السبت، 19 نوفمبر 2011

إرهاصات الثورة في مصر (1)

kolonagaza7

د . حاكم المطيري
أذكر القارئ الكريم بأني هنا أقص أسطورة، فمن كانت لديه مشكلة مع الأساطير، أو الروايات والقصص، أو الرؤى والأحلام، أو السير الذاتية، فليس مضطرا لقراءة هذه الرواية، ففي الكتب العلمية ما يغني عن إضاعة الوقت في القصص والأساطير والسير والأحلام!!
وأقول إذا كانت الثورة التونسية هي فاتحة الثورات العربية، فإن الثورة المصرية هي أم الثورة العربية وأعظمها خطرا، وأجلها قدرا، وهي التي حمت الثورة التونسية قبلها، وألهمت كل ثورة بعدها، وهي أسطورة لن تصدقها الأجيال التي لم تعش أحداثها، وستظن أنها ثورة كغيرها من الثورات التي عرفها العالم وما هي والله كذلك، فقد كانت بالمعجزة السماوية أشبه منها بالثورة الإنسانية!
وقد كتبت في شأن معجزات الثورة المصرية مقالا بعنوان (التجربة الإنسانية والثورة العربية نموذجا) وهو في الأصل تغريدات في التويتر قلت فيها :
· إذا أردت أن تشاهد آية الآيات في الثورة المصرية فانظر يوتيوب (أشجع فتاة مصرية) واستمع لدعوات تلك الفتاة وأمانيها كيف تفتحت لها أبواب السماء!
· وهذه آية من آيات الله التي تؤكد بأن الله هو الملك الحق وأن ما يرهبون من دونه ويعظمونهم ويطيعونهم هم الباطل!
· انظروا إلى تلك الفتاة المصرية وتأملوا دعاءها هل فيه شيء من أمانيها لم يتحقق؟
· راقبوا حرقة تلك الفتاة المصرية وهي تضرب برجلها الأرض، وتصرخ بالشعب المصري وتستغيث بالله، هل كانت تعلم بأنه بعد ثلاثة أسابيع فقط سترى كل أمانيها تتحقق؟
· لقد تمنت تلك الفتاة أن يسقط حسني مبارك، وولده جمال، وحبيب العادلي، وأحمد نظيف، وأحمد عز، والحزب الوطني، وأمن الدولة، ورجال الداخلية، وسمتهم بأسمائهم، فهل غادر الله منهم أحدا؟
· استمعوا لكل دعائها وكل أمانيها التي صرخت بها تلك الفتاة المصرية ألم تتحقق كلها وخلال أقل من شهر؟ أليست آية على أن الله ملك عدل ينتقم للمظلوم؟
· لقد كانت تلك الفتاة المصرية تصرخ مع مجموعة من الشبان لا يتجاوز عددهم عشرين شابا أمام مبنى أمن الدولة في أول الأيام ولم يأبه لها الطاغية فسقط!
· لقد تم تصويرها ولو لم يتم تصويرها لم صدق أحد قصتها، فهي أشبه بالأسطورة!
· إنها تجارب تتكرر نتائجها بتكرر وجود أسبابها فالظلم له عاقبة مما يؤكد بأن هذا الوجود له نواميس وسنن غير مادية لا يلاحظها إلا أولوا الألباب!
· وتدبروا {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}، وانظروا كيف كان عاقبة الظالمين، وما جرى لهم، إنه أسوء منقلب وحال في الدنيا لم يتصوروه ولا تخيلوه!
· نحن نتحدث عن استغاثة المظلوم وكيف يستجيب الله له ولا فرق في ذلك بين إنسان وآخر من أي دين كان (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)!
· وتدبروا قوله تعالى {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} وكيف لحق شؤم الظلم وناره كل من ركنوا إلى الظالم في مصر وستستقصيهم وتمسهم جميعا؟
· وتدبروا قوله تعالى {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} وانظروا كيف قطع الله دابرهم في الدنيا؟ وكيف يتبرأ بعضهم من بعض؟ وكيف تلهج ألسن المستضعفين من المصريين على اختلاف أديانهم بالحمد لله رب العالمين!
· أتظنون بأنه لو كان الشأن أنه (لا إله والحياة مادة) أو أن ما يجري صدفة، أن تتكرر مصارع الظالمين على يد المستضعفين حين ينتصرون لقضيتهم وحقهم؟ أين هي نظرية الماديين البقاء للأقوى؟
· وبعد ذلك تدبروا قوله {إنه لا يفلح الظالمون} {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} {والله لا يهدي القوم الظالمين} {لنهلكن الظالمين} ..الخ
· قال لي أحد الدعاة المصريين بعد الثورة حين زارنا في الكويت أليست آية أن أكون ممنوعا من السفر 15 سنة ظلما وعدوانا، والآن يمنع الله من منعني حتى من الذهاب لبيته وأهله ويقصد حسني مبارك؟
· تأملوا هذا الحديث الصحيح (إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد) فقصر سبب الهلاك على الظلم!
· تأملوا كيف أعمى الله بصائر الطغاة عن التصرف الحكيم، وكيف عاندوا حتى ضلوا عن الهدى، ويفسر ذلك قوله تعالى {والله لا يهدي القوم الظالمين} و{وأملي لهم إن كيدي متين} فالله يعمي أبصارهم ويملي لهم حتى يبطش بهم!
لقد كان في ضيافتي - بعد الانتخابات المصرية الأخيرة التي فاز فيها الحزب الوطني بكل مقاعد البرلمان في نوفمبر 2010م - الشيخ الفاضل الداعية أبو أيوب ناصر السيلاوي من فلسطين، وكان المحفل في بيتي يضم عددا كبيرا من الأخوة وفيهم أبو لؤي عاطف عبد الفتاح المصري وهو مرشح إسلامي مستقل في انتخابات 2005م في محافظة قنا مديرية قسط، فسألته ما هو تفسيره لمثل هذا التزوير الفج في الانتخابات في مصر وما تداعياته السياسية؟
فقال : هذا دليل على أن السلطة وصلت إلى قناعة تامة بأنه لن يستطيع أحد فعل شي، ولن يكون لذلك تداعيات، فالشارع السياسي ضعيف وعاجز، والشعب مشغول بقوت يومه، وليس لها من دون الله كاشفة!
ثم قص علينا قصة نزوله للانتخابات سنة 2005م وكيف جاءه مرشحو الحزب الوطني وطلبوا منه الانسحاب، فلما رفض، قالوا له سترى! فلما انتهى الاقتراع، جاءوا بالصناديق أمامه وألقوها بالترعة!
وقد رفع دعوى قضائية وما زالت إلى يومنا هذا لم يحكم فيها!
وقد ألف الدكتور محمد سليم العوا كتاب (القاضي والسلطان) عن هذه الأزمة، حيث صار من يشرف على الانتخابات في مصر هي السلطة التنفيذية، مع إن المحكمة الدستورية سنة 2000م أصدرت حكما ببطلان ذلك، وقررت إشراف الهيئة القضائية على الانتخابات، غير إن الحكومة استغلت ذلك الحكم الدستوري، وفسرته لصالحها حيث يدخل في الهيئة القضائية محامو الدولة والادعاء العام وموظفو وزارة العدل وهي سلطة تنفيذية، فصاروا يشرفون على الانتخابات ويقومون بما تملي عليهم السلطة من تزوير للانتخابات..الخ
وقد أخذ الأخوة في المجلس عندي يتناقشون في تداعيات تزوير الانتخابات المصرية الأخيرة..
فقلت لهم : أنا أرى بأن ما جرى هو آخر مسمار في نعش النظام المصري، وسترون كيف يثور الشعب المصري، وسيسقط النظام، فلا يمكن لي أن أفهم مثل هذا التصرف الجنوني الذي لا يقدم عليه من له أدنى مستويات الوعي السياسي، إلا بأن الله قد مكر بهم، وأملى لهم ليأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما في الصحيح (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)!
فقال أبو لؤي : والله يا دكتور حاكم لا أظن ذلك، فليس في المنظور أي أمل!
وأخذت أتحدث عن سنن الله التي تجري في كل الأمم، وكيف يأخذ الظالمين لا في أول أمرهم، بل في أوج قوتهم، ولا في حال قوة المستضعفين، بل في أشد حالاتهم ضعفا ويأسا، ولا من حيث يعلم الظالمون بل من حيث لم يحتسبوا {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}!
فيأتي النصر المدهش المذهل ليعلم الجميع بأن الله فوق الجميع وأنه هو الملك الحق!
وكنت أحدثهم عما جرى للسادات، وكيف سقط في يوم زينته، وأتاه قدره من حيث لا يحتسب، وهو في أوج قوته، وآلاف العلماء والدعاة في سجونه في أشد حالاتهم ضعفا لا حول لهم ولا قوة!
وكيف سقط الشاه وهو في أوج سطوته وجبروته بعد أن أقام حفلا أسطوريا بمناسبة مرور ألفي سنة على عرش الشاهنشاهية في إيران كذبا وزورا، فلم يكمل سنته!
وقد ذكر موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلي في مذكراته أنه زار الشاه قبل سقوطه وسأله عن الأوضاع في بلده، فأجاب الشاه بأن كل شيء تحت السيطرة، ولا توجد مشكلة!
بينما تقارير السفارة الإسرائيلية في طهران تؤكد خلاف ذلك وأن الوضع خطير!
وكيف سقط شايسسكو دكتاتور رومانيا وهو في أوج قوته، حين خرج يخطب في الشعب كعادته مزهوا بنفسه والجماهير تصفق له، فإذا رجل يهتف في آخر الحشود صارخا صرخة يائسة (يسقط الدكتاتور)، فما هي إلا ساعات فإذا تلك الصرخة تفتح لها أبواب السماء، وإذا رومانيا كلها تموج موج البحر بتلك الصرخة اليائسة، ولم تمض أيام حتى عمت الثورة والقي القبض على الدكتاتور هو وزوجته فأعدما رميا بالرصاص!
وقلت بأن حسني بلغ به البطر حدا أطغاه، وظن أن لن يقدر عليه أحد، وقد آن أوان سقوطه، فلم يمض على حديثنا هذا شهر إلا والثورة قد قامت في تونس ومصر!
وإذا الشيخ الداعية الفاضل ناصر السيلاوي يرسل لي بعد سقوط ابن علي أول رسالة تكاد كلماتها تطير فرحا (يا صاحب الحرية تونس حرة)!
ثم يرسل لي بعد سقوط حسني رسالة تهنئة ويتصل بي يدعو لي!
وقد كنا في اجتماع مكتب الأمانة العامة لحزب الأمة في الكويت بعد سقوط ابن علي ونجاح الثورة في تونس، وكان الحديث عن تداعيات الثورة في تونس على العالم العربي!
فقال الأستاذ سيف الهاجري رئيس المكتب السياسي في الحزب، الثورة ستمتد إلى ليبيا!
فقلت له: بل ستتفجر في مصر بعد تونس مباشرة!
فصدق ظني وظن الأخ سيف فلم نلبث إلا أياما حتى تفجرت الثورة في مصر ثم في ليبيا!
وقد اتصل بي الدكتور عادل عبد الله من البحرين في آخر أيام الثورة المصرية وكانت ساعات عصيبة على الشعب المصري وعلى الأمة كلها معه، حيث بلغ اليأس من سقوط حسني حدا جعل المعارضة المصرية تدخل في تفاوض مع عمر سليمان، فأخبرني الدكتور عادل برؤيا مختصرة رئيت تلك الليلة وفيها (كأن الشعب المصري في سجن وضيق، ثم فجأة انفرج سقف السجن من جهة السماء)!
فقلت على الفور فرحا (لا إله إلا الله سقط حسني بنصر من السماء) وكان عندي ساعتها الدكتور فيصل الحمد والشيخ سيف الهاجري، فقالا ما الخبر؟
فأخبرتهم برؤيا الدكتور عادل وتأويلها وأن حسني قد انتهى!
ولم يمض يومان إلا وحسني قد سقط!
هذه بعض طرائف ولطائف تلك الأحداث، ومنها أيضا حين دعا حزب الأمة في الكويت إلى وقفة احتجاجية واعتصام أمام مسجد الدولة الكبير تضامنا مع الثورة المصرية، وكان ذلك بعد صلاة الجمعة، وقد التقى وزير الداخلية بالأمين العام لحزب الأمة الدكتور فيصل الحمد يوم الخميس قبل الاعتصام بيوم واحد، وأخبره بضرورة التراجع عن هذا التجمع ومراعاة ظروف الكويت وعلاقاتها بمصر، فقال له الدكتور فيصل بأن هذا موقف شعبي مؤيد للشعب المصري وثورته السلمية، ولا تتحملون أنتم كحكومة تبعاته!
فقال له الوزير: وهل تتصورون أنتم بأن نظام حسني سيسقط! هذا مستحيل!
فقال له الدكتور فيصل : سيسقط حسني وستسقط كل الأنظمة الاستبدادية بالمنطقة!
وبعد مفاوضات طويلة رفض الدكتور فيصل الحمد إلغاء الاعتصام وقال للوزير بأن التجمع السلمي حق كفله الدستور، وكفله حكم المحكمة الدستورية، الذي أبطل قانون التجمعات السابق، ولا يحق لكم منع أحد من التجمع السلمي!
وبعد الاعتصام مباشرة بادرت صحيفة الآن الإلكترونية بالترويج لموقف وزارة الداخلية بأن الوقفة الاحتجاجية قد فشلت! ولم تنشر الصحف خبر الاعتصام!
وكانت المفاجأة للجميع بأن حسني سقط بعد ذلك الاعتصام بثمان ساعات فقط!
وإذا الإعلام الكويتي الرسمي والخاص لا يجد موقفا مشرفا من الثورة المصرية إلا تلك الوقفة الشعبية التي دعا لها حزب الأمة، فتم نشر أخبار التجمع والاعتصام لا باسم الحزب، بل باسم الشعب!
ليستمر الزيف الإعلامي وتضليل الرأي كما هو قبل الثورة وبعد الثورة على يد دهاقنة الفساد السياسي والإعلامي في الكويت!
لقد كنت على اطلاع دائم بما يجري في مصر، ولم أزرها سوى مرتين مرة للتقدم للماجستير في سنة 1990م أو 91، والمرة الثانية للتقدم للدكتوراه سنة 96م، وفي كل مرة يتم إيقافي في الجوازات فترة بلا سبب ولا يتيسر حصولي على الموافقة على الدراسة فيها!
وقد دخلتها أول يوم فضاق صدري لما رأيت من أحولها، وكنا قد سكنا في فندق قريب من شارع الجامعة العربية في تلك الزيارة، وقلت لصاحبي لو أستطيع الرجوع لسافرت اليوم!
فضحك وقال لي: هذه مصر أم الدنيا ومن شرب ماءها أحبها!
ثم لم ألبث أن شربت ماءها، ولم يمض علي فيها ثلاثة أيام حتى أصبحت لا أطيق فراقها!
إن لمصر فضل على كل عربي في المشرق والمغرب، فقد كان لها قصب السبق في إمداد العالم العربي كله بكل أسباب النهضة التعليمية في العصر الحديث، وكان علماؤها ومعلموها كالغيث يبعثون الحياة العلمية في كل أرض يحلون فيها، وكان دعاتها يحيون قيم الإسلام ويتصدون لحملات التغريب التي عصفت في العالم العربي والإسلامي، فأعادوا الأمة من جديد لدينها وأعادوا لها ثقتها بنفسها!
وقد كان للشيوخ المصريين على الخليجيين عامة وعلي خاصة فضل كبير لا أنساه ما حييت!
فممن تأثرت به روحيا الشيخ شحاتة المصري - إمام مسجد عياش بن أبي ربيعة في منطقة الرقة في حدود 1984 – 1992 – وكان رحمه الله مع جماعة التبليغ وربما سار على قدميه لا يسأل أحدا مساعدته فيقطع الأميال ليحضر اجتماعاتهم الدعوية، وكان من الأولياء العباد، والأتقياء الزهاد، وما دخلت المسجد قط إلا ورأيته إما يصلي أو يتلو القرآن أو يراجع لأحد حفظه!
وكان أعجوبة في حفظه للقرآن وسرعة القراءة في الصلوات وربما قرأ في ركعتي الفجر جزءا أو نحوه لا يتوقف ولا يتأتأ ولا يخطأ!
وكنت أذهب للمسجد وأرقبه وأتعجب من شأنه وهديه ودله!
وقد رأيته يوما عند باب المسجد راجعا من مراجعات في دائرة حكومية، فسلمت عليه وسألته عن حاله، فقال من ترك قيام الليل عوقب!
وأخبرني أنه لم يتم إنجاز معاملته اليوم بسبب أنه لم يقم الليل البارحة!
وقد مرض فجأة رحمه الله ودخل المستشفى وكنت أزوره وأطيل اللبث عنده أتعلم منه الصبر وحسن التوكل على الله، وكان لا يفتر عن مراجعة القرآن وعن الذكر، وقد أخبرنا الطبيب بأن حالته خطيرة ويجب إعادته إلى أهله في مصر ليقضي بقية أيامه معهم، فقال له النائب الفاضل عايض علوش : يا شيخ شحاتة ألا تحب أن ترجع إلى أهلك فهم في حاجتك؟ وكان له زوجة وابنة!
فرفع أصبعه للسماء وقال : ربنا موجود!
ورجع إلى ورده يقرأ القرآن وهو يحتضر، وكلما غشي وأفاق أكمل القراءة من حيث انتهى!
وكان بجانبه رجل آخر مريض كبير السن وكان لا يفتر يسأل أولاده بإلحاح ماذا فعلوا بالغنم وهل أعلفوها؟
فكنت أعجب من حال الرجلين ذاك تعلق قلبه بالآخرة وهذا بالدنيا!
وبعد أيام توفي الشيخ شحاتة وهو في الأربعين من عمره في حدود سنة 1992م ففقد أهل الأرض وليا من أولياء الله الذين بهم تباهي الأرض السماء!
وكان قد أوصى بثلث تركته في سبيل الله ولعل تركته لا تبلغ ألف دينار!
ولم أبك على فراق أحد كما بكيت على فراقه رحمه الله!
وكنت كلما خشيت على نفسي الدنيا وفتنتها تذكرته فعزفت نفسي عنها وزهدت فيها!
وأذكر هنا عالمين مصريين جليلين، وداعيين ربانيين كبيرين، كان لهما أثر كبير في الدعوة والإصلاح في الكويت والخليج كله، أولهما الشيخ الداعية عبد الرحمن عبد الخالق - حفظه الله ورعاه - والذي هدى الله على يديه جيلا كاملا من الشباب، فكان لهم نعم القدوة علما وعملا وعبادة ودعوة وخلقا وهمة، وكان لخطبه ودروسه وأشرطته أكبر الأثر في نشر السنة والتمسك بها.
وقد استفدت من دروسه في التفسير، ولزمته سنوات، وقرأت عليه كتابه في الأصول كاملا، وما أزال أجد بركة تلك الدروس إلى اليوم، وكان قد أخذ التفسير عن شيخه محمد الأمين الشنقيطي صاحب (أضواء البيان)، ولم أر مثل الشيخ عبد الرحمن في استدلاله بالقرآن!
والشيخ الثاني هو العالم المربي الشيخ سيد نوح - رحمه الله تعالى - وقد عرفته عن كثب حين أصبحت مدرسا في كلية الشريعة في قسم التفسير والحديث، وكان آنذاك أستاذا في القسم، ثم صار رئيسا للقسم، وقد كان نعم القدوة الحسنة للأساتذة وللطلبة في هديه وسمته ودعوته، وكان يحث طلبة الدراسات العليا – كما أخبرني الشيخ علي السند – على قراءة كتبي ومنها (الحرية أو الطوفان)!
وقد أخذ يوما بيدي فقال : لقد قرأت كتابك ووالله لقد ظللت أدعو لك عند كل كلمة وجملة، فقد كتب الكتاب بنور الله!
وقد كانت كلمة ذلك العالم والداعية الصالح دافعا معنويا كبيرا لي، في وقت كنت أواجه فيه حربا إعلامية يشنها سدنة الطاغوت في كل وسائل الإعلام بدعوى أني خارجي!
ومن أفذاذ المصريين الذين بارك الله فيهم وفي دعوتهم في الخليج والجزيرة الداعية المربي الشيخ محمد قطب صاحب المؤلفات المباركة، وقد تربى على كتبه جيل كامل، وقد زرته في ... بمعية الشيخ محمد بن ...، والشيخ محمد بن ....، وكان مريضا فاستقبلنا، فعرفوه بي فقال : الدكتور حاكم صاحب الحرية أو الطوفان!
فأخبرته بمشروع (مؤتمر الأمة) وأهدافه وبشرته بما كتبه الله له ولسيد رحمه الله من القبول، وبما بورك لهما في دعوتهما حتى عمت العالم الإسلامي كله!
فقال : أنا لست كسيد أنا أمشي على الأرض وأما سيد فيحلق في السماء!
فمن قوي على التحليق كسيد فربنا يقويه، وإلا فليمش على الأرض مثلي!
فهذه بعض النماذج التي كان لها أكبر الأثر وما يزال في الصحوة الدعوية المعاصرة بين الشباب في الخليج والجزيرة العربية، ومن كل المدارس الدعوية المشهور السلفية والتبليغية والإخوانية، للمصريين فيها قصب السبق، فهم رسل الهداية، ودعاة الخير، ورعاة الفضيلة، في كل أبواب الخير في العالم العربي كله!
وكل مشاهير الدعاة والمصلحين في الخليج والجزيرة كالشيخ سفر الحوالي وسلمان العودة وحامد العلي وطارق السويدان ومحمد العوضي ..الخ استفادوا من دعوة الشيخ محمد قطب والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق والشيخ سيد نوح وغيرهم من العلماء والشيوخ المصريين الذين أسهموا في حركة الإحياء الإسلامي المعاصرة عقيدة وفكرا وسلوكا وعلما وعملا وجهادا..
فما نحن اليوم جميعا سوى ثمرة من ثمار أولئك الدعاة المصلحين والعلماء الربانيين من أفذاذ الشيوخ المصريين، فما أعظم فضلهم على الأمة، وما أحسن أثرهم عليها..
لقد كنا نتابع أوضاع مصر، وما يجري فيها لأنها قلب العالم العربي، فإذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا ضعفت ضعف سائر الجسد!
وقد تعرضت الدعوة في مصر لمحن وفتن كبرى، وكانت المؤامرة عليها كبيرة وخطيرة، وقد كان نظام حسني مبارك هو عرابها وحامل كبرها، ابتداء من مشروع (تجفيف المنابع) وانتهاء بمشروع (مكافحة الإرهاب)!
وقد تم اختراق الدعوة في مصر وتصدى لها عبد الطاغوت وبلغ من خطرها أن صار طاغوت مصر الذي يحارب الله ورسوله والإسلام ولي أمر تجب طاعته ويحرم الخروج عليه!
وكنت يوما في زيارة لصديق مصري وشيخ فاضل في بلد خليجي وذلك سنة 2007م فأخذ يحدثني عما تعرض له أخوه الطبيب من تعذيب وسجن في مصر!
فقلت له وأنا أزفر من الغيظ : ألا لعنة الله على الظالمين هؤلاء الطغاة المجرمين ..الخ
فقال لي على الفور : لا لا يا شيخ حاكم مهما كان يبقى الرئيس مسلم وندعو لهم بالهداية!
فقلت : سبحان الله كيف نجح الطاغوت في مسخ الفطرة الإنسانية إلى هذا الحد!
وكيف بلغ الحال بالدعاة من الشيوخ وأهل العلم أن اختل عندهم ميزان الفطرة!
فالإنسان بطبعه يبغض من ظلمه، ويدعو عليه، ويحاول تغيير واقعه بكل وسيلة، بينما نحن ندعو للطاغوت وندافع عنه حتى لو زج بالأبرياء في السجون ظلما، ولو هتك أعراضهم، وسفك دماءهم!
وربما خرج أحدهم من السجن ذليلا حقيرا ثم يقول لو كانت لي دعوة لجعلتها للسلطان!
وربما توهم الجاهلون أن هذا من السمو الروحي! وليس منه في شيء، بل هو الوهن والخور وفساد الفطرة ومسخها!
إن السمو الروحي هو العفو والصفح عند القدرة وبعد الانتصار على من ظلم، لا والظالم ما يزال في طغيانه والمظلوم تحت قدمه يتوسل إليه!
وربما ظن واهمون بأنهم يقتدون بالإمام أحمد وإنما قالها أحمد في حق خليفة للمسلمين يحمي البيضة ويقيم الشرع ويجاهد العدو، لا في حق طاغوت مصر وتونس وأشباههم!
وقد خرج أحمد من السجن عزيزا كريما منصورا، ورفع المتوكل الفتنة بصبره وثباته، بينما هؤلاء يخرجون من السجون والطاغوت لا يزداد إلا طغيانا، وهم لا يزدادون إلا ذلا وخسرانا!
لقد رجعت من تلك الزيارة وأنا قول في نفسي كيف بلغ فساد التصور لحقيقة الدين حدا تتوارى فيه الحمية والعصبية في الإنسان حتى تجاه أخيه، كما حدث لهذا الشيخ الفاضل الذي يحدثني عن مأساة أخيه ويعتذر لنظام حسني مبارك ويرفض حتى لعنه فضلا عن الثورة عليه!
كيف استطاع الطاغوت غسل أدمغة هؤلاء الدعاة والشيوخ حتى خرجوا عن حد الفطرة الطبيعية التي ترفض الظلم وتقاومه وتدفع عن نفسها بكل وسيلة!
نعم لقد نجح النظام المصري والنظام العربي خلال العقدين المنصرمين في تشكيل وعي ديني عام فسدت فيه الفطرة وطمست فيه البصيرة، حتى لم تعد تعرف معروفا ولا تنكر منكرا!
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على طغاة قريش وهو في المدينة، ونزل قوله تعالى {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} وجعل الله للمظلوم حق الدفع عن نفسه {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} وقال {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق}!
فأي دين هذا الذي يكون الطاغوت فيه ولي أمر تجب طاعته باسم الله! بل والصبر على جرائمه مهما بلغ جرمه وأذاه، مما لا تقبل النفوس السوية وقوعه على غيرها، فضلا عن قبولها له حين يقع عليها؟!
لقد كان لكتاب (الحرية أو الطوفان) وكتاب (تحرير الإنسان) صدى واسع في أوساط الشباب الإسلامي في مصر، كما قام كثير من قياداتهم الحركية بتدريسه وشرحه، وهذه نماذج من بعض الرسائل بهذا الخصوص، والتي تنبئ عن المخاض التي كانت تعيشه مصر قبيل الثورة، وكيف كانت الروح الثورية تتأجج في نفوس الشباب بعيدا عن عيون الشيوخ!
...
(رسالة بخصوص تأثير كتاب الحرية والتحرير على شباب التيار الإسلامي)
التاريخ..
11/6/2010م

بداية جزاكم الله خيرا على مجهودكم البارز والذي لمسته في كتاب (الحرية والطوفان) وكتاب (تحرير الإنسان وتجريد الطغيان).. والذي أحدث فعلا نقلة كبيرة في نظري في فكرة الدعاة العاملين في المجال السياسي، هذه النقلة تمثلت في نظري من الحديث الذي كنا ندور حوله لفترة طويلة في العديد من البلدان العربية، وهي الحديث عن شرعية العمل السياسي، حيث نقلتنا على نقطة متقدمة وهي فرضية وضرورة العمل السياسي..
فجزاكم الله عنا خيرا كثيرا..
وكنت أود إن استرشد برأي حضرتكم في نقطة هامة أيضا وهي المردود التربوي للعمل السياسي على العاملين فيه من أبناء الصحوة الإسلامية، حيث إن هناك اتهامات كثيرة للعاملين في هذا المجال من أبناء الصحوة الإسلامية بقسوة قلوبهم، وضعف إيمانياتهم وتربوياتهم، وكنت تحدثت مع كثير من الذين يتهمون العاملين في نقاط عدة على رأسها أنه أفضل الجهاد، وأن المقتول في سبيل قول كلمة الحق من سادة الشهداء وهذا مطلبنا جميعا، وأن في العمل السياسي من قول للحق وصدح به تربية للنفس على ألا تخاف في الله لومة لائم، وصدق التوكل على الله، حيث إنك تقاوم بإمكانياتك المحدودة كبار الطغاة، وغيرها من الأمور، إلا إني وجدت أن الموضوع يحتاج إلى دراسة متكاملة وتربية متواصلة، فأحببت أن استرشد برأيكم في المحاور التي ننطلق منها لتصحيح هذا المفهوم، والكتب التي ترشدوني إلى قراءتها لمساعدتي في عمل دراسة في هذا الأمر..
ولكم جزيل الشكر..
...أحمد .. مصر
...
الرد
وعليكم السلام ورحمة الله أخي ... أحمد..
وبارك الله فيك..
أرجو التعريف بنفسك..
د. حاكم المطيري
...
(رسالة بخصوص التربية السياسية)
التاريخ...
24/6/2010م
جزاكم الله خيرا على ردكم..
وأتشرف بالتعرف عليكم..
أنا .... أحمد مصري، وأسكن في مصر، اهتممت بالعمل السياسي بعد قراءتي لكتابكم القيم (الحرية أو الطوفان) منذ عامين تقريبا، أحسست بالفخر بعد قراءتي لهذا الكتاب عندما وجدت الوعي السياسي الكبير لدى أجدادي، وأحسست أننا بعدنا عن فهمهم الكثير عندما تحدثت مع زملائي في هذه المعاني لمست على مستوى العاملين في الصحوة الإسلامية فجوتين، وهما فرضية (وجوب) العمل السياسي وليس شرعيته، حيث إن التأصيل الشرعي بفضل الله لا ريب فيه، والفجوة الثانية العلاقة بين الإيمان والسياسة، ووجدت أن من الحلول الرئيسية للنهضة الإسلامية أن تكون العملية السياسية جزء من العملية التربوية للعاملين في الصحوة الإسلامية، عكفت على قراءة كتابي (الحرية أو الطوفان) و(تحرير الإنسان) الذي أبدعتم فيهم، وسلسلة الحل الإسلامي للدكتور يوسف القرضاوي، وكتابات الدكتور محمد عمارة، وسلسلة النهضة للدكتور جاسم سلطان، وبعض مقالات الدكتور سيف الدين عبد الفتاح أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة في علم النفس السياسي، لمحاولة الوصول إلى آلية للحصول على المردود التربوي للعمل السياسي، وتوصلت إلى بعض المحاور التي أجمع فيها بعض المواد من أهمها التربية على بعض المعاني القلبية، وكيفية تفعيلها لدى العاملين في المجال السياسي، من الخوف من الله، وصدق التوكل عليه، والاعتماد عليه في ظل الحكومات المستبدة الموجودة الآن، وغيرها من القيم، والجانب الآخر تغيير الصورة الموجودة لدى شباب ورجال الصحوة عن العاملين في المجال السياسي بعرض الجانب القرآني والإيماني لأشهر العاملين في المجال السياسي، لتغيير القناعة الموجودة لدى الناس عن تلك الفئة المجاهدة، وإني متأكد أني كلما تعمقت في هذا الأمر سيتبين جوانب أخرى تحتاج إلى تفعيل وإيضاح لذلك، سأسعد بمشورتكم والاستفادة من خبراتكم وتوصياتكم في هذا الأمر، في الأخير أحببت أن أقول لك إني أحبك في الله وجعل الله ما تقوم به في ميزان حسناتك يوم القيامة، وجمعنا الله يوم القيامة في مستقر رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
.... أحمد...
...
الرد
التاريخ 25/6/ 2010م..
وعليكم السلام أخي .... أحمد..
وبارك الله فيك، وسدد خطاك، وأحبك الله الذي أحببتنا فيه، ونسأل الله الثبات على الأمر، والعزيمة على الرشد، وكم تمنيت لقاءك، فإن تيسرت لك ... في .... فأخبرني فسأكون ... طوال الشهر ويسعدني استضافتك..
د. حاكم المطيري..
...
(رسالة بخصوص الحرية أو الطوفان)
التاريخ..
26/7/2010م
(تحية وشكر واجب من الدكتور عصام ...)
السلام عليكم ورحمة الله...
أخي الكريم د حاكم..
شرفت بتلقي كتابكم السفر الكبير (الحرية أو الطوفان)..
أعكف الآن على قراءته بتأني، يبدو إنك تدلي بدلوك في معترك يحتاج إلى جهد جهيد، وعمل شاق، أسلوبك شيق وسلس وسهل، تتناول أمورا في غاية الأهمية، أشد على يديك، وأتمنى الاستمرار في طرح نماذج تطبيقية من الواقع بعد جولة التنظير الكبرى التي طرحتها في السفر، ستواجهك معارك كبرى فلا تبتئس ولا تحزن فهذا قدر الرجال..
عندما أنتهي من القراءة الأولى قد أعرض لبعض المسائل الهامة في الكتاب..
إن شاء الله إلى لقاء قريب..
رسالتي الأولى كانت فقط للاطمئنان أن الإيميل صحيح..
بارك الله فيكم وبلغنا رمضان ورزقنا فيه العمل الصالح ولا تنسنا من دعائكم..
تحياتي لجميع الأخوة والأحباب وللأهل الكرام..
أخوكم عصام ... مصر..
...
الرد :
وعليكم السلام ورحمة الله أخي الأستاذ الفاضل والمجاهد المناضل الدكتور عصام ..
وبارك الله في جهدكم وجهودكم وجهادكم فيما تسعون إليه من الإصلاح..
وأبشرك بحديث (طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس)..
ويسعدني التواصل الدائم بيننا حفظكم الله ورعاكم..
أخوك د. حاكم المطيري
...
(رسالة بخصوص التربية السياسية)
السلام عليكم..
حياك الله يا دكتور حاكم..
وأتمنى أن تكون بخير وبصحة..
كنت قد تواصلت معك دكتورنا الفاضل عن حاجة الدعاة اليوم والعاملين منهم في المجال السياسي، خصوصا لمدارسة المردود التربوي واِلإيماني للعمل السياسي، فحاجتنا اليوم في بعض الأماكن انتقلت من شرعية العمل السياسي إلى ضرورة العمل السياسي، بعد كتابكم (الحرية أو الطوفان)، ثم الآن إلى كيف نرتقي بالسياسة إيمانيا، وكنت قد أعددت صفحات قليلة في هذا الأمر، وأحببت أن أطلعك عليها لترشدني إلى كيفية ترتيبها وتنقيحها، وما أهم المواقف التاريخية بحكم دراستكم التي أضيفها حتى تظهر هذه الصفحات بصورة لائقة..
وجزاكم الله خيرا واعذرني لم أستطع تحميل النص فالحقته هنا..
مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أما بعد..
فإن للعمل السياسي محاور أربعة على العاملين فيه ألا يغفلوا بجانب عن جانب:
أولها التربية السياسية للصف: ونقصد به التربية على التحرر من الخوف من أي شيء سوى الله، وصدق التوكل عليه، والارتباط بكتابه العظيم، بالإضافة إلى معاني الشورى، والحرية، والأمر بالمعروف، والنهي عن منكر.
ثانيها التربية السياسية للمجتمع: ونقصد به توفير كل وسائل الرفض والاعتراض على الظلم لكل فئة من فئات المجتمع بما يناسبها، وتحقيق معنى العبودية التامة في كل فئاته.
ثالثا السياسة الداخلية: وتتمثل في طرق التعامل مع النظام والأحزاب المختلفة، ومسارات النضال الدستوري المختلفة من انتخابات برلمانية أو نقابية.
وأخيرا السياسة الخارجية: ونقصد بها قضايا الوطن العربي، والإسلامي، والعالم الخارجي، والنجاح في العمل السياسي لا يتحقق إلا بالمشي بخطى ثابتة ومتوازية تقريبا في هذه المحاور الأربع.
فعلى الأخوة العاملين في المجال السياسي أن يعلموا أن نجاحهم في عملهم لا يتوقف على مقدار ما يحققونه من مقاعد من مجلس الشعب، أو حقائب وزارية ينالونها في حكومة من الحكومات فقط، فالأغلبية البرلمانية قد تتحقق نتيجة لحسن التخطيط في الانتخابات، أو قوة الدعاية والقدرة على التحالفات، وليس في كل الأحوال كنتيجة لتوفر البناء والمراحل المطلوبة في الجماعة والمجتمع، وإن من يملك السماح لنا بالمشاركة في الأعمال التنفيذية والمجتمع يملك أيضا أن يمنعنا من ذلك فلا يخدعنا هدوء الأحوال ولا نفاجأ بتقلباتها، ولا تكون هذه الاستفادة وتلك المشاركة مرحلة إيجابية بالنسبة لنا، إلا إذا كانت بإرادتنا وضمن منظومة عمل متكامل يشارك فيه كل أبناء الجماعة ويحقق الأهداف المنشودة.
إن هذه الأمور مع أهميتها إلا أنها لا تعبر عن النجاح الحقيقي في الدور المنوط بنا، وهو تربية المجتمع لتحقيق معنى العبودية التامة لله عز وجل، والعمل السياسي إن لم يقوم بدوره في هذه التربية المنشودة والتي ارتضتها جماعتنا لمنهج التغيير عندها، فإنها سوف تؤدي إلى إشكاليات كثيرة برزت في الأماكن التي غاب فيها هذا المفهوم، فتجد دعوات للانعزال عن العمل السياسي بحجة أنه يلهي عن الدعوة ويقسي القلوب ويصرفها عن ربها عز وجل، أو أننا قد أصبحنا جماعة سياسية بحتة، لينجح بذلك أعداء الإسلام في تنفير المسلمين من العمل السياسي وتصويرها بأنها تتناقض مع سمو الإسلام وروحانيته، لذلك كانت هذه الأسطر لتبين بعض المعاني التربوية والإيمانية المتولدة عن المشاركة السياسية لتساهم في حل هذه الإشكاليات والدفع بمحور التربية السياسية للصف ليلحق بمن سبقه من بقية المحاور، إلا أن هذه المعاني وإن تم الاقتناع بها فهي لن تؤتي ثمارها إلا بممارسة طويلة لهذه المعاني المراد اكتسابها وإتقانها، فمن السهل أن يقرأ المرء أو يستمع إلى موعظة فيحدث له تأثرا وقتيا بما سمعه أو قرأه، فيقوم بتنفيذ ما دلت عليه ولكن بعد مدة وجيزة يعود لسابق عهده .. لماذا؟
لأن التأثر كان لحظيا فأثمر سلوكا وقتيا غير دائم، فإذا أردنا تغييرا دائما فلا بد من إحداث أثر دائم في ذات الإنسان لذلك مهما تكلم العاملون في المجال السياسي على المنابر والفضائيات، ومهما كتب الكتاب، ومهما وضع المصلحون من توجيهات إصلاحية وخطط تفصيلية لتغيير الأفراد من الداخل فإن هذا وحده لن يحدث التغيير المطلوب، وأقصى ما سيفعله هو التغيير الوقتي غير الدائم، فلا بد إذا من أن يقوم العاملون في المجال السياسي بالتواجد بين الناس، وممارسة هذه المعاني معهم حتى يتم التغيير المنشود، وهذه الغاية لا تدرك إلا بالجهاد الدائب والعمل المتواصل، إن للعاملين في المجال السياسي دور كبير في عملية التربية التي تبنتها الجماعة في طريقها للإصلاح من أجل تحقيق العبودية التامة لله، فنجد أنه من خلال تحرك الأخ السياسي في عمله ضد الباطل تترسخ الكثير من المفاهيم فيه هو أولا ثم فيمن حوله:
1- فعندما يتحرك الأخ لقول كلمة الحق أمام أي سلطان لا يخشى في الله لومة لائم فإنه بذلك يقدم نموذجا في تحرر القلب من أي خوف من سلطان، وأن الله تعالى هو الذي بيده النفع والضر وبيده الآجال (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ) لسان حاله يقول للناس: هل من رازق سوى الله في السماوات والأرض حتى تخافون على أرزاقكم من هؤلاء الظالمين (وفي السماء رزقكم وما توعدون)؟ يعلّم الناس اليقين والثقة بوعد الله بحفظ أبنائه إن أصابه ضرر، فلا تجد قلبه مضطربا قلقا على مستقبلهم، أليس الله جل وعلا وعده بحفظهم إن قال كلمة الحق (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا)؟
2- إن تكرار هذه المواقف في حياة السياسي تحطم الباطل، وتضعف الصورة الذهنية المفزعة له في النفوس، وإظهاره على حقيقته المجردة، ويعتقد الناس فعلا بألوهية الله وربوبيته علينا، وتترسخ معاني أسمائه وصفاته العليا كالرزاق المتعال الضار النافع مالك الملك وغيرها، فتتربي نفس السياسي ومن حوله من الناس على التوحيد الحقيقي والعبودية الحقيقية الصحيحة الخالصة لله.
3- إن هذا التحرر من كل خوف سوى من الله الناتج من هذه السلوكيات التي يقوم بها السياسي ليقدم للأمة الخير الكثير، فهو بهذه السلوكيات والأعمال يحيي فريضة الجهاد في كل مكان على هذه الأرض، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، ويقدم بهذه التضحيات مشاريع شهداء للأمة هو ومن سار على دربه ممن سيختارهم الله ليكونوا سادة للشهداء عندما يقتلهم من أمروه بالمعروف ونهوه عن المنكر (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى حاكم ظالم أمره ونهاه فقتله)، وهو بتحريره للناس من الخوف سوى من الله يحقق شرط الله فيمن يمكنهم على وجه الأرض ألم تسمع قول الله تعالى (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد)؟
إن كلمة الحق التي يصدح بها الأخ لا تكون صرخة في واد، ولا ينبغي أن نقيم المكاسب التي يحققها العاملون في هذا المجال على مدى تحقيقهم لما ينادون بها، فالنتيجة مطلوب أن نسعى لتحقيقها وهي دفع الظلم ومحاربة الفساد، ولكن هناك نتائج كثيرة كما ذكرناها تتحقق بمجرد قول هذه الكلمة والدفاع عنها والتضحية من أجلها، وهي أهم وتصب مباشرة في طريقنا الذي اخترناه لإحداث التغيير المنشود.
4- التوكل على الله : قال الزبيدي في تاج العروس عن حقيقة التوكل : الثقة بما عند الله واليأس مما في أيدي الناس، فالتوكل على الله اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب مع كامل اليقين بأن تعلم أن الله هو الرزاق الخالق، المحيي المميت، المعطي المانع، لا إله غيره، ولا رب سواه، وإن من تمام التوكل أن يثق المرء بما عند الله ويسكن إليه، ويعلم أنه مطالب بأن يأخذ بكل الأسباب مع عدم الركون إليها، وعدم الاعتقاد بأنها هي القادرة على جلب النفع أو دفع الضرر، إلا أنه لا شك في أن قلب المتوكل الذي لا يملك من الأسباب إلا الشيء اليسير يكون أكثر تعلقا وارتباطا بالله من القلب الذي يملك من الأسباب ما يجعله يحقق ما يريد من الناحية العقلية، ويركن إلى ما بين يديه من إمكانيات، فالأول تجده يسارع في إتمام ما هو متاح بين يديه من أسباب ليهرع للوقوع بين يدي الله طالبا عونه ومساعدته حتى تسكن نفسه وتهدأ وتستقر، ليضرب نموذجا في صدق التوكل على الله، وهذا هو حال المسلم العامل في المجال السياسي، فتجده عندما يذكره الناس بين ما يملك من أسباب لتحقيق النصر على الباطل وأعوانه وما يملكه أهل الباطل من قوة وعتاد وجنود تجعله يسارع في الأخذ بكل ما بين يديه من أسباب من نصح للناس وقول الحق ودفع الباطل بقدر استطاعته في النهار، منتظرا حلول الليل ليقف بين يديه شاكيا إليه ضعف قوته وقلة حيلته متلقنا دعاء المفاصلين من سديف بن ميمون عندما يلبي (اللهم قد حكم في أبشار المسلمين الظلمة، وتولى القيام بأمورهم فاسق كل محلة . اللهم وقد استحصد زرع الباطل، وبلغ نهايته، واجتمع طريده. اللهم فأتح له يدا من الحق حاصدة تبدد شمله، وتفرق أمره، ليظهر الحق في أحسن صورة وأتم نورة) .. وكدعاء الخليفة العباسي القائم بأمر الله بن القادر لما تفنن في تضرعه إلى الله تعالى عندما تغلب المفتتن الباطني الفاطمي المسمى بالبساسيري عليه وأرسل رسالته : (إلى الله العظيم , من المسكين عبده، اللهم إنك العالم بالسرائر، المطلع على الضمائر، اللهم إنك غني بعلمك واطلاعك على خلقك عن إعلامي، هذا - أي البساسيري - عبد قد كفر نعمتك وما شكرها، وألغى العواقب وما ذكرها، أطغاه حلمك حتى تعدى علينا بغيا، وأساء إلينا عتوا وعدوا، اللهم قل الناصر، واعتز الظالم، وأنت المطلع العالم، المنصف الحاكم، بك نعتز عليه، وإليك نهرب من بين يديه، فقد تعزز علينا بالمخلوقين، ونحن نعتز بك، وقد حاكمناه إليك وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، ورفعنا ظلامتنا هذه ووثقنا في كشفها بكرمك، فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين).. وقد علقت رسالة القائم في الكعبة فقتل البساسيري بعد تعليقها بقليل، إن هذا التعلق الخالص بالله وبحوله وقوته والتوكل الصادق عليه لهو ملاذ العاملين في هذا المجال فيزدادون بذلك قربا من الله وتعلقا به واعتمادا عليه مؤدين بذلك أحد الشروط المتمة للإيمان (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) فيزداد إيمانهم ويقينهم.
5- عبودية فريدة .. عبودية المراغمة : إن العامل في المجال السياسي ومقاومة الظلم والظالمين ليتفرد بعبادة لا يقوم بها سواه، وهي عبادة المراغمة، وهذه العبودية كما يقول ابن القيم لا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له، فكما قال تعالى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)، وقال تعالى في مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه : (ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار)..
فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له، فموافقته فيها من كمال العبودية، وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته سجدتين، وقال إن كانت صلاته تامة كانتا ترغمان أنف الشيطان، فمن تعبد لله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر, وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة , ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين) .
6- لا بد لأي مجاهد من دعم نفسي متواصل، لتسكن نفسه وتطمئن، وتدريب على سنن وقوانين الحروب وتجارب السابقين في هذه المواجهات، وجهاز استخباراتي يعلمه بنفسيات العدو وطرق تفكيره، وأي شيء سوى القرآن يقوم بهذا الدور العظيم؟
إن ارتباط السياسي بالقرآن يختلف اختلافا كليا عن ارتباط الكثير من المسلمين به، ارتباطه به ارتباط من نوع خاص، إنه عندما يمسك المصحف ليتلو آياته فإنه يحس بسكون عندما يتلو وعد الله له بالنصر أو الشهادة، وأن الله لم يكلفه إلا بإعداد ما استطاع فقط من قوة وتكفل جل وعلا بالنصر (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، ويقول تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ترهبون به عدو الله وعدوكم)، يعرف من خلال قراءته أسباب الضعف والانهيار التي تصيب الأمم فيتجنبها (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)، يعرف العديد من السنن الكونية في الأمم والجماعات والتي يستعين بها في حربه ضد الباطل وحزبه مثل:
سنة التداول : (وتلك الأيام نداولها بين الناس).
وسنة التدافع : (ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).
وسنة التغيير : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
وسنة التمكين : (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين).
تجده يأنس بسماع أخبار إخوانه الذين سبقوه على الدرب وأصابهم ما أصابه ليعلم أن هذا هو الطريق الصحيح الذي سار عليه الأنبياء والشهداء والمصلحين (الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين).
7- توصيات عملية للبدء في العلاج : إن حل إشكالية نفور الناس من العمل السياسي بحجة أنه يقسي القلب، ويلهي عن الدعوة، وأنه عبء على الدعاة لن يكون بالحديث عن هذه المعاني أو نشرها في أوراق أو كتيبات، ولكنها تحتاج إلى خطوات عملية ملموسة تتمثل في:
1- رفع واقع من الدعاة يكشف كل الأسئلة التي تشغله بالنسبة للمشاركة السياسية للإسلاميين وتأثيرها على الدعاة والمجتمع.
2- لا بد من التواصل المباشر مع الدعاة والإسلاميين للرد على أسئلتهم بردود واقعية عملية، والإقرار بأي تقصير وإعلامهم بأي خطوة اتخذت لحل أي مشكلة تم عرضها من قبلهم.
3- البدء في تكوين الشخصيات الربانية السياسية وذلك من خلال :

مشاركة مميزة