الأربعاء، 18 يناير 2012

حزب المواطن

kolonagaza7

د. زياد عسلي
في الوقت الذي تدخل فيه الانتفاضات العربية سنتها الثانية، تبرز الحاجة الملحة لحركة سياسية جديدة تعتمد على فكرة المواطنة وقيمها. وتعاني الساحة السياسية العربية من فراغ واضح بعد أن تمكنت هذه الانتفاضات من تمزيق النظام القديم من دون أن تقدم نموذجا جليا للمستقبل. وهنا تأتي حركة المواطنين متمثلة بأحزابٍ سياسية منظمة ذات برامج واضحة ومحددة، قادرة على استثمار الموجات الاحتجاجية الوطنية والعالمية لضمان عدم تضييع الفرصة التاريخية للنهوض. وبعد انهيار الإتحاد السوفييتي، تحولت بعض الجمهوريات السابقة فيه إلى ديمقراطيات وأخرى إلى ديكتاتوريات عائلية، فيما تثبتت أركان الديمقراطية في أوربا الشرقية. كما شهدت غالبية دول أمريكا اللاتينية والكثير من دول شرق آسيا تحول دكتاتورياتها إلى ديمقراطيات رصينة. وها هو العالم العربي الذي كان عصيا على التغيير على مدى العقود الماضية قد دخل أخيرا في مرحلة تحول ديناميكي. وخضعت الدول العربية بصورة تقليدية تحت سلطة أنظمة إستبدادية، تنوعت بين دكتاتوريات وحشية وأنظمة ملكية أقل سوءا كونها أشركت شعوبها ببعض ثرواتها. ومارست هذه الأنظمة سياسة الرعب ضد المعارضة، وابتزت الدول الغربية وشعوبها بطرحها بديلا إسلاميا وحيدا لها يحل محلها في حال سقوط انظمتها التي توفر "استقرارا" هشا. ثبت أن حافز رفض القمع كان قويا بما فيه الكفاية لإسقاط أنظمة وزعزعة أخرى. خلال الاحتجاجات، ملايين من العرب المضطهدين أكدوا على ضرورة نيلهم لحرياتهم كمواطنين. مع ذلك فإن الخطر قائم بأن تتبدد لحظة التغيير هذه إذا استمرت حالة عدم تركيز الطاقات وغياب الوضوح في الخطاب فضلا عن عدم التنظيم. وهذه الطاقات التحررية والقومية والعالمية التي تحرك تيارات الاحتجاج العربية لم تستغلها أحزاب منظمة تجسد وتعزز هذه القيم. ويترتب على ذلك ضرورة إبرام عقد إجتماعي جديد يعتمد على الديمقراطية والحكم الرشيد والشفافية وسيادة القانون، ما يقود إلى تحرر حقيقي. ولم يتحول هذا الأمر إلى حركة سياسية متماسكة حتى الآن. ينبغي أن لا تنحدر هذه المرحلة من التحول التاريخي نحو صراع على النفوذ بين جنرالات اتوقراطيين ورجعيين ثيوقراطيين. إن استغلال الطاقات وتحقق المُثل المطلوبة سيحتاج إلى خطاب جديد تعززه أحزاب محلية في العالم العربي تركز فيه على حقوق المواطنين وواجباتهم. وهذا يتطلب وضع تصور جديد لعلاقة الفرد بالدولة والمجتمع. الهوية الثقافية العربية موجودة بصورة واسعة، ولكن حركة المواطنة يتعين أن تُنتج مجموعة من الأحزاب التي بمقدورها تطبيق هذه المباديء وفقا للطابع المحلي في الدول العربية المختلفة. ينغي على الدولة أن تنظر إلى الأفراد كمواطنين وليس كرعايا قاصرين، وبذلك تكون الدولة قد تحولت إلى ضامن للحقوق الفردية والعامة للمواطنين بدلا من أن تفرض نفسها كحل لكل التحديات الإجتماعية. وأصبحت النظرية القائلة بحاجة الأنظمة الحاكمة إلى شرعية لا يمكن اكتسابها إلا بموافقة المحكومين (المواطنين) واسعة الإنتشار في العالم العربي، حتى أن الكثير من الأحزاب ذات النزعة الإستبدادية تعلن قبولها بهذا المبدأ، على الأقل في الجانب النظري منه. يسمح النظام الذي يعتمد على المواطنة لجميع التوجهات السياسية للتنافس سلميا على النفوذ السياسي بحسب قواعد اللعبة الديمقراطية. ولكن يتعين إنجاز ذلك من دون اللجوء إلى العنف، وبغياب تام للميليشيات والعصابات المسلحة مهما كان نوعها، مع احترام تام لنتائج العملية الديمقراطية، والانتقال السلمي للسلطة. وحقوق المواطنة التي تمنح القوى السياسية الفائزة بأغلبية الأصوات في الإنتخابات هي نفسها التي تحمي الأقليات والمرأة والأفراد من التقليص الظالم لحرياتهم على يد أغلبيات إستبدادية. حركة سياسية من هذا النوع لها القدرة على تجاوز الانقسامات بين السنة والشيعة، والمسلمين والمسيحيين، والقوميين والإسلاميين، واليساريين واليمينيين. ويوفر هذا البرنامج للجميع، من دون استثناء، نفس المرتبة القانونية والسياسية: مواطنون متساوون أمام القانون. يتعين وضع هذا الخطاب السياسي في سياقة التاريخ والسياسي والثقافي لإعادة تأطير العلاقة بين الدولة والمواطن، كما أنه سيتطلب تطوير نظام يسود فيه القانون بشكل قوي وغير منحاز، يعززه قضاء مستقل. واذا كان في تجربة الدول المتقدمة اية دروس، فأفضلها تلك التي تدفعنا إلى إطلاق القوة الاقتصادية الكامنة والمخزونة والتي تُمسك بمقدراتها بيروقراطيات متصلبة وأنظمة احتكارية لا يمكن الدفاع عنها. إن البرامج التي تتبنى مبدأ المواطنة تقدم طريقا واضحا للانظمة الخارجة لتوها من نير الدكتاتورية مثل تونس ومصر، كما للدول التي تعاني من انقسامات طائفية شديدة مثل العراق ولبنان. أما في سوريا المهددة بخطر نزاع أهلي قد يصل إلى حد الحرب الأهلية ذات البعد الطائفي فإن ظهور تيار جديد يركز على حقوق المواطنين يوفر طريقة فريدة في إعادة تركيب العلاقات السياسية والتي ستسمح للسوريين جميعهم بالمشاركة والإنتفاع بصورة متساوية من نظام تعددي ديمقراطي. ولا يتناقض هذا الخيار مع نظام الملكية الدستورية كأحد أنواع الحكم الشرعية.ويسمح للفلسطينيين أيضا بأن ينظروا لأنفسهم على أنهم مواطنين مدعومين في دولتهم المستقلة المستقبلية. وسيفتح فضاءً واسعا من التعددية السياسية. وستخلق المشاركة الديناميكية لهؤلاء المواطنين نظاما سياسيا تمثيليا ومستقرا، وسيعزز الطبقة الأنتخابية في الطيف السياسي للمشاركة في الإنتخابات والحكم الرشيد، وسيُنتج حركة شعبية فعالة ومتجانسة قادرة على إنجاز التحرر القومي. ويتصف العالم العربي بالتنوع والإختلاف والتعدد العرقي والديني. وعادة ما يُنظر لكل ذلك بكونه مصدرا للانقسام والإحتقانات. إن هذا التنوع يمكن أن يُحوّل إلى مصدر قوة إقتصادية وثقافية وسياسية إذا ما قامت المجتمعات العربية بتقوية وحماية حقوق وواجبات المواطنين كأفراد، بضمنهم الأقليات الإثنية والدينية فضلا عن المرأة. لم يعد العالم العربي مختلفا عن أجزاء العالم الأخرى ولا فريدا أيضا. لذلك يتعين على المجتمعات العربية الإلتحاق ببقية العالم في تطبيق القيم العالمية التي تخص حقوق الفرد كمواطن. كما أنه لا ينبغي لهم في أن يختزلوا مطالباهم بأنفسهم أو بفعل الأخرين أو أن يقبلوا بأي مقاييس لحقوق الإنسان والفرد أقل من تلك المقبولة عالميا، تلك التي تعزز المواطن بشكل كامل.وفي منطقة متهيجة وباحثة عن حلول، تمتلك الشعوب العربية فرصة فريدة لتطوير حركة ثقافية وإجتماعية وسياسية...يُعبر عنها طيف من الأحزاب السياسية المحلية التي تحاكي خصوصيات كل بلد عربي...تعمل على إنشاء عقد إجتماعي يعتمد على حقوق وواجبات المواطن كفرد.
رئيس منظمة فريق العمل الأمريكي من أجل فلسطين.

مشاركة مميزة