الجمعة، 14 أكتوبر 2011

ظاهرة اسمها صدّام حسين



kolonagaza7

ليس الغرض من هذه المقالة تسطير المديح، أو تعداد المناقب لشخصية صدام حسين، فهذا الموضوع في نظر الكثيرين أوسع من أن تغطيه مقالة قصيرة كهذه، وقد كتب فيه الكثير، وسيكتب فيه آخرون.
كما أن غرض هذه المقالة ليس ذم الرجل أو قدحه، أو تعداد أخطائه، والتي يذهب البعض الى تسميتها بالجرائم، وهي كما يدعون كثيرة وكثيرة... وهي أيضاً ليست موضوع نقاشنا هذا، خصوصاً أنها بالذات تحتمل كثيراً من النقاش وفيها تباين كبير لوجهات النظر. وقد غطى هذا الموضوع كتاب كثيرون وتحاشاه عدد اكبر. وبين هذين الفريقين يقف آخرون من المتمهلين في إصدار حكمهم، ومن المتأنين في تحديد اتجاههم ومترددين في حسم موقفهم، ويبقون يزعمون أنهم بانتظار زوال غبار المعركة وانقشاع الموقف.
ورغم إن موضوعنا ليس عن كل هذا، غير إنه أيضاً عن كل ذاك. وهو موضوع سنحاول فيه تناول الظاهرة التي أسمها "صدام حسين" بعيداً عن شخصنة المواقف والملابسات، وسنحاول تناول الظاهرة من زاوية أوسع واشمل.
ولكن ظاهرة كبيرة ومؤثرة كظاهرة "صدام حسين" لا يمكن في واقع الامر تجريدها من شخصية صاحبها، ومما تتمتع به تلك الشخصية من مزايا، وهي عوامل مهمة في تكوين الخلفية النفسية للشخصية أولاً ومن ثم الظاهرة.
وقبل المضي قدماً في موضوعنا هذا، يجب الانتباه إلى أن ظاهرة "صدام حسين" ليست غريبة عن تراث الشعوب، وخصوصاً الحية منها. وهي ليست الأولى في تاريخنا العربي الإسلامي ولن تكون الأخيرة بالتأكيد... فقد زخر تاريخنا العربي الإسلامي بالقمم الشاهقة، وهو قادر على أن ينجب أمثالها... كما كان زاخراً بالنماذج الرديئة على مر العصور.
يقول أحد رفاق طفولة صدام حسين، وأدعو الله أن يكون بخير الآن، إنهم كانوا صبياناً يلعبون في البادية حين سمعوا عواء ذئب. فر الجميع إلا صدام الذي قال لهم: لماذا نهرب منه؟ لماذا لا نهاجمه نحن ونجعله يهرب منّا؟ إن هذه الحكاية البسيطة في تفاصيلها والكبيرة في معانيها، لا تؤشر فقط جانب الشجاعة في الشخصية، وإنما تؤشر جانباً مهماً من شخصية وسلوك صدام حسين: حينما لا يكون هناك مفر من المواجهة، فخذ أنت زمام المبادرة وأختر التوقيت بنفسك ولا تتركه لعدوك.
لقد طبع هذا الجانب السلوكي كثيراً من سياسات العراق تحت ظل البعث، وكان عاملاً حاسماً في كثير من معاركه التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، ومازالت مستمرة لحد الآن، ابتداءً من تأميم النفط مروراً بالحرب العراقية الإيرانية، ويوم النداء وأم المعارك، وحتى معارك المقاومة الدائرة حالياً. وفي كل هذه المواقف، لم يكن هناك بد من المجابهة، وان كان بالامكان تأجيل بعضها، وكان العراق هو الذي أختار التوقيت المناسب للمواجهة الشاملة، مع تقدير الظروف الدولية التي أحاطت بكل حدث منها.
وعلى سبيل المثال، فقد كان الرد العراقي الواسع في 22/9/1980 على الاعتداءات الإيرانية التي بدأت في 4/9/1980 هو اختيار لساعة المواجهة، وهو الموقف عينه حين تم اختيار 2/8/1990 كموعد لبدء أم المعارك الخالدة، بديلاً عن الموت ألبطي بانتظار الضربة القاضية. وهي هذه الخاصية إلى جانب الشجاعة الشخصية هما اللتان دفعتا الشاب صدام حسين للتصدي لعبد الكريم قاسم في شارع الرشيد في 7/10/1959.
لكن هذه الخاصية لم تكن إلا واحدة من الخواص الكثيرة التي طبعت تاريخ الظاهرة. ويتمتع كل القادة العظام وبدرجات متفاوتة بخواص كثيرة منها القدرة العالية على تحمل الظروف الصعبة، والقدرة على تحمل مسؤولية اتخاذ القرار المناسب تحت أعلى الضغوط، مستندين إلى رؤية مستقبلية للأحداث، وتوقع عال لحركة الخصم القادمة. كما يتمتع القائد الجماهيري بجاذبية شعبية (كاريزما) تجعل تفاعله مع الجماهير سريعاً ومؤثراً، ويستطيع بها أن ينمي لدى الجمهور روح التضحية في سبيل المبادئ التي يبشر بها، ويجعل تلك الجماهير مستعدة لتحمل التضحيات الكبيرة على طريق تحقيق الأهداف المنتظرة. ويزداد القائد إقناعاً وحباً في قلوب مريديه كلما كان مخلصاً لمبادئه، ناكراً لذاته، عادلاً في قراراته ومؤمناً بشعبه وحازماً وحاسماً ورحيماً في آن واحد.
وبدون شك، فأن أفضل من تمتع بهذه الصفات وتحلى بها في أعلى معانيها، هو الرسول الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وليس المقصود بهذه المقالة مقارنة أحد به، أو الإيحاء بذلك مطلقاً، فهو القمة الأعلى التي لا تضاهى، والأسوة الحسنة التي لن يصل إليها احد.
لكن ما جعل ظاهرة "صدام حسين" متميزة عن ظواهر أخرى مماثلة هو حجم التحديات التي واجهها وطبيعة الظروف الدولية التي كان عليه التعامل معها، والمنطقة التي ظهر فيها. فالعراق كان قديماً وحديثاً قلب العالم الجغرافي، وهو منطقة غنية بكل شيء: الماء والأرض والنفط والمعادن والموقع الجغرافي، وهي عوامل طبعت شعب العراق بمواصفات خاصة، جعلته يؤثر سياسياً فيما حوله... وعلى مر التاريخ كان نهوض العراق نهوضاً للأمة، ولم تنهض الأمة بدون العراق أبدا... وكان العراقيون في قلب الحدث دوما.
لقد عاشت كثير من الظواهر المعاصرة مثل ماوتسي تونغ وجواهر لال نهرو وفيديل كاسترو وعمر توريكوس وغيرهم في ظل الحرب الباردة والتوازن الدولي الذي كان معروفاً ً باسم توازن الرعب، وسائداً حتى زوال الاتحاد السوفيتي السابق. وهم كلهم ظواهر متميزة في حياة شعوبهم وأممهم، وكلاً منهم واجه تحديات خطيرة ومختلفة، وأنهار بعضهم أمام تلك التحديات وبعضهم صمد، ولكنهم كلهم استظلوا بمظلة التوازن الدولي، وكانوا يلعبون أوراقهم على أساسها، ووفقاً لقوانينها مما ساعدهم على أن يخطوا خطوات جبارة جعلت سيرتهم في أممهم مضرب الأمثال، فقد كانوا عظماء شعوبهم ورفعوا أمامهم ألوية الاستقلال، وتصدروا الصفوف الأولى للدفاع عن مصالح شعوبهم وبلدانهم.
لكن ضرواة المعركة وأتساع حلقة التآمر ضد صدام حسين وتحولها إلى المجابهة المباشرة بدأت بعد انهيار جدار برلين وتراجع الدور الدولي- ثم السقوط النهائي للإتحاد السوفيتي – ووجد صدام حسين نفسه وحيداً مع شعبه وجيشه في مواجهة جيوش ثلاثين دولة، تقودها الدولة العظمى الوحيدة ويصطف معها كل دول حلف شمال الأطلسي بكل القوة العسكرية التي كانت قد أعدت أصلاً لمواجهة الإتحاد السوفيتي ودول حلف وارسو. وسلطت القوة العسكرية الجبارة هذه على العراق الذي لم ينثني أمامها، فبدأ مسلسل الحصار والتآمر الذي استمر حتى 19/3/2003، يوم بدأت المواجهة العسكرية الشاملة للمرة الثانية.
ما الذي ميّز صدام حسين كظاهرة؟ لقد كان الثبات على المبدأ واحداً من أهم السمات البارزة في هذه الظاهرة. ورغم أن صدام حسين هو صاحب المقولة" إننا نؤمن بالمرونة على أن لا تتخذ غطاءً للتراجع" إلا إن الظرف الذي مر به العراق لم يترك مجالاً كبيراً للمرونة، فقد أحاطت المنزلقات الخطيرة بكل مقتربات المسالك، ولم يكن هناك هامش محسوس للمناورة إلا في استثناءات قليلة. وهذا ما دفع خصومه إلى اتهامه "بعدم النضوج السياسي" أحياناً، و"بالطيش والغرور" أحياناً أخرى. لكن قراءة دقيقة لواقع الحال، وعلى ضوء مايجري في المنطقة الآن، تؤكد وحدانية الدرب الذي كان يسير عليه للحفاظ على المبادئ نقية وصادقة، في عالم كان قد غادر محطة المبادئ منذ زمن وتمنطق بأخلاق السوق.
ولأن صدام حسين سار درباً شاقاً وصعباً، فقد كان عليه أن يقنع ويقود شعبه وحزبه على ذات الدرب... وكان الشعب والحزب يدفعان غزير الدماء من أجل الاستمرار على الدرب، وكانت التضحية بابهى صورها أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، وكان الصمود أسطورياً، وكان الصبر زاداً يومياً للعراقيين طيلة فترة الحصار.
هل كان بالامكان أحسن مما كان؟ قد يجتهد السياسيون ويتفلسف المفكرون، ولكن من يتخذ القرار وهو في أتون المعركة ليس كمن يتخذه جالساً في كرسيه يقرأ نتائج المعركة، ويرى آثارها...
إن ما شهده العراق تحت قيادة صدام حسين كان مسيرة متميزة في كل شئ: متميزة في ظرفها وفي وقائعها، ومتميزة في إنجازاتها وصعابها، ومتميزة بتضحياتها ونتائجها، ومتميزة بكل تأكيد في تأثيراتها وتداعياتها. وسيتناول باحثون كثيرون هذه التفاصيل، في بحوث ينصفون فيها التجربة وينصفون فيها رجالها على جوانب الخنادق المتعددة.
ولكن، هل انتهت ظاهرة "صدام حسين"؟ بالتأكيد لا... فمازال الرجل مالئ الدنيا وشاغل الناس، ومازال أعداؤه الدائمون (الأمريكان) عاجزين عن إيجاد وسائل تحطم عنفوانه وكبريائه، وتحط من قدره في عيون المناضلين، ومازالت أيام العراق القابلة حبلى بالكثير من المفاجئات، كما إن رحم الأمة مازال قادراً على إنجاب العظماء...

مشاركة مميزة