الحكومة ظلت تنتهج سياسة الوقوف على حافة الهاوية، وتعتبر أن التراجع عنها لا يتم إلاّ عبرها. وعزا البعض مكمن الخطورة في سياسة الحكومة سيكون عند النقطة، التي تنعدم فيها الوسائل اللازمة التي يمكن من خلالها التراجع عن السقوط في الهاوية، بالنظر إلى تزايد الأزمات السودانية، بصورة غير مبررة، مما يؤكد رغبة الحكومة في ذلك.
على أن ما يتم من خلق للأزمات يشكل صورة غير طبيعية، توصل القضايا المطروحة إلى ما بعد حدود المعقول، رغم أن السودان أصبح لا يتحمل مزيداً من الأزمات، التي تتوزع من انفصال الجنوب إلى أزمة دارفور، إلى المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية المختلفة، وحتى خارج الحدود مع المحكمة الجنائية الدولية، والمجتمع الدولي بشكل عام.
البشير أمام أزمة الجنوب
كما مر بنا فقد بدأت حرب الجنوب قبل إعلان الاستقلال، بدأت الحرب في الجنوب، واستمرت أكثر من 17 عاماً، وتوقفت مدة عشر سنوات، ثم اشتعلت من جديد، واستمرت عشرين عاماً آخرين، راح فيها الآلاف من الضحايا، واستنزاف المليارات من الدولارات، وبعد جهد تم التوصل إلى اتفاقية سلام، لكن لم تدم طويلاً، لبروز قضية دارفور التي بدأت كقضية تقليدية، (صراع قبلي تقليدي) تحول فيما بعد، إلى صراع بين بعض مواطني دارفور والحكومة السودانية، إضافة إلى أن الاتفاقية، اصطدمت بمسألة الحدود، وإعادة انتشار القوات المسلحة، حينما رفض البشير سحبها من الجنوب.
صاحب ذلك تفجر مجموعة من التصريحات، سواء من حزب المؤتمر الوطني، أو من قِبل الحركة الشعبية، حول طبيعة العلاقة التي تجمع الحركة بالحزب أو بالسلطة. وأبرز شدة التصادم بين أسلوبين مختلفين لطرفين، هما في طور التعارف عن قرب من جديد، بعد ما كانا بالأمس القريب خصمين وعدوين لدودين.
وكانت الحركة اتهمت الشمال، بعدم معاملته لها كشريك، واتهمت البشير باعتياده لسنوات طويلة حكم السودان، والسيطرة على الشأن السوداني على نوع صريح من الشمولية، وأيضاً من خلال (حزب المؤتمر الوطني) بشن، حملات تشويه لعناصر الحركة، حيث كان الحزب يتحدث بين الفينة والأخرى، عن وجود انقسامات داخل الحركة، وعن وجود خلافات تهددها في كيانها، وبالتالي لم تكن الحركة تؤدي ما هو مطلوب منها على الشكل الإيجابي بالنسبة للسودان، الأمر الذي كان ينفيه البشير في كل مرة.
وبالمقابل فقد كان الجنوبيون يمارسون السلطة في الجنوب، في جوٍ من انعدام الثقة، على اعتبارهم دولة مستقلة تماماً عن المركز، بدليل تعطيل كل المؤسسات الحكومية الاتحادية، مثل الضرائب والجمارك والأبعد من ذلك، أن الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة، تتعامل مع مسألة سفر الجنوبيين عن طريق مكتب الحركة فيها، وليست عن طريق سفارة السودان.
وقد اعتبرت منطقة أبيي الغنية في مواردها النفطية والزراعية، من أصعب القضايا خطورة، حيث تسكنها قبائل المسيرية قبائل عربية، والدينكا قبائل جنوبية. ويمتلك كل من حكومة الخرطوم وحكومة جنوب السودان، أتباعاً ودعماً قوياً، في هذه المنطقة، وخاصةً التي كانت منطقة قتال أساسية خلال الحرب الأهلية.
وإذا ما التحقت بالجنوب، فقد يكون لذلك تداعيات اقتصادية خطيرة على الشمال، خاصة في ضوء مطالبة الجنوب بضمها إليه، بالرغم من أن لد الشمال من الوثائق ما يدل على أنها شمالية، وهي موجودة في مصلحة المساحة، في الوثائق البريطانية، والمعروفة منذ العام 1905.
وكان البشير قد قال:" إن السودان قد يلجأ إلى رفع السلاح بوجه الدولة الجديدة في الجنوب إذا لم تحل مشكلة منطقة (أبيي) وأضاف إن (أبيي)، جزء لا يتجزأ من السودان، وإن أي محاولة للإخلال بالبروتوكول الموقع بين البلدين سيؤدي إلى تجديد الصراع بينهما.
البشير وأزمة فى دارفور
بدأت أزمة دارفور عام 1986، وأصبحت في بؤرة الأحداث نتيجة الأجندات الخارجية، ذات المآرب الآنية والمستقبلية، بأيادٍ سودانية، ظاهرها من أجل وقف أي انتهاكات إنسانية، ولكن الحقيقة تظهر واقعاً صراعيا، على الموارد الطبيعية الموجودة هناك، بالإضافة إلى نوايا استعمارية للمنطقة من جديد. وفي جزءٍ منها يعود على خلفية الاحتكاكات بين القبائل التي تعتمد فى معيشتها على الـزراعة، وتلك التي ترعى الماشية.
كذلك منذ بداية نشاط الحركة الشعبية فى جنوب السودان، سعت الحركة إلى إيجاد موطئ قدم لها فى الإقليم عن طريق تجنيد بعض أفراد القبائل، وتسليحهم.
قابله فشلاً سياسياً حكومياً، في إقامة الدولة الوطنية، وإنجاز التنمية العادلة على مستوى القطر، فالسودان منذ الاستقلال ورث الدولة الكولونيالية بحدودها الإدارية واقتصادها وطريقة الحكم، دون أن يحولها إلى دولة وطنية حديثة، تحقق الاندماج القومي أو الوحدة في التنوع الثقافي، بحيث يشعر الجميع بالمواطنة التي تساوي الجميع، بغض النظر عن الأديان أو الثقافات.
لقد تعاقبت الحكومات الوطنية منذ الاستقلال 1956، ولم تهتم بالإقليم فتركزت التنمية والامتيازات في العاصمة، وفي المنطقة النيلية الوسطية الشمالية، وكان هذا الوضع يبدو وكأنه التطور الطبيعي لكل دول العالم الثالث، ولكن مع ازدياد التهميش والفقر ومع بروز فئات متعلمة وواعية في تلك المناطق، أصبح من الصعب اعتبار أن الأمر الواقع هو أفضل الممكن، وكانت أهملت الحكومات الوطنية قضية التنمية باستمرار، فقد كانت برامجها شبه خالية من التنمية تماماً، لذلك لم تقم الحكومة أية مشروعات أثناء توليها الحكم، إلاّ من بعض المشروعات الصغيرة والهامشية، وبدا وكأن التنمية والديمقراطية لا يلتقيان، وهذه مشكلة سياسية وفكرية تواجه السودانيين على الدوام.
لقد ساعدت سياسات الحكومة المركزية في الخرطوم، والتي ظلت تنظر إلى دارفور بأنها منطقة تقوم على بركان، بعد عملية التمرد التي قام بها (داود بولاد) القيادي في الجبهة الإسلامية القومية والذي أصبح موالياً للحركة الشعبية بقيادة (جون غارانغ) في بداية التسعينيات، بسبب موقف قادة الجبهة من الصراع القبلي، بين قبيلته الفور، وبعض المجموعات العربية، وقاد مجموعة من مقاتلي الحركة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1991، بهدف السيطرة على منطقة جبل مرة، لإعلان انضمام الفور للتمرد. إلاّ أن الحكومة استنفرت جميع القبائل وخاصة العربية التي استطاعت القضاء على قواته، وألقي القبض عليه وأعدم في العام 1992.
وفيما بعد تحولت دارفور إلى منطقة عمليات عسكرية تمامًا، لمواجهة التحالف الجديد خاصة وأن الحكومة بدأت في التنبه لخطورة الادعاءات، التي بدأت تنتشر من أن مسلحي قبيلة الزغاوة يسعون لإقامة (دولة الزغاوة الكبرى)، والتي تضم دارفور وتشاد وأجزاء من ليبيا والنيجر. وباتت الأمور أكثر تعقيداً، في فبراير 2003، عندما شنت حركتا التمرد في غرب السودان(جيش تحرير السودان) و(حركة العدل والمساواة) تمردًا مسلحًا ضد حكومة الخرطوم، مطالبة بنصيب أكبر من السلطة والثروة، وكان التمرد مدعومًا من قبل الحركة الشعبية، والمدعوم من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا عن طريق أوغندا بشكل رئيسي.
وأدت هذه الأحداث، إلى لفت انتباه العالم والرأي العام المحلي داخل السودان، الذي ربما لم يسمع من قبل بالتمرد المسلح، وبدأت الحكومة في التعبئة لسحق التمرد عسكريًا، واستنفرت القبائل المختلفة لمواجهة تطورات الأحداث ومنها قبيلة "الجنجاويد"، التي تحولت مليشيات من أداة لقتال المتمردين، إلى أداة هدم ضد المواطنين العزل، واستغلت الأوضاع لصالحها. والذي كان في أثر تلك الأعمال، إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال، بحق الرئيس البشير، لانتهاكات مزعومة في دارفور.
وكان الرئيس السوداني قد لجأ إلى تعين نائباً لرئيس الجمهورية من إقليم دارفور وللمرة الأولى، منذ منتصف هذا الشهر، وهو الحاج آدم يوسف، والذي ينحدر من قبيلة بني هلبة التي تستوطن الإقليم، خاصة في ظل الظروف الراهنة بعد تجمع عدد من الحركات المسلحة وعودة رئيس حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم إلى دارفور، على أمل تجدد المفاوضات، للتوصل إلى اتفاقية سلام، تشمل جميع الأطراف.
لكن المسلحين في دارفور قللوا من شأن تلك الخطوة وقالوا إنها لن تؤدي إلى إنهاء حالة التهميش، لغير العرب أو تتيح لهم دوراً أكبر في تسيير السلطة في الخرطوم، ونذكر هنا أن الرئيس كان قد عين سلفاكير من الجنوب، في منصب النائب الأول، لرئيس الجمهورية، ولم يشفع له ذلك، حتى تم انفصال الجنوب.
يذكر أن الحكومة السودانية وقعت منتصف تموز/يوليو الماضي اتفاقية سلام مع "حركة التحرير والعدالة" الناشطة في إقليم دارفور، لكن دون مشاركة حركات التمرد الكبيرة في الإقليم، وذلك بعد 30 شهرا من المفاوضات برعاية الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وقطر والجامعة العربية.
ومن جهةٍ أخرى، أبلغت السلطات السودانية 17 حزباً سياسياً بإيقاف نشاطاتها، مبررة قرارها بأن معظم قادة هذه الأحزاب وأعضائها ينحدرون من جنوب السودان، وهم الآن باعتبارهم أجانب بالسودان، ومن بين الأحزاب التي شملها القرار حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان(الشمال)، الذي اعتبرته السلطات حزباً غير قانوني، وكان أكد الرئيس البشير مسؤوليته عن كل ما يجري في البلاد. ولكنه عزا ما جرى في دارفور بخاصة، على أنه بالأساس بمثابة صراعاً تقليدياً من مخلفات عهد الاستعمار.
أزمة البشير وحسن الترابي
تمتد العلاقة الصراعية بين الرئيس البشير، والدكتور حسن الترابي، الأمين العام للمؤتمر الشعبي، منذ زمن بعيد، بعدما كانا حلفاء في الحكم، وتوضحت معالمها أكثر، في الفترة الأخيرة، وخاصة إبان فترة الانتخابات السودانية، حين أكد الترابي أن الخطر الذي يواجه السودان في حال فوز عمر البشير بالانتخابات الرئاسية، سيكون أخطر من الصومال، لأن الصومال تضم شعباً واحداً وديناً واحداً، بعكس السودان الذي يحوي شعوباً وديانات كثيرة، ما قد يفاقم الوضع السوداني العام إلى صراعات وحروب.
وكان حذر الترابي، نتيجة حكم البشير، من تزايد نزعة القبلية والمحلية الإقليمية في السودان، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى حكومة جديدة، تتولى حل أزمة دارفور والحيلولة دون منع الجنوب من الانفصال.
وكان يرى، أن تسوية أزمة دارفور لا يستغرق سوى عدة أيام، منتقداً أسلوب معالجة الأزمة الذي جاء مختلفاً للغاية عن طرق التعامل مع أمة الجنوب.
فيما اتهم الرئيس عمر البشير، حسن الترابي بإرسال مواطنين للانضمام إلى حركة العدل والمساواة، وأعلن أن عهد الاعتقالات السياسية والإقصاء السياسي ولى بلا رجعة، وقال:" إن أمنية الترابي أن يكون رئيسًا للسودان".
وكانت السلطات السودانية تعتقل حسن الترابي. في كل مرة، وعلى إثر كل حادثة، سواءً كانت بسيطة تتعلق بوجهة نظر، أو كبيرة تتعلق بمثل الدعوة إلى انتفاضة شعبية للإطاحة بالنظام.
وكانت حكومة الخرطوم قد أكدت على حصولها على وثائق، تثبت تقديم حسن الترابي، الدعم لحركة العدل والمساواة المتمردة، في إقليم دارفور، الأمر الذي عمل على تعميق روح الصراع فيما بينهما.
أزمة البشير مع الصادق المهدي
بموجب اتفاق تم بين الرئيس البشير والصادق المهدي عام 1999، عاد بموجبه الصادق لأرض الوطن، بعد سنوات مع العمل المعارض في المنافي، ومنذ ذلك الحين تراوحت علاقات البشير مع الصادق المهدي، ما بين الدفء السياسي الذي يسود أحياناً، وبين النقيض من ذلك تماما،ً فيما يبدو من التصريحات التي تعقب كل حادثة أو قضية تكون مثار خلاف للرأي، بالرغم من حراكهما الدؤوب إلى نتاج سياسي ملموس، فيما تؤكد قيادات أخرى هنا وهناك، بأن التفاوض بين الرجلين، أو بالأحرى حزبيهما، قطع أشواطاً بعيدة، أبعد حتى من الاتفاق على أغلب القضايا الخلافية بينهما.
لم تكن هناك أزمة - حتى ولو كانت - فمتى جلسا سوياً وتناقشا في الشأن العام، فيمكن تسوية كل الأمور العالقة بينهما، وخاصةً منذ أن عاد الأخير إلى البلاد، عقب توقيع اتفاقية نداء الوطن.
وكان من جملة الاتفاقات التي وقعها الزعيمان، منذ مايو 2008، حيث توافقا فيها على كل شيء تقريباً ابتداءً من الثوابت الدينية والثوابت الوطنية، وأزمة دارفور وغيرها.وبالرغم من كل ما تقدم، فإن هناك من المطلعين على الأوضاع الخاصة لكلا الرجلين، رأوا عكس ما تم الإعلان عنه، إذ لم تنه كل المسائل العالقة على الوجه الصحيح، بل ذهبوا أكثر من ذلك، وهو أن اللقاءات، التي جمعت بين الرجلين، منذ العام 1991، لم تفض إلى شيء، لعلة أن اللقاءات السياسية، غلب عليها التكتيك، وعدم الجدية أحياناً، كما يقول البعض، فحزب الأمة الذي يرفع الأجندة الوطنية مثل مشكلة دارفور والمسألة الاقتصادية والحكومة القومية وتأمين الحريات والعلاقات الخاصة مع دولة الجنوب، وما إلى ذلك من الأجندة، يريد في الواقع تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية الخاصة، وذلك بهدف الوصول إلى إقامة حكومة قومية، وهو ما يجعل البشير يبتعد أكثر فأكثر، ويجعل تخوفاته تزداد يوماً بعد يوم. بالرغم من حرصه على توسيع قاعدة حكمه، تحت مظلة برامجه السياسية، التي يرغم من خلالها في أغلب الأحيان لتقديم التنازلات المؤلمة، لأجندات خارجية.
ومهما يكن من أمر، فمن خلال عشرات اللقاءات، التي تمت بين الرئيس البشير والصادق، فإن كل منهما عرف جيداً أقصى ما يمكن أن يقدمه له الآخر من تنازلات، وما لا يمكن التزحزح عنه مهما تعددت اللقاءات، وبالتالي فإن التوصل لنتائج ايجابية في أيِّ لقاء محتمل يتطلب مرونة فوق المعتاد، وتنازلات مؤلمة نوعاً ما من الطرفين يتم فيها تغليب الإستراتيجي من القضايا على حساب التكتيكي، وتغليب الوطن على (الوطني والأمة القومي) حتى لا تتحول اللقاءات جميعها إلى النقيض أو الصدام، على الأقل لضمان تماسك الجبهة الداخلية، الهشة أصلاً.
البشير وأزمات السودان الاقتصادية
معلوم أن السودان كدولة، تتميز بموقع استراتيجي هام، كان له الأثر الكبير فى أن تكون دولة اقتصادية مؤثرة فى السوق العالمي، من خلال الثروات المختلفة التي تذخر بها، وأن تكون أيضاً مؤثرةً من خلال الثروة الزراعية (سلة الخبز) في العالم العربي على الأقل، فمنذ العام 1989، وبعد انقلاب الجبهة الإسلامية على النظام الديمقراطي، وعمل الإسلاميون على تغيير الخارطة الاقتصادية فى التبعية للنظام الرأسمالي الجبان وتصدير رؤوس الأموال السودانية إلى الدول المستعمرة، وظل الاستعمار موجود بشكله الاقتصادي الجديد واتبع النظام سياسة الاحتكار للسلع الاستهلاكية، مما أدى إلى ارتفاع أسعارها، مما أدى إلى عجز المواطن السوداني عن شراءه. وبعد استخراج البترول تفاقمت الأمور سوءاً، نظراً لتمويل الأمن والجيش والحرب التي عانى منها السودان كثيراً وإلى يومنا هذا، وأيضاً عدم تمويل مجالات رئيسية وحيوية، كالزراعة والصحة والتعليم، مما أدى إلى انهيار الكثير من المشروعات التنموية المختلفة، وانهارت أصول المشروعات نتيجة للخصخصة السالبة، التي اتبعها البشير.
هذه الأمور كان لها مردودات سلبية خطيرة أثرت بشكلٍ كبير على المواطن السوداني وفي جميع مجالات الحياة، حتى بلغ خط الفقر نسبة أكثر من90% وهذا ما يجعل السودان برمته في أزمة لم يعهدها من قبل، وخاصةً في ظل الأزمة العالمية، التي عصفت بالكثير من الدول والأكثر تقدماً.
فالسياسة الاحتكارية التي شهدها السودان، أدت إلى تراكم رؤوس الأموال فى يد السلطة وتجارها مثل أنشطة جهاز الأمن الاقتصادية، عبر شركاته الربحية فى التعامل مع الشركات عابرة القارات، عبر الأسهم العالية القيمة، الأمر الذي أدى إلى كساد الأسواق، وأصبح التضخم في حالة متزايدة، وهذا بدوره أدى إلى انهيار البنية التحتية، التي يعتمد عليها المواطن البسيط، الأمر الذي كان له تأثيرات سلبية على مجموع الطبقة العاملة، ناهيك عن التعامل مع قرارات البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، عبر تمرير سياسات الخصخصة الغير مدروسة، والتي من شأنها أن تفاقم الوضع الذي لا يتوجب حدوثه فقط، بل يجب التصدي له
دور الولايات المتحدة وبريطانيا في إدارة الأزمات السودانية
كانت الولايات المتحدة قد فرضت عقوبات، على حكومة الرئيس عمر البشير عام 1997، متهمةً إياها برعاية الإرهاب، ومنذ العام 2001، والحكومتان الأمريكية والبريطانية تسعيان إلى فرض ما تسمى مفاوضات السلام، مع الحركة الشعبية، وقد تم إجبار حكومة البشير على تقديم التنازل تلو الآخر في تلك المفاوضات.
الولايات المتحدة التي ورثت بريطانيا في المنطقة، تستخدم المبدأ الاستعماري نفسه، (التجزئة والتقسيم)، ولكن بأساليب جديدة وأدوات مستحدثة. وهي اللاعب الرئيس في الساحة السودانية الآن، ساعدها في ذلك ضعف وهشاشة القوى السياسية السودانية داخلياً، وضعف المنظومة العربية المتمثلة في الجامعة العربية، والسيطرة على الكثير من دول الجوار السوداني. وهي تعمل مع إسرائيل بحماس شديد هذه الفترة، لتسوية مشكلات جنوب السودان بما يضمن لها أكبر قدر من النفوذ والمصالح في السودان، وكان قبل عامين رتبت لوقف إطلاق النار في جبال النوبة وتواجدت عسكريًا في تلك البقعة، لتنطلق منها إلى شمال السودان بعد أن ضمنت جنوبه، وفي هذا السياق ليس مستغربًا أن يلمح مسئول بوزارة الخارجية الأمريكية، إلى إمكانية حل مشاكل دارفور بنفس الطريقة، التي عولجت بها مشكلة الجنوب في إشارة إلى مبدأ تقرير المصير، وهو ما بدأ يردده متمردو دارفور مؤخرًا، مع مطالب أخرى تشمل تقسيم الثروة والسلطة.
ومن هنا ندرك أن الأجندات الغربية والولايات المتحدة، لن تتوقف عند انفصال الجنوب، إنما ستطال أجزاء السودان الأخرى. فقضايا دارفور وجبال النوبة وغيرها، تظل روافد تغذي الرغبات الغربية والأمريكية، للمضي قدماً لتقسيم السودان وترويضه، من خلال القضاء على القوميين السودانيين، الذين يصرون على تطوير البلاد وفق رؤيتهم المستقلة، كما ستؤدي إلى اختتام سلسلة تحولات القوى الجيوبوليتيكية في أفريقيا، خاصة في منطقة البحيرات وحوض النيل.
إن "تغيير النظام" في الخرطوم سيعطي الأنجلوأمريكيين مدخلاً، للسيطرة على المخزونات النفطية الكبيرة للسودان، ومن ناحية أخرى ستتمكن هذه القوى من خلال السيطرة على الخرطوم من استخدام مياه النيل بهدف الضغط على الدولة المصرية الجديدة، ومن ثم إيصالها إلى إسرائيل.
وكان حذر المبعوث الأمريكي الخاص للسودان (برنستون ليمان) من أن دولة جنوب السودان، يمكن أن تنجر إلى الصراع، في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان في السودان، التي أعلنها الرئيس البشير، خاضعة لقانون الطوارئ، الذي جلب حفيظة الولايات المتحدة، الأمر الذي دعاها إلى تحذير الجنوب وأن يقاوم الإغراء بالتورط في أعمال العنف.
وقال ليمان إن ذلك الصراع يقف حجر عثرة أمام تطبيع العلاقات ببين واشنطن والخرطوم، وأضاف: "بالتأكيد لا نستطيع التقدم إذا كان هناك صراع مستمر"، ويجع ذلك إلى خبث النوايا الغربية والأمريكية.
وفي الأخير
الكل يعلم أن السودان محارب من أعدائه، لما يعلمون من إمكانياته الواسعة، وثرواته المتعددة، لذلك نجد استهداف الدول التي تعادي السودان، في أن يُقسم إلى دويلات، لا يفتر ولا ينقطع على مدار الساعة.
إن أمن السودان والأخطار التي تواجهه وتحديات تطوره ونمائه، مرتبطة إلى حد كبير بمتطلبات العولمة الأمريكية، وبتغيير خارطة المنطقة بأسرها، وأيضاً بالتطورات والمصالح الاستراتيجية الإقليمية والدولية، خاصة أن السودان بلد يمتلك ثروات طبيعية ضخمة، كما وصفها البشير، سودانية من حيث الملكية، وعالمية من حيث الاستهلاك، وهي من الضخامة بحيث لا يغيب عنها التخطيط الاستراتيجي الدولي والإقليمي، الشيء الذي يتطلب تخطيطاً مقابلاً حتى تتحقق المصالح العادلة للدولة.
نحن كعرب عاصرنا الكثير من القضايا السودانية، وخاصةً أحداث الجنوب، وما وصلت إليه الأمور، حيث تمت عملية الانفصال مؤخراً، والتي كانت ضد رغبة جميع الشعوب العربية والإسلامية وستظل ترفض استقلال الجنوب، وحتى لو اعترفت به كل دول العالم، وأيضاً مسألة دارفور التي نأمل أن تُحل قريباً، والأحداث المؤلمة الأخرى، وكنا نحرص كل الحرص، على أمن وسلامة واستقرار السودان، موحداً، وتحت علم واحد، وإن كان بقيادة البشير.
إذا كان استقلال السودان أوائل عام 1956، معناه تحقيق إنجازه الكبير بإسقاط حكم المستعمر البريطاني، منذ العام 1898، فإن الإنجاز الأكبر المتمثل في تحرير الوطن من التبعية الاستعمارية، ظل أمامه تحدياً ماثلاً معجلاً ومؤجلاً، من خلال إشكالات كثيرة ومعقدة، عمل على تغذيتها الاستعمار البريطاني، أثناء جثومه على أرضه، وقبل الرحيل عنه، والتي توضحت في مشكلات جمة، سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها، وتجلت في معارك مختلفة، كانت تثور وتخبو، ومعارك أخرى لم يحن أوان حسمها بعد.
فقد كانت هناك العديد من الأزمات، التي أرّقت القطر السوداني في الماضي، وترافقه في الحاضر، وتنتظره في المستقبل، وكان من أخطر هذه الأزمات التي مر بها، هي مسألة الجنوب السوداني، بالرغم من الدور الذي قامت به القوي السياسية بعد خروج المستعمر واحتلالها للفضاء السياسي بالسودان، من عمليات توافق مبدئي علي توحيد شطري القطر، حيث تراضي ممثلون للجنوب والشمال منذ منتصف عام 1947، على توحيد شطري القطر، ولكن على أرض الواقع، لم يلق قبولاً حينها، للتخوفات الجنوبية المتزايدة، والآتية بشكل خاص من الدول المستعمرة، خاصة وأن بريطانيا كانت قسمت ما بين الشمال والجنوب منذ العام 1930، وهي تبدي عدم تقبلها منذ البداية، أية نوايا بشأن عملية التوحيد، وبالمقابل فإن ذلك يعني في ظل هذا الوضع، فشل سياسات كل الحكومات التي مرت علي حكم السودان، لأن كل الأزمات والمشاكل المتراكمة منذ 1821، إلي 1956، وما بعد، كانت تحتاج إلي بعد نظر وتشخيص دقيق، حتى يكون الحل ممكناً لكل قضايا السودان.
يعزو البعض فشل الحكومات السودانية، في حل أو حلحة مشكلات السودان المختلفة، إلى تجاهل الحكومات، التي تعاقبت على الحكم في الخرطوم، انشغالها في أمور ثانوية وشخصية، وإلى التغافل عن أهم القضايا التي كانت تحدق بالاستقرار السوداني، وهو عدم لجوء تلك الحكومات كفايةً، في عمليات صهر التعدد والتنوع العرقي داخل البلاد، فيما يسمى بعملية الدمج المتبعة في العديد من الدول، وخاصة المتقدمة منها وبالطرق الممكنة، ونتيجة لذلك فشلت هذه الحكومات تماماً، في خلق هوية مشتركة، تجمع كل أهل السودان، بمختلف ثقافاتهم وأجناسهم وأديانهم وقبائلهم،
وقد ظلت الأنظمة منذ الاستعمار، تخدم نفس الأغراض التي كان يخدمها أيضاً، وحتى في الفترة التركية السابقة للاحتلال البريطاني، من حيث فرض الوحدة على مجموع البلاد بالقوة، من أجل استحواذ السلطة، على حساب حقوق الشعب السوداني من قبل الحكام وأتباعهم، فمنذ حكم الرئيس (إبراهيم عبود) للفترة (1958-1964)، كان همه إيقاف العمل بالدستور، وتعطيل البرلمان، والقضاء على نشاط الأحزاب السياسية، ومنح المجالس المحلية المزيد من السلطة وحرية العمل، كما اتخذ سياسة فاقمت من مشكلة جنوب السودان، حيث عمل على أسلمة وتعريب الجنوب قسراً.
وكذلك لم يختلف كثيراً إسماعيل الأزهري، الذي تولى منصب رئاسة السودان، بعد قيام ثورة أكتوبر 1964، وأيضاً (جعفر النميري) الذي بادر عام 1983، إلى تقسيم الجنوب، الذي كان ولاية واحدة إلى ثلاث ولايات (أعالي النيل وبحر الغزال والاستوائية)، خشية من سيطرة قبيلة الدينكا – أكبر القبائل- على مقاليد الأمور في الجنوب، وكان ذلك إعلاناً بإلغاء اتفاقية أديس أبابا، التي نصت على جعل الجنوب ولاية واحدة.
وعندما استلم السلطة المشير (سوار الذهب) أثناء انتفاضة أبريل 1985، بصفته من قيادات الجيش العليا، حاول في مسألة تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السودانيين، من خلال مائدة الحوار للتباحث حول القضايا المصيرية للبلاد، والعمل على إخراج السودان من أزماته والتصدي للاستهداف الخارجي، حيث هناك بعض الجهات تسعى لتفتيت السودان والنيل من استقراره، لكنه لم يستطع فعل الكثير، نظراً لمواجهته تيارات وخصوم مناوئة، لقصر مدة رئاسته للجمهورية السودانية، حين قام بعمل غير مسبوق في العالم العربي، بتسليم السلطة للحكومة المنتخبة في العام التالي.
لقد ظلت هذه الحكومات وحتى في عهد الرئيس (عمر حسن البشير)، تتمسك بعنصرين من عناصر الواقع السوداني، (العروبة والإسلام) مما قاد إلي المواجهات والتمردات وإشعال نار الحرب. وذلك الذي اتضح جلياً في المسألة الجنوبية ( كل الحكومات التي تعاقبت علي حكم السودان انفردت بالسلطة دون استشارة الآخرين الموجودين في الدولة السودانية، وكان نتاج ذلك هو الفشل، وعدم المقدرة في بناء وطن موحد لجميع مواطنيه على اختلافهم، إضافة إلي ما تقدم، فقد ذهبت هذه الحكومات إلي فرض أحادية دينية وثقافية، وذلك ببناء دولة عربية إسلامية في السودان تتميز بتهميش الآخر الديني والثقافي, رغم التعدد والتنوع الديني والثقافي الذي يتميز به المجتمع السوداني.
السودان في ظل صناعة الأزمات
لقد اتُهمت الحكومة كما الحكومات السابقة، بالتخصص في خلق الأزمات المفتعلة وتتاليها، وفي إعادة إنتاجها، وتسعى إلى خلق أزمات متحركة من شأنها البقاء لمدة أطول في السلطة "في حين أن السودان بحاجة إلى من يوقف الأزمات، وليس من يصنعها أو يعيد إنتاجها كما يحدث حالياً.
وتطابقت رؤى بعض المحللين السياسيين، حول الأسباب والأهداف الحقيقية لتوالي الأزمات السودانية وتكاثرها بصفة تراكمية، الأمر الذي يقود الجميع للاعتقاد بظلمة مستقبل البلاد على المنظورين القريب والبعيد.
وعلى الرغم من سعي الحكومة لمعالجتها واحدة تلو الأخرى، قبل أن تعود ذات الأزمات إلى الظهور من جديد، يرى محللون متابعون أن للحكومة دوراً، وإن كان غير مباشراً في تأجيجها وسوقها نحو الانفجار، لأجل البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة.
وبينما ترفض الحكومة تلك الاتهامات التي تعتبرها مغرضة، فإن ما يثيره المناوئون لها ربما أقنع الجميع بأن الحكومة – وإن لم تكن كلها– تسعى للبقاء دون النظر إلى بعض السياسات الخاطئة التي تنفذها.
وكان الرئيس عمر البشير، قد طلب من القوى السياسية المعارضة الجلوس حول طاولة للحوار لأجل مستقبل البلاد ووضع حد لأزماتها المتلاحقة، الأمر الذي اعتبرته قوى المعارضة مناورة لإطالة بقاءه على رأس النظام في السلطة.
غير أن بعض الدارسين اعتبروا، أن الحكومة ظلت تنتهج سياسة الوقوف على حافة الهاوية، وتعتبر أن التراجع عنها لا يتم إلاّ عبرها. وعزا البعض مكمن الخطورة في سياسة الحكومة سيكون عند النقطة، التي تنعدم فيها الوسائل اللازمة التي يمكن من خلالها التراجع عن السقوط في الهاوية، بالنظر إلى تزايد الأزمات السودانية، بصورة غير مبررة، مما يؤكد رغبة الحكومة في ذلك.
على أن ما يتم من خلق للأزمات يشكل صورة غير طبيعية، توصل القضايا المطروحة إلى ما بعد حدود المعقول، رغم أن السودان أصبح لا يتحمل مزيداً من الأزمات، التي تتوزع من انفصال الجنوب إلى أزمة دارفور، إلى المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية المختلفة، وحتى خارج الحدود مع المحكمة الجنائية الدولية، والمجتمع الدولي بشكل عام.
البشير أمام أزمة الجنوب
كما مر بنا فقد بدأت حرب الجنوب قبل إعلان الاستقلال، بدأت الحرب في الجنوب، واستمرت أكثر من 17 عاماً، وتوقفت مدة عشر سنوات، ثم اشتعلت من جديد، واستمرت عشرين عاماً آخرين، راح فيها الآلاف من الضحايا، واستنزاف المليارات من الدولارات، وبعد جهد تم التوصل إلى اتفاقية سلام، لكن لم تدم طويلاً، لبروز قضية دارفور التي بدأت كقضية تقليدية، (صراع قبلي تقليدي) تحول فيما بعد، إلى صراع بين بعض مواطني دارفور والحكومة السودانية، إضافة إلى أن الاتفاقية، اصطدمت بمسألة الحدود، وإعادة انتشار القوات المسلحة، حينما رفض البشير سحبها من الجنوب.
صاحب ذلك تفجر مجموعة من التصريحات، سواء من حزب المؤتمر الوطني، أو من قِبل الحركة الشعبية، حول طبيعة العلاقة التي تجمع الحركة بالحزب أو بالسلطة. وأبرز شدة التصادم بين أسلوبين مختلفين لطرفين، هما في طور التعارف عن قرب من جديد، بعد ما كانا بالأمس القريب خصمين وعدوين لدودين.
وكانت الحركة اتهمت الشمال، بعدم معاملته لها كشريك، واتهمت البشير باعتياده لسنوات طويلة حكم السودان، والسيطرة على الشأن السوداني على نوع صريح من الشمولية، وأيضاً من خلال (حزب المؤتمر الوطني) بشن، حملات تشويه لعناصر الحركة، حيث كان الحزب يتحدث بين الفينة والأخرى، عن وجود انقسامات داخل الحركة، وعن وجود خلافات تهددها في كيانها، وبالتالي لم تكن الحركة تؤدي ما هو مطلوب منها على الشكل الإيجابي بالنسبة للسودان، الأمر الذي كان ينفيه البشير في كل مرة.
وبالمقابل فقد كان الجنوبيون يمارسون السلطة في الجنوب، في جوٍ من انعدام الثقة، على اعتبارهم دولة مستقلة تماماً عن المركز، بدليل تعطيل كل المؤسسات الحكومية الاتحادية، مثل الضرائب والجمارك والأبعد من ذلك، أن الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة، تتعامل مع مسألة سفر الجنوبيين عن طريق مكتب الحركة فيها، وليست عن طريق سفارة السودان.
وقد اعتبرت منطقة أبيي الغنية في مواردها النفطية والزراعية، من أصعب القضايا خطورة، حيث تسكنها قبائل المسيرية قبائل عربية، والدينكا قبائل جنوبية. ويمتلك كل من حكومة الخرطوم وحكومة جنوب السودان، أتباعاً ودعماً قوياً، في هذه المنطقة، وخاصةً التي كانت منطقة قتال أساسية خلال الحرب الأهلية.
وإذا ما التحقت بالجنوب، فقد يكون لذلك تداعيات اقتصادية خطيرة على الشمال، خاصة في ضوء مطالبة الجنوب بضمها إليه، بالرغم من أن لد الشمال من الوثائق ما يدل على أنها شمالية، وهي موجودة في مصلحة المساحة، في الوثائق البريطانية، والمعروفة منذ العام 1905.
وكان البشير قد قال:" إن السودان قد يلجأ إلى رفع السلاح بوجه الدولة الجديدة في الجنوب إذا لم تحل مشكلة منطقة (أبيي) وأضاف إن (أبيي)، جزء لا يتجزأ من السودان، وإن أي محاولة للإخلال بالبروتوكول الموقع بين البلدين سيؤدي إلى تجديد الصراع بينهما.
البشير وأزمة فى دارفور
بدأت أزمة دارفور عام 1986، وأصبحت في بؤرة الأحداث نتيجة الأجندات الخارجية، ذات المآرب الآنية والمستقبلية، بأيادٍ سودانية، ظاهرها من أجل وقف أي انتهاكات إنسانية، ولكن الحقيقة تظهر واقعاً صراعيا، على الموارد الطبيعية الموجودة هناك، بالإضافة إلى نوايا استعمارية للمنطقة من جديد. وفي جزءٍ منها يعود على خلفية الاحتكاكات بين القبائل التي تعتمد فى معيشتها على الـزراعة، وتلك التي ترعى الماشية.
كذلك منذ بداية نشاط الحركة الشعبية فى جنوب السودان، سعت الحركة إلى إيجاد موطئ قدم لها فى الإقليم عن طريق تجنيد بعض أفراد القبائل، وتسليحهم.
قابله فشلاً سياسياً حكومياً، في إقامة الدولة الوطنية، وإنجاز التنمية العادلة على مستوى القطر، فالسودان منذ الاستقلال ورث الدولة الكولونيالية بحدودها الإدارية واقتصادها وطريقة الحكم، دون أن يحولها إلى دولة وطنية حديثة، تحقق الاندماج القومي أو الوحدة في التنوع الثقافي، بحيث يشعر الجميع بالمواطنة التي تساوي الجميع، بغض النظر عن الأديان أو الثقافات.
لقد تعاقبت الحكومات الوطنية منذ الاستقلال 1956، ولم تهتم بالإقليم فتركزت التنمية والامتيازات في العاصمة، وفي المنطقة النيلية الوسطية الشمالية، وكان هذا الوضع يبدو وكأنه التطور الطبيعي لكل دول العالم الثالث، ولكن مع ازدياد التهميش والفقر ومع بروز فئات متعلمة وواعية في تلك المناطق، أصبح من الصعب اعتبار أن الأمر الواقع هو أفضل الممكن، وكانت أهملت الحكومات الوطنية قضية التنمية باستمرار، فقد كانت برامجها شبه خالية من التنمية تماماً، لذلك لم تقم الحكومة أية مشروعات أثناء توليها الحكم، إلاّ من بعض المشروعات الصغيرة والهامشية، وبدا وكأن التنمية والديمقراطية لا يلتقيان، وهذه مشكلة سياسية وفكرية تواجه السودانيين على الدوام.
لقد ساعدت سياسات الحكومة المركزية في الخرطوم، والتي ظلت تنظر إلى دارفور بأنها منطقة تقوم على بركان، بعد عملية التمرد التي قام بها (داود بولاد) القيادي في الجبهة الإسلامية القومية والذي أصبح موالياً للحركة الشعبية بقيادة (جون غارانغ) في بداية التسعينيات، بسبب موقف قادة الجبهة من الصراع القبلي، بين قبيلته الفور، وبعض المجموعات العربية، وقاد مجموعة من مقاتلي الحركة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1991، بهدف السيطرة على منطقة جبل مرة، لإعلان انضمام الفور للتمرد. إلاّ أن الحكومة استنفرت جميع القبائل وخاصة العربية التي استطاعت القضاء على قواته، وألقي القبض عليه وأعدم في العام 1992.
وفيما بعد تحولت دارفور إلى منطقة عمليات عسكرية تمامًا، لمواجهة التحالف الجديد خاصة وأن الحكومة بدأت في التنبه لخطورة الادعاءات، التي بدأت تنتشر من أن مسلحي قبيلة الزغاوة يسعون لإقامة (دولة الزغاوة الكبرى)، والتي تضم دارفور وتشاد وأجزاء من ليبيا والنيجر. وباتت الأمور أكثر تعقيداً، في فبراير 2003، عندما شنت حركتا التمرد في غرب السودان(جيش تحرير السودان) و(حركة العدل والمساواة) تمردًا مسلحًا ضد حكومة الخرطوم، مطالبة بنصيب أكبر من السلطة والثروة، وكان التمرد مدعومًا من قبل الحركة الشعبية، والمدعوم من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا عن طريق أوغندا بشكل رئيسي.
وأدت هذه الأحداث، إلى لفت انتباه العالم والرأي العام المحلي داخل السودان، الذي ربما لم يسمع من قبل بالتمرد المسلح، وبدأت الحكومة في التعبئة لسحق التمرد عسكريًا، واستنفرت القبائل المختلفة لمواجهة تطورات الأحداث ومنها قبيلة "الجنجاويد"، التي تحولت مليشيات من أداة لقتال المتمردين، إلى أداة هدم ضد المواطنين العزل، واستغلت الأوضاع لصالحها. والذي كان في أثر تلك الأعمال، إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال، بحق الرئيس البشير، لانتهاكات مزعومة في دارفور.
وكان الرئيس السوداني قد لجأ إلى تعين نائباً لرئيس الجمهورية من إقليم دارفور وللمرة الأولى، منذ منتصف هذا الشهر، وهو الحاج آدم يوسف، والذي ينحدر من قبيلة بني هلبة التي تستوطن الإقليم، خاصة في ظل الظروف الراهنة بعد تجمع عدد من الحركات المسلحة وعودة رئيس حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم إلى دارفور، على أمل تجدد المفاوضات، للتوصل إلى اتفاقية سلام، تشمل جميع الأطراف.
لكن المسلحين في دارفور قللوا من شأن تلك الخطوة وقالوا إنها لن تؤدي إلى إنهاء حالة التهميش، لغير العرب أو تتيح لهم دوراً أكبر في تسيير السلطة في الخرطوم، ونذكر هنا أن الرئيس كان قد عين سلفاكير من الجنوب، في منصب النائب الأول، لرئيس الجمهورية، ولم يشفع له ذلك، حتى تم انفصال الجنوب.
يذكر أن الحكومة السودانية وقعت منتصف تموز/يوليو الماضي اتفاقية سلام مع "حركة التحرير والعدالة" الناشطة في إقليم دارفور، لكن دون مشاركة حركات التمرد الكبيرة في الإقليم، وذلك بعد 30 شهرا من المفاوضات برعاية الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وقطر والجامعة العربية.
ومن جهةٍ أخرى، أبلغت السلطات السودانية 17 حزباً سياسياً بإيقاف نشاطاتها، مبررة قرارها بأن معظم قادة هذه الأحزاب وأعضائها ينحدرون من جنوب السودان، وهم الآن باعتبارهم أجانب بالسودان، ومن بين الأحزاب التي شملها القرار حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان(الشمال)، الذي اعتبرته السلطات حزباً غير قانوني، وكان أكد الرئيس البشير مسؤوليته عن كل ما يجري في البلاد. ولكنه عزا ما جرى في دارفور بخاصة، على أنه بالأساس بمثابة صراعاً تقليدياً من مخلفات عهد الاستعمار.
أزمة البشير وحسن الترابي
تمتد العلاقة الصراعية بين الرئيس البشير، والدكتور حسن الترابي، الأمين العام للمؤتمر الشعبي، منذ زمن بعيد، بعدما كانا حلفاء في الحكم، وتوضحت معالمها أكثر، في الفترة الأخيرة، وخاصة إبان فترة الانتخابات السودانية، حين أكد الترابي أن الخطر الذي يواجه السودان في حال فوز عمر البشير بالانتخابات الرئاسية، سيكون أخطر من الصومال، لأن الصومال تضم شعباً واحداً وديناً واحداً، بعكس السودان الذي يحوي شعوباً وديانات كثيرة، ما قد يفاقم الوضع السوداني العام إلى صراعات وحروب.
وكان حذر الترابي، نتيجة حكم البشير، من تزايد نزعة القبلية والمحلية الإقليمية في السودان، الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى حكومة جديدة، تتولى حل أزمة دارفور والحيلولة دون منع الجنوب من الانفصال.
وكان يرى، أن تسوية أزمة دارفور لا يستغرق سوى عدة أيام، منتقداً أسلوب معالجة الأزمة الذي جاء مختلفاً للغاية عن طرق التعامل مع أمة الجنوب.
فيما اتهم الرئيس عمر البشير، حسن الترابي بإرسال مواطنين للانضمام إلى حركة العدل والمساواة، وأعلن أن عهد الاعتقالات السياسية والإقصاء السياسي ولى بلا رجعة، وقال:" إن أمنية الترابي أن يكون رئيسًا للسودان".
وكانت السلطات السودانية تعتقل حسن الترابي. في كل مرة، وعلى إثر كل حادثة، سواءً كانت بسيطة تتعلق بوجهة نظر، أو كبيرة تتعلق بمثل الدعوة إلى انتفاضة شعبية للإطاحة بالنظام.
وكانت حكومة الخرطوم قد أكدت على حصولها على وثائق، تثبت تقديم حسن الترابي، الدعم لحركة العدل والمساواة المتمردة، في إقليم دارفور، الأمر الذي عمل على تعميق روح الصراع فيما بينهما.
أزمة البشير مع الصادق المهدي
بموجب اتفاق تم بين الرئيس البشير والصادق المهدي عام 1999، عاد بموجبه الصادق لأرض الوطن، بعد سنوات مع العمل المعارض في المنافي، ومنذ ذلك الحين تراوحت علاقات البشير مع الصادق المهدي، ما بين الدفء السياسي الذي يسود أحياناً، وبين النقيض من ذلك تماما،ً فيما يبدو من التصريحات التي تعقب كل حادثة أو قضية تكون مثار خلاف للرأي، بالرغم من حراكهما الدؤوب إلى نتاج سياسي ملموس، فيما تؤكد قيادات أخرى هنا وهناك، بأن التفاوض بين الرجلين، أو بالأحرى حزبيهما، قطع أشواطاً بعيدة، أبعد حتى من الاتفاق على أغلب القضايا الخلافية بينهما.
لم تكن هناك أزمة - حتى ولو كانت - فمتى جلسا سوياً وتناقشا في الشأن العام، فيمكن تسوية كل الأمور العالقة بينهما، وخاصةً منذ أن عاد الأخير إلى البلاد، عقب توقيع اتفاقية نداء الوطن.
وكان من جملة الاتفاقات التي وقعها الزعيمان، منذ مايو 2008، حيث توافقا فيها على كل شيء تقريباً ابتداءً من الثوابت الدينية والثوابت الوطنية، وأزمة دارفور وغيرها.وبالرغم من كل ما تقدم، فإن هناك من المطلعين على الأوضاع الخاصة لكلا الرجلين، رأوا عكس ما تم الإعلان عنه، إذ لم تنه كل المسائل العالقة على الوجه الصحيح، بل ذهبوا أكثر من ذلك، وهو أن اللقاءات، التي جمعت بين الرجلين، منذ العام 1991، لم تفض إلى شيء، لعلة أن اللقاءات السياسية، غلب عليها التكتيك، وعدم الجدية أحياناً، كما يقول البعض، فحزب الأمة الذي يرفع الأجندة الوطنية مثل مشكلة دارفور والمسألة الاقتصادية والحكومة القومية وتأمين الحريات والعلاقات الخاصة مع دولة الجنوب، وما إلى ذلك من الأجندة، يريد في الواقع تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية الخاصة، وذلك بهدف الوصول إلى إقامة حكومة قومية، وهو ما يجعل البشير يبتعد أكثر فأكثر، ويجعل تخوفاته تزداد يوماً بعد يوم. بالرغم من حرصه على توسيع قاعدة حكمه، تحت مظلة برامجه السياسية، التي يرغم من خلالها في أغلب الأحيان لتقديم التنازلات المؤلمة، لأجندات خارجية.
ومهما يكن من أمر، فمن خلال عشرات اللقاءات، التي تمت بين الرئيس البشير والصادق، فإن كل منهما عرف جيداً أقصى ما يمكن أن يقدمه له الآخر من تنازلات، وما لا يمكن التزحزح عنه مهما تعددت اللقاءات، وبالتالي فإن التوصل لنتائج ايجابية في أيِّ لقاء محتمل يتطلب مرونة فوق المعتاد، وتنازلات مؤلمة نوعاً ما من الطرفين يتم فيها تغليب الإستراتيجي من القضايا على حساب التكتيكي، وتغليب الوطن على (الوطني والأمة القومي) حتى لا تتحول اللقاءات جميعها إلى النقيض أو الصدام، على الأقل لضمان تماسك الجبهة الداخلية، الهشة أصلاً.
البشير وأزمات السودان الاقتصادية
معلوم أن السودان كدولة، تتميز بموقع استراتيجي هام، كان له الأثر الكبير فى أن تكون دولة اقتصادية مؤثرة فى السوق العالمي، من خلال الثروات المختلفة التي تذخر بها، وأن تكون أيضاً مؤثرةً من خلال الثروة الزراعية (سلة الخبز) في العالم العربي على الأقل، فمنذ العام 1989، وبعد انقلاب الجبهة الإسلامية على النظام الديمقراطي، وعمل الإسلاميون على تغيير الخارطة الاقتصادية فى التبعية للنظام الرأسمالي الجبان وتصدير رؤوس الأموال السودانية إلى الدول المستعمرة، وظل الاستعمار موجود بشكله الاقتصادي الجديد واتبع النظام سياسة الاحتكار للسلع الاستهلاكية، مما أدى إلى ارتفاع أسعارها، مما أدى إلى عجز المواطن السوداني عن شراءه. وبعد استخراج البترول تفاقمت الأمور سوءاً، نظراً لتمويل الأمن والجيش والحرب التي عانى منها السودان كثيراً وإلى يومنا هذا، وأيضاً عدم تمويل مجالات رئيسية وحيوية، كالزراعة والصحة والتعليم، مما أدى إلى انهيار الكثير من المشروعات التنموية المختلفة، وانهارت أصول المشروعات نتيجة للخصخصة السالبة، التي اتبعها البشير.
هذه الأمور كان لها مردودات سلبية خطيرة أثرت بشكلٍ كبير على المواطن السوداني وفي جميع مجالات الحياة، حتى بلغ خط الفقر نسبة أكثر من90% وهذا ما يجعل السودان برمته في أزمة لم يعهدها من قبل، وخاصةً في ظل الأزمة العالمية، التي عصفت بالكثير من الدول والأكثر تقدماً.
فالسياسة الاحتكارية التي شهدها السودان، أدت إلى تراكم رؤوس الأموال فى يد السلطة وتجارها مثل أنشطة جهاز الأمن الاقتصادية، عبر شركاته الربحية فى التعامل مع الشركات عابرة القارات، عبر الأسهم العالية القيمة، الأمر الذي أدى إلى كساد الأسواق، وأصبح التضخم في حالة متزايدة، وهذا بدوره أدى إلى انهيار البنية التحتية، التي يعتمد عليها المواطن البسيط، الأمر الذي كان له تأثيرات سلبية على مجموع الطبقة العاملة، ناهيك عن التعامل مع قرارات البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، عبر تمرير سياسات الخصخصة الغير مدروسة، والتي من شأنها أن تفاقم الوضع الذي لا يتوجب حدوثه فقط، بل يجب التصدي له
دور الولايات المتحدة وبريطانيا في إدارة الأزمات السودانية
كانت الولايات المتحدة قد فرضت عقوبات، على حكومة الرئيس عمر البشير عام 1997، متهمةً إياها برعاية الإرهاب، ومنذ العام 2001، والحكومتان الأمريكية والبريطانية تسعيان إلى فرض ما تسمى مفاوضات السلام، مع الحركة الشعبية، وقد تم إجبار حكومة البشير على تقديم التنازل تلو الآخر في تلك المفاوضات.
الولايات المتحدة التي ورثت بريطانيا في المنطقة، تستخدم المبدأ الاستعماري نفسه، (التجزئة والتقسيم)، ولكن بأساليب جديدة وأدوات مستحدثة. وهي اللاعب الرئيس في الساحة السودانية الآن، ساعدها في ذلك ضعف وهشاشة القوى السياسية السودانية داخلياً، وضعف المنظومة العربية المتمثلة في الجامعة العربية، والسيطرة على الكثير من دول الجوار السوداني. وهي تعمل مع إسرائيل بحماس شديد هذه الفترة، لتسوية مشكلات جنوب السودان بما يضمن لها أكبر قدر من النفوذ والمصالح في السودان، وكان قبل عامين رتبت لوقف إطلاق النار في جبال النوبة وتواجدت عسكريًا في تلك البقعة، لتنطلق منها إلى شمال السودان بعد أن ضمنت جنوبه، وفي هذا السياق ليس مستغربًا أن يلمح مسئول بوزارة الخارجية الأمريكية، إلى إمكانية حل مشاكل دارفور بنفس الطريقة، التي عولجت بها مشكلة الجنوب في إشارة إلى مبدأ تقرير المصير، وهو ما بدأ يردده متمردو دارفور مؤخرًا، مع مطالب أخرى تشمل تقسيم الثروة والسلطة.
ومن هنا ندرك أن الأجندات الغربية والولايات المتحدة، لن تتوقف عند انفصال الجنوب، إنما ستطال أجزاء السودان الأخرى. فقضايا دارفور وجبال النوبة وغيرها، تظل روافد تغذي الرغبات الغربية والأمريكية، للمضي قدماً لتقسيم السودان وترويضه، من خلال القضاء على القوميين السودانيين، الذين يصرون على تطوير البلاد وفق رؤيتهم المستقلة، كما ستؤدي إلى اختتام سلسلة تحولات القوى الجيوبوليتيكية في أفريقيا، خاصة في منطقة البحيرات وحوض النيل.
إن "تغيير النظام" في الخرطوم سيعطي الأنجلوأمريكيين مدخلاً، للسيطرة على المخزونات النفطية الكبيرة للسودان، ومن ناحية أخرى ستتمكن هذه القوى من خلال السيطرة على الخرطوم من استخدام مياه النيل بهدف الضغط على الدولة المصرية الجديدة، ومن ثم إيصالها إلى إسرائيل.
وكان حذر المبعوث الأمريكي الخاص للسودان (برنستون ليمان) من أن دولة جنوب السودان، يمكن أن تنجر إلى الصراع، في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان في السودان، التي أعلنها الرئيس البشير، خاضعة لقانون الطوارئ، الذي جلب حفيظة الولايات المتحدة، الأمر الذي دعاها إلى تحذير الجنوب وأن يقاوم الإغراء بالتورط في أعمال العنف.
وقال ليمان إن ذلك الصراع يقف حجر عثرة أمام تطبيع العلاقات ببين واشنطن والخرطوم، وأضاف: "بالتأكيد لا نستطيع التقدم إذا كان هناك صراع مستمر"، ويجع ذلك إلى خبث النوايا الغربية والأمريكية.
وفي الأخير
الكل يعلم أن السودان محارب من أعدائه، لما يعلمون من إمكانياته الواسعة، وثرواته المتعددة، لذلك نجد استهداف الدول التي تعادي السودان، في أن يُقسم إلى دويلات، لا يفتر ولا ينقطع على مدار الساعة.
إن أمن السودان والأخطار التي تواجهه وتحديات تطوره ونمائه، مرتبطة إلى حد كبير بمتطلبات العولمة الأمريكية، وبتغيير خارطة المنطقة بأسرها، وأيضاً بالتطورات والمصالح الاستراتيجية الإقليمية والدولية، خاصة أن السودان بلد يمتلك ثروات طبيعية ضخمة، كما وصفها البشير، سودانية من حيث الملكية، وعالمية من حيث الاستهلاك، وهي من الضخامة بحيث لا يغيب عنها التخطيط الاستراتيجي الدولي والإقليمي، الشيء الذي يتطلب تخطيطاً مقابلاً حتى تتحقق المصالح العادلة للدولة.
نحن كعرب عاصرنا الكثير من القضايا السودانية، وخاصةً أحداث الجنوب، وما وصلت إليه الأمور، حيث تمت عملية الانفصال مؤخراً، والتي كانت ضد رغبة جميع الشعوب العربية والإسلامية وستظل ترفض استقلال الجنوب، وحتى لو اعترفت به كل دول العالم، وأيضاً مسألة دارفور التي نأمل أن تُحل قريباً، والأحداث المؤلمة الأخرى، وكنا نحرص كل الحرص، على أمن وسلامة واستقرار السودان، موحداً، وتحت علم واحد، وإن كان بقيادة البشير.