الاثنين، 23 يناير 2012

النهضة بين الفكر والاقتصاد

kolonagaza7

أحمـــد فـــــلاح
أستاذ مكلف بالدروس بكلية العلوم الاقتصادية والتسيير
جامعة الجزائر –
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى :
)إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (سورة الرعد الآية 10).
وقال الله تعالى :
)وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (سورة القصص الآية 77).
tttttttttt
وقال الله تعالى :
)وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ(سورة الحديد الآية 25).
توطئــــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه...
لقد شرفتني "مصلحة النشاطات الثقافية والعلمية والرياضية" لـ"إدارة الإقامة الجامعية القبة القديمة" بمناسبة ذكرى "يوم العلم" بدعوة لإلقاء محاضرة في موضوع اقتصادي من مواضيع الساعة تتعلق بذكرى "يوم العلم"، وقد يسّر الله تعالى لي أسباب التفكير في إنشائه متعلقاً بهذه المناسبة، فكان انْفِتاقُ غيوم تفكيري عن شمس فكرة: ]أنّ الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله كان ممّن استهدف إنهاض المسلمين في الجزائر بالإسلام لتحريرهم من الإستعمار الفرنسي الكافر، فلا بدّ إذن والحال هذه أن يتوافر في موضوعي النقطتين التاليتين أدناه:
- أن يكون عاماً حول النهضة متعلقاً بالإقتصاد؛ خاصة وأنّ الإقتصاد قد تكنَّف النهضة؛ فكان لا بدّ من توضيح العلاقة بينهما من حيث أن التقدم الإقتصادي فرعٌ عن وجود النهضة، وبالتالي توضيح علاقة هذا الفرع (التقدم الإقتصادي) بذلك الأصل (النهضة)، باعتبار التقدم الإقتصادي من أهم نتائج أو ثمار هذه النهضة، والتي-أي النهضة- تتحقق ببعث الحياة في الفكرة الدافعة (العقيدة الإسلامية) للمسلمين.
- أن يكون خاصاً بالإقتصاد الإسلامي متعلقاً بكيفية تحقيق التحرر الإقتصادي من التبعية للغرب الرأسمالي الكافر، وبالضبط يكون متعلقاً بسياسة بناء الدّولة صناعياًّ، لأن هذا التحرر لا يتحقق إلا بتسلّم زمام رأس الصناعة، بعد أخذ أو استلام الحُكْم وإقامته على أساس العقيدة الإسلامية بعد جمع الأمة عليها، لجعلها تتجه في حياتها على هذه العقيدة.
ولذلك فقد رأيتُ أن يكون موضوعي حول هاتين النقطتين، وعليه عَنْوَنْتُهُ بـ: "النَّهْضَـةُ بَيْنَ الْفِكْـر وَالإِقْتِـصَاد: مَعَالِمُ التَحَـرُّر الإِقْتِـصَادِيّ بِالْعَقِيـدَةِ الإِسْلاَمِيَّـةِ"[.
هذا وقد صرف الله تعالى عنّي العراقيل، لإعداد وإخراج وطرح هذا الموضوع المتواضع بالمضمون الذي حضرتم من أجل سماعه ومناقشته، عسى أن أنفع به ولو واحداً منكم، أو تجدوا كلكم ولو جزءاً من ضالتكم منه، غير مبتغٍ وراء ذلك إلا رضوان الله عزّ وجل، ولذلك فإنني أرجو أن يكون لقاءنا اليوم لقاءاً خالصاً لله تبارك وتعالى، نتعرف فيه لبعض ما يجب أن نعرفه من أحكام ديننا، بما يحقق لنا رضوان الله تعالى ويجنبنا سخطه.
بسم الله الرحمن الرحيم
" النَّهْضَـةُ بَيْنَ الْفِكْـر وَالإِقْتِـصَاد: مَعَالِمُ التَحَـرُّر الإِقْتِـصَادِيّ بِالْعَقِيـدَةِ الإِسْلاَمِيَّـةِ "
أحمـد فـلاح أستاذ مكلف بالدروس بكلية العلوم الاقتصادية والتسيير
جامعة الجزائر -
أيها الحضور الكرام:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته... أما بعد:
لعلّه من البديهي أنّ الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية، في كافة مجالات حياتها، هو من المرارة والفساد، بحيث لا يمكن لأيّ مسلم-مهما كانت بلادته- إلاّ أن يحسّ به؛ فالأمة الإسلامية على درجة كبيرة من الإنحطاط والتبعية والتخلّف، فهي تعيش واقعاً ما يزال ينحدر بها إلى هوّة الإنحطاط ويُخضعها لمزيد من التبعية ويُنمي فيها التخلّف.
وتعتبر حياتها الإقتصادية، من أبرز ما يمكن الإستدلال به لوصف أوضاعها السيئة اليوم، حيث نسجّل مفارقات كبرى، تجعل الحليم حيراناً؛ فرغم ما يُعرف عن البلاد الإسلامية من ضخامة الثروات المادية، فهي كانت وستبقى-حسب الدراسات الإقتصادية المستقبلية- من أغنى مناطق العالم، إلا أن الأمة الإسلامية تقع في قلب خريطة الفقر في العالم، وتعيش غالبية شعوبها الفقر حتى الموت جوعاً عند بعضها:
- فـالبلاد الإسلامية معروفة بامتلاكها لمواد أولية طبيعية (بترول وغاز...إلخ) تعتبر مصدر نعمة عليها، إذ لا يمتلكها-تقريباً- غيرها، وتستطيع بواسطتها التحكّم في تجارتها الدولية، وفي أسواقها العالمية، وأكثر من ذلك التحكّم في التطور الإقتصادي-خاصة منه الصناعي- العالمي... إلا أنّ البلاد الإسلامية واقعة تحت رحمة هذه التجارة الدولية وهذه الأسواق العالمية؛ فالشركات العالمية الكبرى ومن ورائها الدول الرأسمالية الإستعمارية الكافرة، تتحكّم في هذه المواد الأولية الطبيعية إنتاجاً وتسعيراً وتسويقاً، بل وأكثر من ذلك فإن الدول الغربية الرأسمالية لا تفصل حقول البترول في البلاد الإسلامية عن أمنها، لتوفّر هذه البلاد على أضخم احتياطي للبترول في العالم، وما لنا نذهب بعيداً وقد شنَّت الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وحلفائهما حرباً غاشمة (سرقة مسلحة) على العراق؛ الأولى سنة 1991م والثانية سنة 2003م والتي لم تضع أوزارها بعد، من أجل غَصْبِ بتروله والإستيلاء على حقوله في الخليج.
- والبلاد الإسلامية رغم سَعَةِ و خِصْب أراضيها الزراعية... فإنّ هناك عجزاً متزايداً في الغذاء، وأصبح الإعتماد على استيراد الأغذية عملية حيوية لكل دويلة من دويلات العالم الإسلامي، حتى أنّ أزمة الغذاء تعدّت مسألة الإنتاج والأسعار...إذ أنها من الممكن أن تهدّد-وقد هدّدت- أمن العالم الإسلامي بأكمله ذلك أن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية تستعملان الغذاء كسلاح اقتصادي وسياسي، من أجل تحقيق أهدافهما الإستعمارية، فمثلاً ما جرى للعراق خير دليل على ذلك؛ من وفاة أكثر من مليون و20 ألف نسمة منهم 400 ألف طفل توفوا من جرّاء نقص الأغذية، خلال الحصار الإقتصادي والعقوبات التي فُرِضت عليه في العقد الأخير من القرن 20م الماضي.
- والبلاد الإسلامية رغم أنّ معظمها أخذت بالتركيز على التصنيع في بدايات استقلالها السياسي... فإنها لم تتحوّل إلى بلاد متقدمة صناعياًّ، ولا حتى استطاعت تطوير أو صيانة ما كَوَّنَتْهُ من صناعات. وها هي الجزائر مثلاً قد وقع قطاعها الصناعي في الشلل شبه التام، بل يَنْزِعُ نَزْعاً، وأصبحت هياكله خردة بالية تحكي العصر الوسيط لتاريخ التصنيع. بل إن البلاد الإسلامية زادت من تبعيتها للعالم الرأسمالي باعتمادها على استيراد المصانع وقطع الغيار، بحيث أصبحت مصانعها رهن العلاقات السياسية مع هذا العالم الرأسمالي الإستعماري الكافر.
- ورغم أنّ البلاد الإسلامية معروفة بمواردها وفوائضها المالية، والتي إِنِ استُعمِلت-بدون أيّ تخطيط طويل- في تنشيط اقتصادياتها، لعالجت معظم مشكلاتها الإقتصادية المختلفة... فمثلاً نشرت الصحف العالمية توقعات "إدارة معلومات الطاقة الأمريكية" بأن صافي الإيرادات البترولية لمنظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) ستبلغ 430 مليار دولار مع نهاية عام 2005م. وحيث أن بعض دويلات العالم الإسلامي تحتل جلّ هذه الإيرادات بنسبة تزيد عن 91 %كما يبين الجدول التالي- يعني أن حصتهم تزيد عن 390 مليار دولار.
جدول يبين الدول الأعضاء في منظمة (أوبك) وإيراداتهم لعام 2005م
الدول الأعضاء
إيرادات
النسبة المئوية
العراق السعودية الكويت إيران الإمارات الجزائر ليبيا قطر أندونيسيانيجيريا فنزويلا
19 مليار دولار 146 مليار دولار 37 مليار دولار 41 مليار دولار 39 مليار دولار 30 مليار دولار 24 مليار دولار 17 مليار دولار 13 مليار دولار 28 مليار دولار 36 مليار دولار
4.4 % 34 % 8.6 % 9.5 % 9 % 7 % 5.6 % 4 % 3 % 6.5 % 8.4 %
المجموع
430 مليار دولار
100 %
المصدر: http://www.alokab.com/politicals/details.php?id=705_0_8_0_M
نقلاً عن "إدارة معلومات الطاقة الأمريكية"
فـأين تذهب مثل هذه الأموال كل سنة؟ إن آلاف الملايين التي يبينها الجدول السابق هي جزء من إيرادات تلك الدول في سنة واحدة، وهي عبارة عن أموال البترول المعلن فقط، وهي ليست كل الأموال في دويلات العالم الإسلامي، بل هي جزء منها. وإن هذه الأرقام مرشحة للزيادة-بحسب المصدر نفسه- لأن الطلب على البترول في ازدياد مستمر مع عدم إمكانية زيادة الإنتاج بنفس النسبة. والمدقق في ميزانيات تلك الدول يرى أنها في غالبها لا تزيد عن نصف الأموال التي وردت في الجدول السابق فقط، بل تقل عن النصف بكثير عند البعض، فمثلاً، كانت ميزانية السعودية لسنة 2004م حوالي 60 مليار دولار، وكان تقرير وزارة المالية السعودية أن الإيرادات النفطية حسبت على أساس 20 دولار للبرميل وذلك بناءاً على تقدير "الخبراء"، في حين تم بيعه بما يزيد عن ضعف هذا الرقم و أكثر. فأين تذهب هذه الأموال الطائلة كل سنة في تلك الدول؟. جاء في الفيلم الوثائقي "فهرنهايت 11" أن الولايات المتحدة الأمريكية قد استفادت من نفط السعودية فقط ما قيمته 86 تريليون دولار. يعني أننا لو قسمنا هذا المبلغ على جميع المسلمين في العالم لكانت حصة كل واحد منهم، رضيعهم وشيخهم، ذكرهم وأنثاهم حوالي 66 ألف دولار. هذه الأموال تستفيد منها الولايات المتحدة الأمريكية على حساب الأمة الإسلامية... أضف إلى ذلك فإنّ هذه الأموال تذهب في الحروب الداخلية أو بين دويلات العالم الإسلامي (مثل الحرب العراقية-الإيرانية، الحرب العراقية-الكويتية، حرب الخليج التي شاركت فيها سوريا ومصر ضد العراق، حرب المغرب-الصحراء الغربية، الحرب الأهلية اللبنانية والجزائرية...إلخ)، فحسب الدراسات، فإن 46 % من تجارة السلاح في العالم موجهة إلى المنطقة العربية (وليست صفقة السلاح التي أبرمتها السعودية مع إنجلترا (70 مليار دولار) والأخرى التي أبرمتها الجزائر مع روسيا (7.5 مليار دولار) عنا ببعيدٍ)، هذا في الوقت الذي مازالت فيه (إسرائيل) موجودة دولة شرعية بينها في قلب العالم الإسلامي، بل وأذلّ من ذلك فالدول العربية في طريق الهرولة نحو التطبيع معها، بل والأذلّ من ذلك كله هو ما استطاعته في فلسطين بأن أجروا انتخابات في ظل احتلال (إسرائيل)، وبإذنهم، وبرعاية مكثفة من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، ليجعلوا مَنْ ينادون بالإسلام(حركة المقاومة الإسلامية "حماس") يتولون المجلس التشريعي والسلطة القائمة أصلاً على اتفاقية أوسلو، وها نحن نراهم قد شكّلوا حكومة السلطة ذات الخزانة الفارغة، بينما اليهود من أمامها وبوارجهم في البحر من ورائها وعساكرها على كل مخارج ومداخل مدن الضفة والقطاع، وراحوا يعوّلون على تفعيل معونة الدويلات العربية بدلاً من الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية، مع أن تلك الدويلات مجتمعة-حتى البعيدة عن حدود فلسطين- تعترف بـ(إسرائيل) صراحة من خلال مبادرة الجامعة العربية في قمة بيروت 2002م حيث أعلنت القمة مبادرتها التي جعلت القضية عند العرب علناً وصراحةً فيما احتل 1967م وأن المحتل 1948م هو دولة (إسرائيل)!، كما أعلنت بعض هذه الدويلات أنّ الموافقة على تلك المبادرة هي بوابة المعونة، وبهذا سيُصبح-إن لم يصبحوا بعد- هؤلاء ينادون بفلسطين 1967م وليس بفلسطين 1948م و1967م معاً وفي نفس الوقت، وتصبح الجريمة ليس الاعتراف بـ(إسرائيل) في 1948م بل باحتلال (إسرائيل) لأراضي 1967م!.
- ورغم أنّ البلاد الإسلامية معروفة بعلمائها وأخصائييها في جميع المجالات العلمية والتقنية وغيرها، والذين تزخر بهم جامعاتها ومعاهدها ومدارسها العلمية، كما الجامعات والمعاهد والمدارس الأجنبية، فإنها تعتمد إعتماداً أساسياً وحيوياً على الإستشارات والخبرة الأجنبية، وفي مقابل ذلك، نجد هجرة الأدمغة منها إلى العالم الغربي الرأسمالي، والتي تتربع على عرش معظم المناصب الإستراتيجية في دوله، في كافة المجالات (الفضاء، الهندسة، الكيمياء،...إلخ)، ولأهميتهم العسكرية-التي تجاهلتها دويلات العالم الإسلامي- في تحقيق (بعض) الإختلال الدولي في ميزان القوى الحالي، كانت من بين ما تستهدفه الحرب الأمريكية على العراق إغتيال العلماء الأخصائيين في الميدان النووي وما له علاقة به.
لا شك أنّ هاته المفارقات الإقتصادية الكبرى، وغيرها كثير، ونتائجها الخطيرة، وآثارها المتشعبة، تجعلنا أمام ما وصل إليه العالم الإسلامي، وما وصل إليه من إنهيار ليس في الجانب الإقتصادي لشعوبه فقط، بل بتهديد مقومات وجوده، نجد أنفسنا خاصة أمام عجز السياسيين والإقتصاديين والمفكرين، الذين يملكون زمام الأمور السياسية والإقتصادية والفكرية للعالم الإسلامي، على تحقيق التحرّر الإقتصادي النهائي من التبعية للأجنبي، وتحقيق التقدم الإقتصادي للخروج من دائرة التخلف، حتى أصبح مجرد تصور الفكاك من التبعية والتخلف أمران مستحيلان، وبات أمر تحرّر العالم الإسلامي من النفوذ الأجنبي وأمر تقدّمه الصناعي خرافات أو ترّهات أو أضغاث أحلام ما دام يسير على المنهج الذي رسمته له الدول الغربية الرأسمالية، ...، قلت نجد أنفسنا مدفوعين إلى طرح بعض التساؤلات الأساسية التالية:
- كيف تتحرّر الدولة من التبعية الإقتصادية؟ وإذا كان للتصنيع دور في ذلك فكيف تُبنى الدولة صناعياًّ؟
- وما علاقة الإقتصاد بالنهضة؟ وهل النهضة لا تتم إلا بالتقدم الإقتصادي أم أنه نتيجة من نتائجها؟
- وإذا كان نتيجة من نتائجها فما هو طريق النهضة؟ فهل يمكن مواصلة الإعتماد على دويلات العالم الإسلامي في تحقيقها؟ أم أنّ الأمر يحتاج إلى تغيير جذري بإعادة بناء دولة واحدة بالطريق السياسي لتوحيد العالم الإسلامي في دولة واحدة هي "الخلافـة" ؟
- وما علاقة كل من النهضة والتحرّر والتقدم الإقتصاديين بالإسلام؟
أيها الحضور الكرام:
إن موضوع "النَّهْضَـةُ بَيْنَ الْفِكْـر وَالإِقْتِـصَاد: مَعَالِمُ التَحَـرُّر الإِقْتِـصَادِيّ بِالْعَقِيـدَةِ الإِسْلاَمِيَّـةِ"، قد يبدو للبعض منّا أنه موضوع إقتصادي بحت لا علاقة له بميادين ومجالات الحياة الأخرى، ولكنه في حقيقة الأمر موضوع سياسي ذو مضمون إقتصادي، لأنه لا يتعلق بالدوافع والنتائج الإقتصادية للتحرّر الإقتصادي فقط، وإنما أيضا-إضافة إلى ذلك وقبل ذلك- متعلق بالدوافع والنتائج الفكرية والسياسية له...كما أن هذا الموضوع قد يتصور للبعض منا أنّنا بتراثنا الفقهي وحده نستطيع أن نعالج مشكلته، ولكن هذا التصور خاطئ، لأن موضوع التحرّر الإقتصادي بالصناعة يتطلب اجتهاداً جديداً، فلا يكفي الوقوف عند التراث الفكري، بل يجب تنميته بفهم الوقائع والأحداث الجديدة من جهة، وفهم أصول الإسلام لبناء فكر سياسي وإقتصادي تشريعي حي مبني على الإسلام من جهة أخرى؛ فلابدّ من التفكير الأصيل الراقي الذي يمكن من الإجتهاد لحلِّ المشكلات الإقتصادية الحديثة على أساسٍ إسلاميٍ صافٍ يعود إلى الكتاب والسنة... ومن أجل ذلك أقول وبالله التوفيق.
أيها الحضور الكرام:
منذ الإنقلاب الصناعي في أوروبا، والعالم الإسلامي يتعرض لهجمات ضارية من الغرب، وبسقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافـة سنة 1924م، تمكّن الغرب من إخضاع العالم الإسلامي كله لنفوذه، وأبعد الإسلام عن جميع مجالات حياته، وبقي منه العبادات وأحكام أخرى قليلة، لكن المسلمين رغم هزيمتهم، هبّت عليهم موجة من التحرّر بلغت ذروتها في الخمسينات وأوائل الستينات من القرن 20م الماضي...، إلا أن الغرب نجح في القضاء على هذه الموجة وإجهاضها عن طريق الثورات المزيَّفة، فتهيأ للمسلمين أنهم تحرّروا، وها نحن في أوائل العقد الأول من القرن 21م، نشهد أن العالم الإسلامي يرزح تحت وطأة النفوذ الغربي، بل وأكثر من ذلك فإننا نشهد رجوع الإستعمار العسكري المباشر في أهم معاقل المسلمين: العراق وأفغانستان.
لقد أخضع الغرب العالم الإسلامي كله لنفوذه، وأبعد الإسلام عن حياته، خاصة الإقتصادية منها، بتطبيق النظام الإقتصادي الرأسمالي عليه، وبذل قصارى جهده لتحطيم القواعد الإقتصادية له، بما يجعله سوقاً لاستقبال منتجاته الصناعية، وبما يجعله ممداً له بالمواد الأولية الزراعية والإستخراجية، أي بما يجعله اقتصاداً مرتبطاً تماماً بإقتصاد الدول الغربية الرأسمالية، فقد شوّه الغرب القطاعات الزراعية والتجارية والصناعية وحتى الحِرَفِيَّة للعالم الإسلامي، بشكل جعل هذا الأخير ينتج ما لا يستهلك، ويستهلك ما لا ينتج، ليعزّز، أي الغرب، تبعية إقتصاديات العالم الإسلامي له.
ولذلك واجه العالم الإسلامي مشكلة ما سمي آنذاك "الإستقلال الإقتصادي" و"حق تقرير المصير الإقتصادي للشعوب"، مما دلّ أنّ خروج الإستعمار العسكري لم يَعْن على الإطلاق زوال الإستعمار كإستعمار، ذلك أن الإحتلال العسكري شكل من أشكاله، وأن الكثير من أشكاله الأخرى بقيت موجودة، خاصة الأشكال المتعددة للتبعية الإقتصادية، فأسلوب الإستعمار الذي طبّقه ليجهض الثورات في العالم الإسلامي هو منح الاستقلال السياسي الشكلي مع الإحتفاظ بالمواقع الإقتصادية في أيديه، يشرف بها على إخضاع خطط التنمية الإقتصادية للعالم الإسلامي لمصالحه ويوجهها في اتجاه تحقيق أهدافه الإستعمارية.
ورغم أن العالم الإسلامي منذ النصف الثاني من القرن الماضي، قد أخذ، في إطار ما سمي بالعالم الثالث وحركة عدم الإنحياز وهيئة الأمم المتحدة، محاولاً تحويل معركة "الإستقلال السياسي" إلى معركة "الإستقلال الإقتصادي"- فإنه لم ينجح لحد الساعة- بل أننا رأينا بلدانه رغم تركيزها على القطاع الصناعي منذ بدايات الإستقلال السياسي، فإنّها لم تتحول إلى بلدان صناعية متقدمة ولا حتى استطاعت صيانة وتطوير ما كَوَّنَتْهُ من صناعات، بل أنها زادت من تبعيتها للغرب باعتمادها على إستيراد المصانع وقطع الغيار، بحيث أصبحت مصانعها رهن العلاقات السياسية معه.
إنّ من أسباب عدم نجاح دويلات العالم الإسلامي في تحقيق ما سمّته "الإستقلال الإقتصادي" وأسمّيه "التحرّر الإقتصادي" هو أنها لم تُقِم سياستها الصناعية على "جعل البلاد من البلدان الصناعية ولم تسلك إلى ذلك طريقها الأوحد هو إيجاد صناعة الآلات أولاً، ومنها توجد باقي الصناعات"، أي أن يباشر أولاً وقبل كل شيءٍ بإيجاد المصانع التي تصنع الآلات من محركات (موتورات) وخلافها، ثم بعد توفر الآلات من صناعة البلاد تؤخذ هذه الآلات وتصنع باقي المصانع.
ولا توجد طريقة أخرى لجعل البلاد بلاداً صناعيةً إلا بالبدء بصناعة الآلات أولاً وقبل كل شيءٍ، ثم عدم القيام بإيجاد أي مصنعٍ إلاّ من الآلات المصنوعة في البلاد.
فالحقيقة أنه لا علاج للدولة المتخلفة صناعياًّ إلا بـ«الثورة الصناعية»، والثورة الصناعية هي «تسلم زمام رأس الصناعة ومنبعها وهي صناعة الآلات بعمليةٍ انقلابيةٍ في الصناعة وعدم التلهي بأي صناعة قبل تسلم زمام رأس الصناعة، وجعل الجهود الإقتصادية كلّها موجّهة لإيجاد صناعة الآلات ولا يقام بأي شيءٍ سوى الضروريات وسوى ما لا بدّ منه لإيجاد صناعة الآلات».
على أن الواقع يثبت ذلك:
1/ فإن أوروبا حين حصلت فيها الثورة الصناعية إنما حصلت حين وجدت فيها صناعة الآلات.
2/ أن الولايات المتحدة الأمريكية كذلك كانت مستعمرة لعدة دول لكنها تقدمت مادياً حين حصلت فيها الثورة الصناعية بصناعة الآلات.
3/ وأن روسيا كذلك لم تصبح دولة ذات قيمة إلا بعد أن حصلت فيها الثورة الصناعية بصناعة الآلات.
4/ أن الدولة التي لا تكون فيها صناعة الآلات فإن مصانعها الأخرى تكون مربوطة تبعياً للدولة التي تملك الآلة وقطع الغيار؛ فإِنَّ تَوَقُّفَ آلة لعطلٍ يصيبها يؤدي إلى تعطيل المصنع إن لم تتوفر الآلة أو قطع الغيار اللازمة، كذلك فإن معدات الدولة العسكرية تفقد قيمتها إن لم تتمكن الدولة من استيراد قطع الغيار اللازمة لصناعتها، وهذا ما يجعل سيادة الدولة وأمنها وأمن رعيتها مقيدة، ويبرز أكثر ما يبرز هذا الأمر فيما إذا حصلت حالة عداء بين الدولة صاحبة السلاح أو صاحبة الآلات وبين الدولة المستوردة لهذا السلاح وهذه الآلات، وقد تحدث حالة حصار لهذه الدولة فتصبح صناعتها بمجملها العسكرية والمدنية شبه متوقفة، إذا لم تكن هذه الدولة قادرة على صناعة الآلات فتعالج ذاتياً الآلة المعطلة أو قطعة الغيار اللازمة.
وعليه فمن كان يريد أن يبني صناعة ويتقدم صناعياًّ فلن يتأتى له ذلك إن لم يبدأ بثورةٍ صناعيةٍ بالمبادرة إلى إقامة صناعة الآلات رأساً وبدون تدرج، بل بشكلٍ انقلابيٍ حتى يكون العمل ثورة صناعية صحيحة.
أيها الحضور الكرام:
إن الغرب يدرك أن تقدم الدّولة الصناعي لا يتم بدون البدء بصناعة الآلات، وطبقا لوجهة نظره الرأسمالية الاستعمارية الكافرة، فإنه يرسم الخطط لتبقى دويلات العالم الإسلامي تابعة صناعياً له وسوقاً لتصريف صناعاته ومنطقة نفوذ وهيمنة له. ومن الأساليب الخبيثة التي صنعها ويصنعها لها كي تبقى متخلفةً صناعياًّ ولا تتمكن من أن تبني نفسها صناعياً، ما يلي:
1/- دراسات وأبحاث لإيجاد قناعات لأصحاب القرار في بلادنا ومثقفيهم بأن الصناعة تحتاج إلى مراحل حتى تكتمل، فقد نشر البروفيسور الأمريكي "ف.ف.روستو" (W.W.Rostow) في كتابه «مراحل التنمية الاقتصادية» (The Process of Economic Growth) سنة 1960م، ما يوحي بأن المجتمع لابد أن يمر بمرحلة المجتمع التقليدي، ثم مرحلة الإنطلاق، ثم مرحلة النضج ثم مرحلة الإستهلاك الشعبي العالي، قبل أن يصل إلى مرحلة التصنيع الثقيل، وكل مرحلة من هذه المراحل وضع لها شروطاً تحتاج إلى زمن طويل لتكتمل ممّا يجعل أية دولة تريد أن تبدأ التصنيع الثقيل، يجعلها تسير عقوداً قبل أن تصل إلى مرحلة التصنيع الثقيل، والهدف من هذا الكتاب وأمثاله، الحيلولة دون الثورة الصناعية، فإِنَّ مَنْ يقتنع به يعتقد أنه لا بدّ من المرور بمراحل طويلة، وهذا يعني صرف الناس عن الثورة الصناعية. وهذه الدراسات وأمثالها تريد أن تبقي العالم الإسلامي أسواقاً للغرب تستهلك ما ينتجه وتحقق مصالحه.
2/- فرض حراسة مشددة على اقتصاديات العالم الإسلامي من طرف المنظمات الإقتصادية الدولية الرأسمالية من الصندوق النقدي الدولي والبنك العالمي والمنظمة العالمية للتجارة، اللاَّتِي تُرَوِجْنَ لـ«العولمـة» تحت شعار «سياسات السوق» (النظام الإقتصادي الرأسمالي)؛ عن طريق فرض تطبيق الحرية الإقتصادية المنبثقة عن الإيديولوجية الرأسمالية على اقتصاديات دويلات العالم الإسلامي. أي أن هذه المنظمات الإقتصادية الدولية تسعى لحمل اقتصاديات هذه البلدان على تحرير تجارتها الخارجية برفع الحواجز الجمركية والقيود مهما كان نوعها من أمام شركات الدول الرأسمالية الغربية لتحطيم الصناعات الناشئة بل كلّ الصناعات الموجودة في هذه الدويلات. هذا من جهة ومن جهة أخرى تسعى إلى شَلِّ اقتصاديات دويلات العالم الإسلامي بـ«خوصصة» القطاع الصناعي العام؛ بالقضاء على الملكية العامة وملكية الدولة للمصانع وتمليكها للخواص من الرعية أو للشركات الرأسمالية الأجنبية عن طريق قوانين «الإستثمار الأجنبي» التي تعطي امتيازات للأجنبي تُمْنَع عن أفراد الرعية، ممّا يعني سيطرة هذه الشركات الأجنبية على الحياة الإقتصادية للعالم الإسلامي، وتوجيهها بما تظلّ به دويلات العالم الإسلامي مربوطة اقتصادياتها بعجلة الاقتصاد الرأسمالي العالمي بشكل يخدم مصالح دولها الغربية الرأسمالية الكافرة، لأنه بخوصصة الدويلة لمصانعها وللمصانع العامة أو شلّ يدها عن إقامة المصانع سوف يؤدي إلى تبعيتها للأجنبي فضلاً عن انعدام الصناعات الثقيلة فيها، لأنّه لما كانت الدولة وحدها من تستطيع إقامة أمثال هذه المصانع والصناعات لإحتياجها لأموال طائلة، يصعب توفرها لدى القطاع الخاص فإنه لا مناص من أن تقوم الدولة على توفيرها. ولذلك فإنّ المقتنعين بتملُّصِ دويلات العالم الإسلامي من دورها في إقامة المصانع، يعتقدون بضرورة «الخوصصة» وفتح أبواب البلاد لـ«الإستثمار الأجنبي»، وهذا يعني إِمْلاص أو إِجْهاض اقتصاديات العالم الإسلامي جنين أيّ صناعة كصناعة.
وعلى سبيل المثال، عندما احتلت الولايات المتحدة الأمريكية العراق بدأت في تسليم عقود إعادة البناء في العراق، بخصخصة كل شيءٍ، والسماح للشركات العالمية الكبرى أن تصل لكل شيءٍ بلا أي حواجز، تصفية واسعة للقطاع العام. وهذا يعني أن العراق يباع علناً، وليس يعاد بناءه من جديد. وكما كتب "روبرت فيسك" في صحيفة "الإندبندنت"، لقد أفصح ما يرتديه "بول بريمر" بكل شيءٍ: "بذلة رجل أعمال وحذاء ضابط ميداني". فقد تحول العراق المحتل عنوة إلى معمل تجارب لإقتصاد السوق الحر (النظام الإقتصادي الرأسمالي)، يشبه كثيراً الوضع الذي كانت عليه الشيلي بعد انقلاب 1973م على "سلفادور أليندي"، عندما جاء الجنرال "أوغسطو بينوشيه"، بمساعدة المخابرات المركزية الأمريكية، بـ«السوق الحرّة» إلى الشيلي "بالحديد والنار" (كما يقولون في أمريكا الجنوبية) وفق نظرية "ميلتون فريدمان". سماها "فريدمان" حينئذ "العلاج بالصدمة"، بالرغم من أن الأمر، وأيضا في العراق، كان في الواقع سرقة مسلحة لمسلمين قد روعتهم القنابل.
3/- إيجاد نمط جديد للتصنيع في البلاد وهو ما يسمى بالصناعة العابرة التي تتخذ من بلادنا محطة إنتاج فحسب، تستفيد-إن صحّ التعبير- من المزايا النسبية للبلد المعني وخاصة من خاماته أو طاقاته أو موقعه، لإنتاج منتجات معدة للتصدير للأسواق العالمية، وفي هذه الصناعة العابرة تستورد أغلب عناصرها لتعيد تصديرها، وإن يكن ذلك بعد إدخال قدر من التصنيع عليها، ويكون المقصود منها حصول الدول الأوروبية و الولايات المتحدة الأمريكية على المنتوج الذي تريده بسعر رخيص.
4/- عدم السماح بنقل التكنولوجيا إلا فيما يمكن البلاد من توريد منتجاتهم واستعمالها، فمثلاً البلاد التي لا توجد فيه الكهرباء لا يمكن أن تباع فيه الثلاجات الكهربائية أو الكمبيوترات، حتى ولو كان فيها من يستطيع شراء الثلاجة والكمبيوتر، لذلك لابدّ من تعميم الكهرباء في هذه البلاد ولو بقروض من الدول الغربية، ولابد والحالة هذه من إيجاد المهندسين والفنيين القادرين على تشغيل واستخدام الأجهزة الصناعية التي تنتجها الدول الغربية، ولذلك فَهُمْ لا يمانعون في مثل هذا التعاون العلمي ونقل الخبرة التكنولوجية في مثل هذه المجالات، ولكن ليس لجعل البلدان المتخلفة تستوعب التكنولوجيا إلى حدٍّ يُمَكِّنُها من إقامة الصناعات الثقيلة.
ولذلك يجب ملاحظة الفرق بين إستخدام التكنولوجيا وامتلاك التكنولوجيا أو تصنيعها، أما إستخدام التكنولوجيا فهو أمرٌ يحاول الغرب تعليم دويلات العالم الإسلامي المتخلفة كيفيته، حتى يتمكّن من بيع منتجاته لها لفرض سيطرته عليه، أما إمتلاك التكنولوجيا وتصنيعها، لا مجرد استخدامها، فهو المطلوب لأن جيشاً مثلاً يستطيع قيادة الطائرات والدبابات ولا يقدر على صناعتها سيظل ضعيفاً مهزوماً، فتعليم البلاد إستخدامات التكنولوجيا بمعزل عن محاولة امتلاكها، أي تصنيعها، إنما هو خطة إستعمارية لتجهيل الناس ولصرفهم عن صناعة التكنولوجيا ولإستغلال خيراتهم وثرواتهم.
5/- إشغال البلاد في أنواع من الصناعات تستنفذ طاقاتهم وتهدر وقتهم وتوجد عندهم نوعاً من الترف يبعدهم عن الجدّ والإجتهاد في إيجاد الصناعات الثقيلة أو حتى الوسيطة، وهذا واضح من هيكل الصناعات في دويلات العالم الإسلامي الذي يتصف بغلبة الصناعات الإستهلاكية بنسبة كبيرة جدا (أكثر من 60%) تتمثل في صناعة المواد الغذائية والملابس والمنتجات الجلدية وملحقاتها... إلخ. أما الصناعات الوسيطة (كتكرير البترول...إلخ) والصناعات الإستثمارية (تتمثل أساساً في صناعة الحديد والصلب والألمنيوم...) فإنها في معظمها صناعات تحويلية.
هذه بعض الخطط والدراسات والمشاريع التي رسمها ويرسمها الغرب لدويلات العالم الإسلامي حتى لا تصبح دولاً متقدمةً صناعياًّ، بعد أن تصرفها عن الصناعة الثقيلة، والتي تشمل صناعة الآلات من الحديد والصلب، والمحركات وهياكل الطائرات، والصناعات الإلكترونية والصناعات النووية بما في ذلك صناعة الأسلحة وصناعة الفضاء وأمثالها.
وعليه لا يمكن الإعتماد أو الاستناد لمثل هذه الدويلات الموجودة في العالم الإسلامي في تحقيق التحرّر عن طريق التصنيع الثقيل ذو الأساس العسكري بعد كل ما حاولته لتحقيق ذلك، فهي لم تقع في شَرَكِ الخطط والدراسات والمشاريع التي رسمها لها الغرب فقط، بل وانْضَبَعَت بها لدرجة أنها اعتبرت اقتصادياتها جزءاً من الإقتصاد الرأسمالي العالمي، بل الجزء فيه الذي يَنتج ما لا يَستهلك، ويَستهلك ما لا يَنتج. فهي قد فشلت ويئست فعلاً في كل محاولاتها لتحقيق التنمية والتحرّر الإقتصاديَيْن بالإعتماد على ذواتها، ممّا جعلها تُكيِّف نفسها مع المتغيرات العالمية والإقليمية في إطار ما سُمِّي بـ«العولمـة»، محاوِلةً تحقيق تنميتها الإقتصادية في إطار تبعيتها للدول الرأسمالية الإستعمارية الكافرة. فليس هناك أعجب ممّا يجري في كل دويلة من دويلات العالم الإسلامي، في السنوات الأخيرة، إذ من الملاحظ أنه كلّما اشتدّت السيطرة الإقتصادية الإستعمارية عليها، انطلقت أكثر وأكثر إلى تعميق تطبيق النظام الإقتصادي الرأسمالي (ما يسمى اقتصاد السوق) وإلى الأخذ بمعالجات الفكر التنموي الغربي في حلّ مشكلاتها الإقتصادية، وإلى تكريس وترسيخ اندماجها في النظام الإقتصادي الرأسمالي العالمي (كالإنضمام إلى المنظمة العالمية للتجارة، وعقد الشراكة الأورومتوسطية...إلخ). وهو ما يقطع بيقينٍ أن التنمية في العالم الإسلامي منذ تحقيق استقلاله السياسي الوهمي وحتى اليوم، لم تكن إلاّ تنمية للتخلّف وترسيخاً للتبعية، وليس للخروج من نفقهما المظلم.
فالإستعمار لم ينقشع ظلّه من العالم الإسلامي، فهو خرج من الباب ليعود أدراجه على الشباك؛ فالأمة الإسلامية بعد أن حرّرت بلادها من الجيوش الغربية الكافرة، تهيّأ لها أنها تحرّرت من الإستعمار، وها هي اليوم في بداية القرن 21م مازالت ترزح تحت وطأة هذا الإستعمار ، وإن كان هذه المرّة ليس عسكرياًّ (وها نحن نرى جزءاً منها هو العراق وأفغانستان قد عاد لهما الإستعمار العسكري)، وإنما بالفكر الغربي بصفة عامة، والفكر التنموي بصفة خاصة، والذي تَبَنَّتْهُ دويلاتها بعد نيل استقلالها السياسي الشكلي، ذلك أنها لم تستطع أن تخرج في فهمها لطبيعة المشكلة التي يجسدها تخلّفها الإقتصادي، عن إطار الفهم الغربي الرأسمالي، فوجدت نفسها مدعوة لإختيار نفس النهج الذي سلكته الشعوب الرأسمالية، الأوروبية والأمريكية، في بنائها الشامخ لإقتصادياتها الحديثة.
فلقد اتخذت دويلات العالم الإسلامي كلّها، الفكر الغربي "بُعْداً مَرجعياًّ" لعملية التحرّر والتنمية الإقتصاديَيْن بِتَبَنِّيها منه للفكر التنموي الغربي عند استقلالها السياسي الشكلي، و"بُعْداً سِياَسِياًّ" لنضالها (التافه) في سبيل تحقيق استقلالها الإقتصادي بِلُجُوئِها إلى الدول الغربية الرأسمالية الكافرة وهيآتها الدولية (هيئة الأمم المتحدة، الصندوق النقدي الدولي، البنك العالمي،...إلخ)، ولا يختلف في ذلك المسار تلك الدويلات التي ادّعت تطبيق الإشتراكية، فهي تَبَنَّت فكراً أقلّ ما يقال عنه، أنّه لا يناسب الأمة الإسلامية، إن لم يقال عنه أنه كان لها مضلّلاً، ولجهودها مبدّداً، بل أنّه في الواقع كان يدفع دويلاتها دفعاً لتحقيق مصالح العالم الرأسمالي الإستعماري الكافر.
أيها الحضور الكرام:
لهذا نجد أنفسنا مدفوعين بقوةٍ إلى القول بأن الأمر يحتاج إلى تغيير جذري لهذه الدويلات، فهو لذلك يتعلّق بـ"النهضة"، أي إقامة الحكم على عقيدة وما ينبثق منها من فكر وتشريع، ولا توجد نهضة تناسب الأمة الإسلامية مطلقاً سوى النهضة على أساس العقيدة الإسلامية وما ينبثق منها من أفكار إسلامية وتشريع إسلامي، لأنها عقيدتها التي توافق الفطرة وتقنع العقل، وإقامة الحكم على عقيدة الإسلام يعني إفهام الأمة أو الفئة الأقوى فيها العقيدة الإسلامية المراد إنهاض الأمة عليها، وجعلها تبني حياتها عليها، وتتجه في معترك الحياة على أساسها، وحينئذ يقوم الحكم عن طريق الأمة الإسلامية على هذه العقيدة، وبذلك تحصل النهضة قطعاً.
إن سبب اعتقادنا أنّ الموضوع يتعلّق بـ"النهضـة"، هو أنّه منذ أن بدأ الغزو الغربي مع بداية القرن 19م؛ سياسياًّ (حين اقتطع من نفوذ الخلافة الإسلامية) وفكرياًّ (حين اقتطع من عقول أبناء الأمة الإسلامية) وعسكرياًّ (حين اقتطع من البلاد الإسلامية) وهنا بدأ الإنهيار. وفي فترة الإنهيار هذه خاصة بعد سقوط الخلافـة الإسلامية وحتى أواخر سبعينات القرن 20م الماضي سار انهيار الفكر في الأمة بشكل تدريجي ولكنه لم يقف حتى وصل نهايته. فبدأ بـالإضطراب في البناء على العقيدة الإسلامية: هل يبنى عليها كل فكر أم لا دخل لها في الأفكار، وساعد على ذلك الإضطراب في انبثاق التشريع الإسلامي عن العقيدة الإسلامية: هل كل تشريع لا بد أن يرجع إلى الكتاب والسنة أم يجوز أن يرجع بعض التشريع إلى العقل. ثم بدأ التساهل في البناء على العقيدة الإسلامية وصحبه التساهل في انبثاق التشريع الإسلامي عنها أي صار يكفي لتفهم الأفكار وضعها ضمن إطار الفكر الإسلامي وصار يكفي لأخذ التشريع عدم مناقضته للتشريع الإسلامي. حتى إذا زالت الخلافـة الإسلامية صار تقبل الآراء الأساسية الشائعة في الغرب أو التي يشيعها هو بيننا تقبلاً كلياً لا عند المثقفين فحسب بل عند عامة الناس وصار ذلك واضحاً عند الجماهير، لا فرق بين الأفكار والتشريع.
فواقع الأمة الإسلامية هو انعدام الثقة بصلاحية الإسلام لأن يكون نظام حياتها في العصر الحديث، ثمّ فصل أفكار الإسلام ووِجْهَة نظره في الحياة عن شؤون الحياة الدنيا، وفصل التشريع الإسلامي عن الدولة، واعتبار هذا الفصل للأفكار والتشريع ضرورة حياتية يقتضيها وجودنا وتقدمنا بين الناس. فأزمة الأمة الإسلامية أزمة ثقة بنظام الإسلام لا أزمة ثقة بالإسلام. فكان من جرّاء هذه الأزمة أن فقدت الأمة الحافز الحاد الذي يدفعها للحياة، فكان فيها هذا الجمود وكان فيها هذا الموت، وكان فيها هذا الحال التي جعلتها على حافة الهاوية مشرفة على خطر الفناء.
فـالعقيدة الإسلامية موجودة عند كل مسلم ولم يفقدها، ولكنه فقد الثقة بما ينبثق عنها، فهي فَقَدَت ثلاثة أمور هامة:
1- فَقَدْ فَقَدَتْ علاقتها بأفكار الحياة وأنظمة التشريع فغاضت منها الحيوية.
2- فَقَدَتْ أيضاً تصورها ما بعد الحياة فلم يعد يهزّها عذاب الله ولا يخوفها الجحيم، كما لم تعد تستهدف الجنة ولا تشتاق لنعيمها.
3- فَقَدَتْ كذلك ارتباط جماعة المسلمين كجماعة بهذه العقيدة بأخوة إسلامية فصاروا شعوباً ودولاً، بل صاروا أفراداً أفراداً.
وعلى ذلك فـمن التضليل أن يُقال أنّ القضية قضية اقتصادية لأن النهضة هي الإرتفاع الفكري، فإذا وُجدت الأفكار وُجدت النهضة وإذا عُدمت الأفكار كان الإنحطاط. فإنّ الأفكار في أية أمة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمة في حياتها إن كانت أمة ناشئة، وأعظم هبة يتسلمها الجيل عن سلفه إذا كانت الأمة عريقة الفكر. وإذا دُمِّرت ثروة الأمة المادية فسرعان ما يمكن تجديدها ما دامت الأمة محتفظة بثروتها الفكرية، أمّا إذا تداعت الثروة الفكرية وظلّت الأمة محتفظة بثروتها المادية فسرعان ما تتضاءل هذه الثروة وترتد الأمة إلى حالة الفقر والتخلّف.
على أنّ واقع الأمة الإسلامية أنها من أغنى الأمم إن لم تكن أغناها-كما رأينا سابقاً- إذا جمعت ثروتها في دولة واحدة هي دولة الخلافـة، كما يفرض ذلك الإسلام على جميع المسلمين. وفوق ذلك فإنّ اقتصادها حتى يصبح صناعياًّ، تكون الصناعة الثقيلة العسكرية هي رأس الحربة، لا بدّ من حافز حاد يحفز الأمة على السعي للإقتصاد عموماً والتصنيع الثقيل خصوصاً، وهذا الحافز الحاد لا ينبثق إلاّ عن فكر، ومن أعظم الأفكار عند الأمة العقيدة الإسلامية التي تنبثق عنها أفكار الحياة وتشريع الدولة. وعليه فـالقضية ليست قضية اقتصادية وإنما قضية فكرية، أي قضية الثقة بما ينبثق عن عقيدتها من أفكار وتشريع.
فالنهضة إذن نشر هذا الفكر وجعله أساساً لغيره من الأفكار، وأن تصدر هذه الأفكار عن قصد التأثير، فيحتم هذا القصد أن يقوم من يعطيها بالإتصال الحي للمناقشة في هذه الأفكار لتمكين من اطلع عليها من لمس واقعها، ووضع الأصبع على هذا الواقع، ولحثّه على العمل لإيجادها رأياً عاماً بين الناس وفي العلاقات، وفي الدولة، فينتج عن ذلك الثورة الفكرية التي توجد النهضة. فإذا وُجد هذا الإتصال الحي فقد بدأ السير في طريق النهضة، وإذا لم يوجد لا يمكن أن تبدأ النهضة، فلا بد من الإتصال الحي حتى تتحوّل هذه الأفكار إلى تشريع وإلى دولة، فتنتقل الأفكار إلى التطبيق العملي بالإختيار وبالقسر، وحينئذ تسير النهضة في طريقها العملي بعد طريقها الفكري، فيجتمع الطريقان معاً؛ دولة وقوانين تقوم بالنهضة في المجتمع، وأفكار تنشر متبوعة بالإتصال الحي فردياً وجماهيرياً معاً في وقت واحد، لتسير بالمجتمع الناهض الذي يحمل رسالة النهضة لغيره من المجتمعات. وبذلك يصل الأمر إلى ذروته من السمو والإرتفاع.
إنّ هذا لا يكون إلا بحمل الدعوة الإسلامية بالطريق السياسي؛ أي بالعمل السياسي لإقامة الخلافة الإسلامية عن طريق بثّ الأفكار الإسلامية باعتبارها منبثقة من العقيدة الإسلامية والكفاح في سبيلها. وذلك عن طريق حزب سياسي يعتنق العقيدة الإسلامية ويجعلها الأساس للحكم الذي يسعى لأخذه أو لإستلامه بإفهام الأمة أو الفئة الأقوى فيها العقيدة الإسلامية المراد إنهاض الأمة عليها، وجعلها تبني حياتها عليها، وتتجه في معترك الحياة على أساسها، لإيجاد الحافز الحاد للأمة يدفعها للحياة عموماً وللإقتصاد خصوصاً. أي أنّ الحكم إنما هو طريقة للنهضة عن طريق إقامته على العقيدة فهو يُؤخذ أو يُستلم ليُقام على العقيدة الإسلامية حتى تحصل النهضة.
وعلى ذلك فمن أهم الأفكار ذات الشأن الأعظم في حياة الأمة، الأفكار المنبثقة من العقيدة الإسلامية ومن أوجبها فكرة إيجاد مصانع الآلات؛ فهو واجب شرعي أي فرض على المسلمين، فرض على الدولة التي تحكم بما أنزل الله وعلى الأمة، والفرض ينفذ حتماً وبلا خيار وإلا كانت عليه عقوبة، أما لماذا هو فرض فلما يلي:
1/- إن عدم وجود مصانع الآلات يجعل جميع المصانع في بلادنا عالة على الدول الأخرى الغربية في صناعة الآلات الثقيلة، فإذا تعطّلت آلة أو لزمت قطعة غيار تعطّل المصنع وتوقّف عمله على تزويدنا بذلك من الدول الغربية المستعمرة الكافرة، وفي هذا ضرر بالمسلمين. ثم أن عدم وجود مصانع الآلات لدى المسلمين يجعل البلاد الإسلامية معتمدة في صناعتها العسكرية كذلك على الدول الأخرى الكافرة، وفي هذا ضرر أفظع من الأول، وكلاهما يجعل سبيلاً للكافرين على المسلمين، والله يحرم هذا؛ قال تعالى :) وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (سورة النساء الآية 141)، وهذا الإخبار يفيد الطلب والمعنى أي لا تجعلوا للكافرين عليكم سبيلاً.
2/- إن الجهاد ذروة سنام الإسلام وهو طريقة رئيسية لنشر الإسلام في الخارج، والجهاد قائم على الصناعة العسكرية، فإن كانت تعتمد على الدول الكافرة يكون قد تعطّل المعنى المقصود من الجهاد، فحتى يتم الجهاد على وجهه لابدّ من أن تتوفر الصناعة الثقيلة لإنتاج الآلات اللازمة للجهاد؛ أي لإقامة المصانع العسكرية. هذه واحدة، أما الثانية فإن الإعداد للقتال فرض على المسلمين، والإعداد المطلوب هو ما كان فيه إرهاب للعدو، وهذا الإعداد يستلزم صناعة عسكرية لم يعهدها العدو في القوة والعظمة، وإن لم يكن هناك صناعة ثقيلة وصناعة آلات فلا يمكن إقامة المصانع العسكرية لتحقيق إرهاب العدو؛ قال تعالى :) وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اَسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ (سورة الأنفال الآية 60)، وحيث أن القاعدة الشرعية تنص على أن «مَا لاَ يَتِمُ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ» تكون الصناعة الثقيلة وإيجاد صناعة الآلات واجبة.
ولذلك فإن إيجاد المصانع الثقيلة ومصانع الآلات لإنتاج المصانع التي تُنتج الصناعات العسكرية وغير العسكرية(المدنية والإقتصادية...إلخ) فرض على المسلمين وليس على بيت المال (خزينة الدولة التي تحكم بما أنزل الله) فقـط، لهـذا إِنْ لم يكف ما في بيت المال لإيجاد المصانع الثقيلة فإنّ الدولة تفرض على أغنياء المسلمين ضرائب تقدرها لإقامة المصانع الثقيلة في البلاد. وبذلك تكون العقيدة الإسلامية هي الحافز الحاد للأمة والدولة والأفراد الذي يدفعهم للإقتصاد عموماً، كما يكون الإندفاع للتصنيع الثقيل خصوصاً قد انْوَجَد قياماً بالفرض الذي أوجبه الإسلام عليهم.
هذا فضلاً على أنه من الناحية التجارية يعتبر التعجيل بإيجاد مصانع الآلات أمراً ضرورياً، لأن البلاد الإسلامية كلّها تكاد تكون خالية من مصانع الآلات، وهي تستورد ما تحتاجه من الآلات والمصانع من أوروبا وروسيا و الولايات المتحدة الأمريكية، فإيجاد صناعة الآلات في بلادنا يكسب أسواق هذه البلدان التي لن يكون لنا مزاحم فيها إذا ما وجدت عندنا صناعة الآلات.
وأيضا فإن شراء المصانع والآلات من الخارج يكلفنا ثمناً غالياً، وهي تباع لنا بأسعار عالية، ولكن إذا أوجدنا نحن مصانع الآلات خاصة والبترول متوفر في بلادنا فنحصل على المصانع والآلات بأرخص مما نشتريها من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
ولكننا ننادي بضرورة صناعة الآلات لا لهذه الأسباب، وإنما لتحقيق سياسة معينة إقتصادية هي جعل بلادنا بلاداً صناعيةً سواءاً أنتج هذا ربحاً أم خسارةً، وسواء وجدت لها أسواق في الخارج أم لم توجد، لأن هذا فرض ومن أجله فحسب لا بدّ من البدء في إيجاد صناعة الآلات، وأن يكون هذا البدء ثورةً صناعيةً وبشكلٍ انقلابيٍ.
إن بلادنا مليئة بكل ما يلزم للثورة الصناعية، فالمواد الخام متوفرة بشكل يكفي لإيجاد هذه الصناعة الثقيلة وقيادة العالم لإسعاد شعوبه لا لامتصاص ثرواتهم ودمائهم كما تفعل الدول الغربية الرأسمالية حالياً.
أيها الحضور الكرام:
وبالنظر لكل ما سبق، فإن ما يجب الإشارة إليه والعضّ عليه بالنواجذ-إذن- هو أنّ هناك أمرين يجب أن يلازما الثورة الصناعية في بلادنا:
الأول: أن التصنيع الحقيقي معناه الثورة على النفوذ الأجنبي، فهو لذلك أمر سياسي لا يمكن أن يقام به إلا على أساس فكري عقائدي تتبناه قيادة سياسية واعية، وهو هنا الإسلام الذي يجب أن تقوم القيادة السياسية بالتكتل حوله وإنهاض الأمة الإسلامية على أساسه فتوحّد بلاد المسلمين في دولةٍ واحدةٍ هي دولـة الخلافـة، حتى يتوفر في هذه الدولة الواحدة القوى البشرية اللازمة والمواد الأولية وكذلك مصادر الطاقة. وعليه فإن الوحدة بين بلاد المسلمين فوق كونها فرضاً محتماً، فهي كذلك من ضرورات التصنيع.
فقد كانت الأمة الإسلامية قديماً في بلاد لا تعدو جزيرة العرب ولا يزيد عددها عن بضعة ملايين ومع ذلك فإنّها حين اعتنقت الإسلام وحملت الدعوة شكلت قوة عالمية أمام المعسكرين اللذين كانا قائمين حينئذ (الفرس والروم) وضربتهما معاً واستولت على بلادهما ونشرت الإسلام في أكثر أجزاء المعمورة في ذلك الوقت. ‏فما بالنا في الأمة الإسلامية اليوم وقد جاوزت المليار تقع في بلاد متصلة ببعضها، ‏تكون بلداً واحداً وهي من مراكش إلى أندونيسيا، ‏وهي تحتل بقعة من أحسن بقاع الأرض ثروة ومركزاً وتحمل مبدأً (الإسلام) هو وحده المبدأ الصحيح، ‏فإنها ولا ريب إن توحّدت سَتُشَكِّل جبهة قوية من أقوى الدول العظمى في كل شيءٍ، ‏ولهذا كان واجباً توحيد العالم الإسلامي. وما لنا نذهب بعيداً وها هو "جورج بوش الإبن" قد صرح في خطاب ألقاه أمام الوقف الوطني للديمقراطية في واشنطن في 06/10/2005م قائلاً:«إن الإسلاميين يعتقدون بأن السيطرة على بلد ستستقطب حشود المسلمين وتمكنهم من الإطاحة بجميع الحكومات المعتدلة في المنطقة وتأسيس إمبراطورية إسلامية أصولية تمتد من إسبانيا إلى إندونيسيا»، وهذا التصريح منه يدلّ دِلالةً قطعيةً على أن العمل على توحيد البلاد الإسلامية تحت ظلّ الإسلام معناه التحرر من النفوذ الأجنبي (الأمريكي والأوروبي)، وهذا التحرّر سوف لن يتم تحقيقه كاملاً إلاّ بالتصنيع، وهذا التصنيع سوف لن نستطيع التفوّق به كلياًّ على بقية دول العالم وخاصة أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية -اللَّتان تَتَغَطْرَسَان بصناعتهما الثقيلة العسكرية وغيرها بِغَشَمٍ- إلا بتوحيد العالم الإسلامي.
الثاني: أن الصناعة يجب أن تقوم على أساس عسكري، فتكون الصناعة العسكرية هي الهدف الأساس من التصنيع الثقيل فضلاً عن القطاعات الصناعية الأخرى، وبدون الصناعة العسكرية تكون الدولة حتى وإن تقدّمت في القطاعات الصناعية الأخرى غير مؤثرة في المجال الدولي والسياسة العالمية، كما هو الحال مع ألمانيا واليابان بعد تقييد صناعتها العسكرية منذ الحرب العالمية الثانية. أما في الإسلام فإن التصنيع الثقيل لا ينفكّ عن الصناعة العسكرية الحربية فهي أساس، لأن هذا من متطلبات الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، ولذلك فإن الصناعة جهاز من أجهزة الدولة في نظام الإسلام تكون مرتبطة بالخليفة مباشرةً باعتباره الذي يتولى فعلاً قيادة الجيش أو بمن ينوب عنه، فهي الدائرة التي تتولى جميع الشؤون المتعلقة بالصناعة، سواء أكانت صناعة ثقيلة أم كانت صناعة خفيفة، وسواء أكانت مصانع عامة أو مصانع خاصة. فالمصانع بأنواعها تُقام على أساس السياسة الحربية، لأن الجهاد يحتاج إلى الجيش، والجيش يحتاج إلى السلاح، والسلاح لا بدّ له من صناعة في داخل الدولة، وبخاصة الصناعة العسكرية لعلاقتها القوية بالجهاد.
أيها الحضور الكرام:
إن إقامة الصناعات الثقيلة أمر أساسي لتحويل أيّ بلدٍ من حالة الإعتماد على الدول الصناعية الأخرى إلى حالة التصنيع الذي يمكنه من تأمين حاجاته ويجعله بلداً مصدراً للمنتوجات الصناعية لا سوقاً لغيره، وهذا الأمر شاق وطريقه محفوف بالمخاطر والمشاكل. فهذه الصناعات حلقات مترابطة ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض، فهي تحتاج إلى جهود جبارة وقوى بشرية مدربة على نطاق واسع كما تحتاج إلى المواد الأولية، غير أن أهم ما في الأمر أن هذا التصنيع هو بحد ذاته ثورة على النفوذ الأجنبي وتحدٍّ له، وهو يخالف كل نظريات التنمية التي يعدها الغرب للدول المتخلفة.
والقاعدة الذهبية التي يجب العض عليها بالنواجذ هي "الإعتماد على النفس مهما كانت الصعاب"، ورغم أنه لا يمكن أن نستغني عن المعرفة والإنجازات العلمية الأجنبية، إلا أنه يجب إقامة أسوار عالية لمنع النفوذ الأجنبي من إيجاد طريقه إلى هذه العملية، وذلك يستلزم فيما يستلزم إبعاد الشركات الأجنبية والأجانب، والمتأثرين بالفكر الغربي عموما والفكر التنموي الغربي خصوصا، لأن ذلك من وسائل تسريب النفوذ الأجنبي إلى البلاد، فإقامة الصناعات يتم عن طريق أبناء البلاد المخلصين للإسلام وللأمة الإسلامية فقط.
وقد يتهيأ للبعض استحالة القيام بهذه المهمة إذا ما اعتمدنا قاعدة "الإعتماد على النفس"، وهذا ما يروج له الغرب والمضبوعون بثقافته، لكننا نقول أن ذلك ممكن، فقد قامت روسيا في مطلع القرن 20م من تحويل بلادها من بلاد زراعية متخلفة إلى بلاد صناعية تقف في مقدمة الدول الصناعية الراقية إعتماداً على نفسها، وقد إشتهر عن "لينين" قوله حين طلب منه شراء جرارات:«لن نستعمل التراكتورات حتى ننتجها نحن وحينئذ نستعملها».
أيها الإخوة الحضور:
لقد كان المسلمون يخططون وينفذون لتكون صناعتهم في المقدمة، تتبعها الدول الأخرى لا أن تتبع هي وتقيد بصناعات الدول الأخرى، وبقي هذا حال المسلمين حتى ضعف الإسلام في النفوس، وتجاهل وجهل قادتهم أهمية الإنقلاب الصناعي في أوروبا في وقته، وتآمر عليهم الغرب وقضى على خلافتهم بعد الحرب العالمية الأولى.
وبعدها أصبحت الدول الغربية ترسم لنا أساليب خبيثة تحول بيننا وبين أن نصبح بلداً صناعياًّ لتبقى لهم في بلادنا الهيمنة والنفوذ، وقد تمكّنوا من ذلك خاصة مع وجود حكام للبلاد الإسلامية قانعين بالتبعية لدول الغرب في السياسة والتشريع والإقتصاد والتصنيع وسائر الأمور، ولكن ليس معنى ذلك أننا ننتظر حتى إقامة دولة تطبق الإسلام حتى نقوم بالثورة الصناعية، بل لابد من العمل من الآن ودون تأخيرٍ من أجل إدخال التصنيع الثقيل خاصة صناعة الآلات إلى البلاد الإسلامية.
ولهذا فهذه دعوة موجهة لكل مخلصٍ غيورٍ على أمته قادر على المساهمة في تصنيع هذه الأمة لتلحق بالدول المتقدمة عليها صناعياًّ، دعوة لكل هؤلاء وغيرهم ممن لهم علاقة، حكاماً ومحكومين، دعوة لكل من أعطاه الله قدرة علمية، أو قدرة مالية، أو قدرة تكنولوجية، أو قدرة توجيهية يمكن أن تفيد في أي حقلٍ من حقول الصناعة التي تحتاج إليها البلاد الإسلامية، دعوة لكل هؤلاء للعمل لا أقول بسرعة بل بأقصى سرعة لوضع البلاد على طريق التصنيع.
أيها الإخوة الحضور:
هذا الأمر لايستطيع أن يقوم به فرد مهما كان نشاطه ومهما كانت القدرة التي يتمتع بها في حقل التصنيع. هذا الأمر يجب أن ينغرس في نفس كل واحد من هذه الأمة كي تستطيع التغلب على العوائق، والمثل القائل"ربّ همّة أحيت أمّة" يشير إلى أن هذه الهمّة قد تبدأ من فرد ولكنها لا تبقى معتمدة على هذا الفرد، بل سرعان ما تنتقل عدوى النشاط والإحساس بالمسؤولية في سائر الأمة... وأن الأمة الإسلامية لن يعجزها بذل الجهد والجهيد لتخطي الصعوبات والعراقيل التي تمنعها من التصنيع، إن أخلصت لله العمل وأعطت من جهدها وعرقها ودمائها ما يتناسب والمكانة التي إرتضاها الله لها، قال تعالى :) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ (سورة آل عمران الآية 110).
والسلام عليكم ورحمة الله وتعالى وبركاته، رضوانه وغفرانه.

مشاركة مميزة