kolonagaza7
(*) محمد قواص
تدركُ طهران أن ساعات السقوط في دمشق قد دنت. المتفائلون يتحدثون عن أيام وأسابيع، والمتعقلون يتحدثون عن بضعة شهور. وحده السيّد حسن نصر الله لا يرى ذلك ويدعو الخصوم إلى عدم المراهنة على ذلك.
في جهد نصر الله لإبعاد جمهوره عن تلك "الفكرة السوداء"، سعيٌ إيراني للسيطرة على إرتباك طبعَ السياسة والسلوك في الأسابيع الأخيرة. موسكو ترسل الإشارات ونقيضها على نحو يفيدُ بأن ثمراً قد نضج وحان قطافه. أنقرة تستعدُ للإحتمالات القصوى من خلال نشر الباتريوت. وكلام "الكيماوي" يُنذر بإنتقال الغرب من مقعد "المتأمل" الى مقعد "المتألم"، وصدّ الألم علاج.
معلومات روسيا تقول أن المعارضة تتقدم والنظام يفقدُ السيطرة. هكذا أخبرنا نائب وزير خارجية موسكو ميخائيل بوغدانوف ، قبل أن تخففَ حكومته من ذلك "الإكتشاف"، ثم تعود وترسل أسطولاً لمواجهة "إحتمال اجلاء رعاياها". ومعلومات طهران، التي تسربها الصحافة الإيرانية، أن النظام متهالكٌ أمام المعارضة بأطيافها و"قاعدتها"، إلى درجة تسوق نصر الله إلى مهادنة تنظيم بن لادن الراحل والقول أن "لا خلاف بين حزب الله والقاعدة".
على أبواب الإنتخابات البلدية، تتصارع النخبة الحاكمة في طهران. معركة حول قانون الانتخابات (للمفارقة في لبنانهم أيضا). معارك رسائل بين نجاد والأخوين لاريجاني. ورئيس مصلحة تشخيص النظام، الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني يتحدث عن تفشي الفساد في إيران، وعن أن "السياسة باتت في أيد عديمي الخبرة". على أبواب تلك الإنتخابات تعترفُ طهران بأزمتها الإقتصادية : "فقدنا نصف عائداتنا النفطية بسبب العقوبات"، يعلنُ وزير الإقتصاد شمس الدين الحسيني. وهناك من ينفخُ في إيران ربيعاً يراه حتمياً بعد "ربيع" سوريا.
عين طهران على سوريا. تدركُ الجمهورية الاسلامية أن مياهً سوريةً تجري من تحت أرجلها. المعارضة السورية يُعاد تنظيمها برعاية تركية عربية دولية، والعالم (حوالي 130 دولة) يعترف بالائتلاف المعارض ممثلا لسوريا لا بنظام دمشق.
يعي نظام الولي الفقيه أن محادثات واتصالات تدور في العالم دونها. حراكٌ "أطلسي" وأوروبي وأميركي وروسي وعربي وتركي..إلخ، وطبولُ الحربِ تدقُ متناغمة مع ايقاعات دبلوماسية عالية تروم التوصل لتسوية ما.
لاحظت طهران بقلقٍ أن كل هذا الضحيج يتم بعيداً عنها، وبالاستغناء عن دورها (الذي يقترحه وزير خارجيتها على العالم). تركيا تنشر درعها الصاروخي. بوتين الروسي سبق وتفهّم الأمر في زيارته الاخيرة لأنقرة. قائد الجيش الإيراني حسن فيروز ابادي يرى من جهته أن ذلك خطير و"سيمهد لحرب عالمية تشمل أوروبا". هكذا مزاج الحكم في إيران الذي أوعز لرئيس البلاد محمود أحمدي نجاد أن : لا تذهب لزيارة الاتراك، فلم يفعل.
تعمل إيران بغرابةٍ في ميدان خارج المنطق والسياق. تدعو إلى حوارٍ بين المعارضة والنظام. يحصل في عاصمتها حوار فولكلوري بين نظام غير مقتنع ومعارضة غير معترف بمعارضتها. تعمل على اطلاق مبادرة (تنصّ خصوصا على بقاء الأسد في السلطة ووقف العنف، وإجراء ،حوار وطني)، تحاول تسويقها في بغداد بحثا عمن يشتري. توعز إلى سفيرها في بيروت، غضنفر أصل ركن ابادي، فيدعو سفراء سوريا والصين وروسيا للاجتماع في منزله بهدف "تقرير مستقبل سوريا السياسي"، ويصدر بياناً سرعان ما تتبرأ منه سفارة موسكو في بيروت، بينما تنهمك دبلوماسية طهران في إنقاذ وضع 8 آذار الإنتخابي في مدينة زحلة البقاعية من خلال زيارة سفيرها للمدينة وسعيه لاستعادة تحالفات وتوليف أخرى.
وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي يخبرنا، من جديد، أن بلاده لن تسمح بسقوط الأسد، فيما قائد الحرس الثوري الجنرال محمد علي جعفري يعلن أن أعضاءً من قوة القدس موجودون داخل سوريا، مؤكداً أن الدفاع عن سوريا هو "موضع فخر" لإيران. على الارض الأمور تتغير. الانشقاقات في جسم النظام، سقوط المواقع هنا وهناك، الإنفجارات تطال قيادات النظام الامنية، تقدم المعارضة في المدن الرئيسية، تركز الهجمات في العاصمة ،وكلام عن انتقالٍ قريب لرأس السلطة إلى مناطق العلويين..الخ.
منطقي أن ترتعب إيران من الإحتمال السوري. سقوط دمشق نظاماً ومدينة، أو تغير النظام بالقوة أو بالتسوية يفقد إيران نهائيا أوراقها العربية، وبالتالي الإقليمية. سقوط العلاقة الاستراتيحية الإيرانية السورية، مدخل انهيار لنفوذ ايران في العراق والبحرين والخليج، وحتى في لبنان. هذا السيّد نصر الله يحاضر في خطابه الأخير عن الجامعة اللبنانية وسبل التمويل وبدائل الاقتصاد، يتنصل من الحكومة التي صنعها، يتوسل حوارا في سوريا، ويتهم الممتنعين عنه بالمجرمين، ويكاد في كل ذلك يتحرى شكل الدور المقبل في عالم ما بعد الأسد.
إيران تنعمُ بذكاء البازار في طهران. تعرفُ أصول البيع والشراء، وتدركُ قواعد العرض والطلب. وفيما السوق حول سوريا ناشطٌ حيوي، ترتبكُ طهران في دخول السوق، تتخبطُ في عرض البضاعة، وتتلعثمُ في التسويق. وفي الردحِ السوقي كلامٌ عن حربٍ عالمية، عن عدم السماح لسقوط أسدهم، عن مبادرة جوفاء لا تلقى صدىً، عن استغاثة في بيت سفيرهم في بيروت، عن مقاطعة لتركيا، وعن كلام عن حوار مرغوب به مع الغرب تارة (كما في تقرير وزارة الإستخبارات الإيرانية)، عن حوار مستحيل (كما يعلن علي سعيدي أحد مساعدي المرشد).
على خلفية ذلك، يظهرُ إختراقٌ لافت جدير بالتأمل. جريدة "الاخبار" اللبنانية، القريبة من حزب الله، القريب من إيران، تُجري مقابلةً مفاجئة مع رجل النظام الوفي فاروق الشرع، نائب رئيس الجمهورية، أي بشار الأسد، القريب من إيران. في توقيت المقابلة، وفي هوية السائل، وفي شخص الذي يُسأل خريطة قد تشي بسعي جهة ما، قد تكون إيران إلى الدخول بقوة على خط التسويات.
الشرع، الذي لم ينشق، أو هذا ما هو معلن، وهو إبن النظام، من الأسد الأب إلى الأسد الإبن، يُخبرنا أن النظام في سوريا تخلى عن رئيسه، وانه جاهز لتسوية عن طريق الحوار. النظام، أو بعضه، أو إيرانييه، يحمّل شخص الأسد شخصياً مسؤولية الخيار العسكري، ويحصر العلّة بشخص الرئيس، الذي وحده صاحب القرار، والذي لا تخالفه قيادة.
كيف تجرأَ الرجل على قول المحظور؟ المضاربات عديدة في هذا الشأن. أولها أنه إنشقاق مقنّع، وهو أمر مستبعد في ظل نظام لا يتساهل مع إنشقاق أو يتسامح به، كما أن منشقاً لا يُعلن انشقاقه في "الأخبار". ثانيها أن الشرع لسان رئيسه، وبالتالي في رسالة النائب عرضٌ الرئيس للتسوية. ثالها، أن إيران نفسها من يحمي الشرع (ورئيسه)، وأن مطالعة الرجل مشروع إيراني للتسوية.
للشرع ترياقه للحل :"يجب أن يكون من خلال تسوية تاريخية تشمل دولاً إقليمية أساسية وأعضاء مجلس الأمن". وفي الترياق مكانٌ رحب لإيران، إن لم يكن المكانُ الأساسي الرحب. النظام السوري يعترف، من خلال تصريحات الشرع، أن الصراع هو بين نظام ومعارضة، وأن الأمر ليس مؤامرة كونية، وأن مسلكيات النظام مسؤولة عن كارثة الراهن.
في الأفق بديات تململ روسي من الحالة السورية. بمعنى آخر قد تتوقف سوريا عن كونها شأناً روسياً في الحوار الإستراتيجي بين موسكو وواشنطن. وفي إنسحاب روسيا المحتمل، تعود الحكاية إلى أصلها الحقيقي. سوريا شأن إيراني بإمتياز. الشرع يفتي : "إيران الأقرب إلى سوريا وليس للنظام فقط". طهران التي أضحت تدرك إنتهاء النظام في دمشق، تلهث، في إكتشافات الشرع، وراء المحافظة على هامش لها من متن قد يرحل.
(*) صحافي وكاتب سياسي