kolonagaza7
*محمود عبد الرحيم:
التعاطي الإعلامي مع صفقة إطلاق الجاسوس الإسرائيلي إيلان جرابيل نموذج مثالي للتدليل على حالة الإعلام المصري ما بعد إحتواء الثورة، وتفسير سبب إعادة وزارة الاعلام واختيار محرر عسكري لتولي مهمتها في هذا التوقيت، لضمان العودة إلى إعلام التعبئة والتوجيه للجماهير، على نحو يخدم مصلحة السلطة العسكرية الحاكمة، حتى لو على حساب الحقيقة والمصداقية والقواعد المهنية المتعارف عليها.
وللأسف كان رهاننا على إصلاح تليفزيون الدولة، وجعله ينتمي لدافعي الضرائب لا الحكام، خاسرا، فلا يزال يعمل بمنطق "عبد المأمور"، بلا استقلالية ولا رؤية ولا مهنية، ناهيك عن السيطرة على المحطات الخاصة ودفعها بترغيب أو ترهيب مالكيها من رجال الاعمال، للالتزام بالخطوط الحمر التى تزداد يوما بعد يوم، رغم إدعاء الانفتاح والحرية والأجواء الثورية.
فقد مارس الاعلام التضخيم للحدث والتضليل بمنطق الدعاية والتسويق السياسي الذي يصب في خدمة أهداف محددة، عبر بث على الهواء طوال اليوم لإجراءات تبادل السجناء من النقطة الحدودية للتسليم، مع استضافة ضيوف محسوبين على النظام للتعليق المحدد الأطر، وسط خطاب مضلل يعمد إلى الخلط بين السجين المتهم في قضايا جنائية كتهريب المخدرات أو التسلل أو الإقامة غير الشرعية وغيرها، وبين الأسير نتاج عمليات حربية ومقاومة لعدو، فضلا عن محاولة تسويق الأمر على أنه انتصار لجهاز الاستخبارات وانجاز يستكمل جهود المصالحة الفلسطينية التى ليست سوى حبر على ورق حتى الآن، وصفقة إطلاق الأسرى الفلسطينيين مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط التى لها ظروف وملابسات مختلفة تماما، وأبعاد إقليمية ودولية معقدة.
ووصل الأمر إلى ذهاب محافظي شمال وجنوب سيناء لاستقبال المجرمين بالزهور، والترحاب بهم كما لو كانوا عائدين من أرض المعركة، وليسوا اشخاصا اساءوا لمصر بإقامتهم في أرض العدو أو السعى للتربح منه حتى لو بتجارة غير مشروعة، في مشهد يدعو للسخرية التى وصلت قمتها في المؤتمر الصحفي الذي أقاماه، ليتحدثا عن صفقة لا يعرفان تفاصيلها، أو لم تُصدر لهما الأوامر للخوض فيها، ما دفع احدى الصحفيات إلى إحراجهما بالقول: "طالما لا تملكان معلومات لماذا لم يأت أحد مسئولي الاستخبارات ليتحدث هو؟!"، فيما تأتي المعلومات من تل أبيب عن وصول الجاسوس جوا من القاهرة، وليس عبر منفذ طابا البري، بينما يمارس الإعلام المصري والرسميون الإخفاء حتى النهاية لمعلومة لا تتسم بالحساسية، غير أنها تفضح المصداقية، وأن الضجة الاعلامية مفتعلة، وليست سوى ضجيج بلا طحن مقصود منه تلميع دور جهاز الاستخبارات الذي يتعرض لإنتقادات واسعة بعد إقحامه في ملفات تتجاوز دوره الأمنى إلى لعب أدوار سياسية في ملفات حساسة، من صميم عمل الديبلوماسية ومؤسسة الرئاسة.
وربما لا يدرك هؤلاء الذين يتبرعون بحملة تسويق جهاز الاستخبارات أن دعايتهم التى تستند إلى التضليل والتضخيم تأتي بنتائج عكسية تضر أكثر مما تفيد، وأن إبقاء هذا الجهاز الأمني الحساس بعيد عن الجدل الإعلامي والسياسي خير له، لأن وضعه في دائرة الضوء كصانع قرار ومفاوض سياسي يخرجه من دائرة دوره الرئيس في جمع المعلومات ورصد وتحليل الأخطار المحدقة بالأمن القومي، ورفع تقارير بشأنها لصانع القرار السياسي المنوط به اتخاذ القرارات اللازمة، ومن ثم يخضع لتقييم الاداء والنقد الذي قد ينال من صورته كمؤسسة لها هيبتها ودورها الوطني المقدر.
فصفقة تبادل السجناء المصريين بالجاسوس الإسرائيلي على سبيل المثال، لا يمكن بحال من الأحوال نسبتها إلى جهاز الاستخبارات حتى وإن قام بدور فيها، لأنها لم تكن لتتم دون موافقة المجلس العسكري الحاكم الذي يحل محل الرئيس المخلوع مبارك صاحب القرار الأول والأخير، وأنه إذا وضعناها موضع التقييم فأنها صفقة فاشلة جرى فيها الرضوخ للضغوط الأمريكية الإسرائيلية، ولا ترقى لصفقة شاليط التى عليها مآخذ عديدة هي الأخرى.
وليست التغطية الإعلامية المبالغ فيها والخطاب الموجه نحو إعتبارها نصرا وانجازا إلا محاولة للتغطية على الفشل والنتائج الهزيلة لها.
ولو كان ثمة تفاوض حقيقي ورغبة في صنع انجاز يستحق الإبراز الإعلامي لكان قد تم التشدد في ضرورة إطلاق كل السجناء المصريين في السجون الإسرائيلية، وعدد من الأسرى الفلسطينيين، خاصة النساء، وإطلاق الشيخ عمر عبد الرحمن القابع في السجون الأمريكية حتى يكون ثمة ثمن مقبول لمثل هذه الصفقة التى يتم فيها تبادل جاسوس بسجناء جنائيين عاديين، لا يمثلون نفس خطورته ولا تهديده، وحتي يمكن القول إن ثمة إرادة سياسية مستقلة وتحولا نوعيا في الإداء السياسي للسلطة الحاكمة ما بعد ثورة يناير.
أما اللجوء إلى الإعلام لبيع بضاعة فاسدة، وصنع حدث من لا حدث، والعودة لمدرسة غسيل الأدمغة وحقنها بالأكاذيب فقد ولى زمانها، وباتت أشبه باللعب بالنار التى حتما ستحرق من يلجأ إليها إن عاجلا أو آجلا.
*كاتب صحفي مصري
التعاطي الإعلامي مع صفقة إطلاق الجاسوس الإسرائيلي إيلان جرابيل نموذج مثالي للتدليل على حالة الإعلام المصري ما بعد إحتواء الثورة، وتفسير سبب إعادة وزارة الاعلام واختيار محرر عسكري لتولي مهمتها في هذا التوقيت، لضمان العودة إلى إعلام التعبئة والتوجيه للجماهير، على نحو يخدم مصلحة السلطة العسكرية الحاكمة، حتى لو على حساب الحقيقة والمصداقية والقواعد المهنية المتعارف عليها.
وللأسف كان رهاننا على إصلاح تليفزيون الدولة، وجعله ينتمي لدافعي الضرائب لا الحكام، خاسرا، فلا يزال يعمل بمنطق "عبد المأمور"، بلا استقلالية ولا رؤية ولا مهنية، ناهيك عن السيطرة على المحطات الخاصة ودفعها بترغيب أو ترهيب مالكيها من رجال الاعمال، للالتزام بالخطوط الحمر التى تزداد يوما بعد يوم، رغم إدعاء الانفتاح والحرية والأجواء الثورية.
فقد مارس الاعلام التضخيم للحدث والتضليل بمنطق الدعاية والتسويق السياسي الذي يصب في خدمة أهداف محددة، عبر بث على الهواء طوال اليوم لإجراءات تبادل السجناء من النقطة الحدودية للتسليم، مع استضافة ضيوف محسوبين على النظام للتعليق المحدد الأطر، وسط خطاب مضلل يعمد إلى الخلط بين السجين المتهم في قضايا جنائية كتهريب المخدرات أو التسلل أو الإقامة غير الشرعية وغيرها، وبين الأسير نتاج عمليات حربية ومقاومة لعدو، فضلا عن محاولة تسويق الأمر على أنه انتصار لجهاز الاستخبارات وانجاز يستكمل جهود المصالحة الفلسطينية التى ليست سوى حبر على ورق حتى الآن، وصفقة إطلاق الأسرى الفلسطينيين مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط التى لها ظروف وملابسات مختلفة تماما، وأبعاد إقليمية ودولية معقدة.
ووصل الأمر إلى ذهاب محافظي شمال وجنوب سيناء لاستقبال المجرمين بالزهور، والترحاب بهم كما لو كانوا عائدين من أرض المعركة، وليسوا اشخاصا اساءوا لمصر بإقامتهم في أرض العدو أو السعى للتربح منه حتى لو بتجارة غير مشروعة، في مشهد يدعو للسخرية التى وصلت قمتها في المؤتمر الصحفي الذي أقاماه، ليتحدثا عن صفقة لا يعرفان تفاصيلها، أو لم تُصدر لهما الأوامر للخوض فيها، ما دفع احدى الصحفيات إلى إحراجهما بالقول: "طالما لا تملكان معلومات لماذا لم يأت أحد مسئولي الاستخبارات ليتحدث هو؟!"، فيما تأتي المعلومات من تل أبيب عن وصول الجاسوس جوا من القاهرة، وليس عبر منفذ طابا البري، بينما يمارس الإعلام المصري والرسميون الإخفاء حتى النهاية لمعلومة لا تتسم بالحساسية، غير أنها تفضح المصداقية، وأن الضجة الاعلامية مفتعلة، وليست سوى ضجيج بلا طحن مقصود منه تلميع دور جهاز الاستخبارات الذي يتعرض لإنتقادات واسعة بعد إقحامه في ملفات تتجاوز دوره الأمنى إلى لعب أدوار سياسية في ملفات حساسة، من صميم عمل الديبلوماسية ومؤسسة الرئاسة.
وربما لا يدرك هؤلاء الذين يتبرعون بحملة تسويق جهاز الاستخبارات أن دعايتهم التى تستند إلى التضليل والتضخيم تأتي بنتائج عكسية تضر أكثر مما تفيد، وأن إبقاء هذا الجهاز الأمني الحساس بعيد عن الجدل الإعلامي والسياسي خير له، لأن وضعه في دائرة الضوء كصانع قرار ومفاوض سياسي يخرجه من دائرة دوره الرئيس في جمع المعلومات ورصد وتحليل الأخطار المحدقة بالأمن القومي، ورفع تقارير بشأنها لصانع القرار السياسي المنوط به اتخاذ القرارات اللازمة، ومن ثم يخضع لتقييم الاداء والنقد الذي قد ينال من صورته كمؤسسة لها هيبتها ودورها الوطني المقدر.
فصفقة تبادل السجناء المصريين بالجاسوس الإسرائيلي على سبيل المثال، لا يمكن بحال من الأحوال نسبتها إلى جهاز الاستخبارات حتى وإن قام بدور فيها، لأنها لم تكن لتتم دون موافقة المجلس العسكري الحاكم الذي يحل محل الرئيس المخلوع مبارك صاحب القرار الأول والأخير، وأنه إذا وضعناها موضع التقييم فأنها صفقة فاشلة جرى فيها الرضوخ للضغوط الأمريكية الإسرائيلية، ولا ترقى لصفقة شاليط التى عليها مآخذ عديدة هي الأخرى.
وليست التغطية الإعلامية المبالغ فيها والخطاب الموجه نحو إعتبارها نصرا وانجازا إلا محاولة للتغطية على الفشل والنتائج الهزيلة لها.
ولو كان ثمة تفاوض حقيقي ورغبة في صنع انجاز يستحق الإبراز الإعلامي لكان قد تم التشدد في ضرورة إطلاق كل السجناء المصريين في السجون الإسرائيلية، وعدد من الأسرى الفلسطينيين، خاصة النساء، وإطلاق الشيخ عمر عبد الرحمن القابع في السجون الأمريكية حتى يكون ثمة ثمن مقبول لمثل هذه الصفقة التى يتم فيها تبادل جاسوس بسجناء جنائيين عاديين، لا يمثلون نفس خطورته ولا تهديده، وحتي يمكن القول إن ثمة إرادة سياسية مستقلة وتحولا نوعيا في الإداء السياسي للسلطة الحاكمة ما بعد ثورة يناير.
أما اللجوء إلى الإعلام لبيع بضاعة فاسدة، وصنع حدث من لا حدث، والعودة لمدرسة غسيل الأدمغة وحقنها بالأكاذيب فقد ولى زمانها، وباتت أشبه باللعب بالنار التى حتما ستحرق من يلجأ إليها إن عاجلا أو آجلا.
*كاتب صحفي مصري