السبت، 21 أغسطس 2010

الاقتصاد الإنساني الاقتصاد الإنساني


kolonagaza7
مجدي أحمد حسين
تعمدنا أن نستخدم مصطلح" الاقتصاد الإنساني" لا العولمة, لأن المصطلحات الغربية- الأمريكية خادعة ومغرضة, ولنكف عن استخدام المصطلح الغربي كلما ظهر الجديد بإدعاء أن الإسلام يواكب العصر. مع أن مصطلح "العولمة" ظاهره إنساني وباطنه العذاب, ظاهره أن العولمة تسعى لخير البشرية جمعاء, من خلال توحيد السوق العالمي, أما باطنه فهو الهيمنة الأمريكية والغربية على السوق العالمي.
أول وابرز ملامح الاقتصاد الإسلامي انه يتعامل مع اقتصاد البشرية ككتلة واحدة, ولا يعترف بما يسمى الآن الحدود السياسية, فالقرآن الكريم يتعامل مع الكرة الأرضية كوحدة اقتصادية متكاملة, ولا تجد فى القرآن الكريم أي إشارة إلى ما يسمى الحدود بين البلدان, بل عندما أشار إلى انقسام البشرية إلى قبائل وشعوب ربط ذلك بالتعارف أي بالتكامل والتعاون (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات:13).
تحدث القرآن فى عشرات الآيات عن أن الله سبحانه وتعالى انزل الخيرات للناس جميعا ولم يفرق بين أمة وأخرى, أو بين بلد وآخر, و الخيرات تتنوع وما هو متوفر هنا لا يكون متوفرا هناك, لذلك من المنطقي أن تتعاون الشعوب معا للتكامل والترابط واستكمال أوجه النقص فى كل منها, كان حديث القرآن للناس جميعا وليس لفئة المؤمنين(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ) (البقرة:22) (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ)(الملك:15) والآيات كثيرة فى هذا المعنى. فإذا اختصت أمم دون أمم بالنفط فلا يجوز أن تحبسه عن الأمم الأخرى, وإذا اختصت أمم بالإمكانات الزراعية أكثر من غيرها, أو الثروة السمكية من المسطحات المائية, أو المراعى للثروة الحيوانية, فلا يجوز أن تحبس هذه الخيرات عن أمم تفتقر إليها أو إلى بعضها وهكذا. وقد بدأنا بالنفط لأنه قضية القضايا الآن, فالغرب يفرض هيمنته على البلاد التى توجد بها منابع النفط بحجة المصالح القومية العليا, واغلب منابع النفط فى بلاد إسلامية, وإسلامنا يلزمنا بعدم حبس هذا الخير لان الله خلقه للناس جميعا, ولكن يتعين علينا أن نبيعه بسعر عادل, وألا يكون ذلك على حساب التنمية المحلية. ولكن الغرب يريد أن يحتكر هذه السلعة الإستراتيجية حتى وان وجدت فى باطن ارض المسلمين لضمان الهيمنة على مقدرات البشرية.
الإسلام رسالة البشرية جميعا،وليس لفئة مخصوصة من البشر، أو لشعب مختار، وإن نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، فإن العرب هم واسطة لنقل الدعوة للعالمين، ويشاركهم كل من ينضم لدعوة الإسلام من غير العرب، سواء أجاد اللغة العربية أم لم يجدها، ولكن تظل إجادة اللغة العربية ضرورية للعلماء. وأيضا الإسلام ليس موجها لمن انضوى تحت لوائه مباشرة بالعقيدة (للمسلمين). بل يظل يوجه رسالاته للبشرية جمعاء، بقوة دفعه الذاتية (القرآن والسنة) من خلال المطبوعات المترجمة، أو بقوة دعوة المسلمين بل يظل يوجه رسالات العيش المشترك مع كافة أبناء البشرية، دون أن يشترط على أحد دخول الإسلام كشرط لحسن المعاملة والتعاون، أو لتنظيم الحياة الدولية فى المجال الاقتصادي وغير الاقتصادي بأقصى قدر من العدالة.
ويقول القرآن الكريم (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ) (الزخرف:32)، فهذا لا ينطبق على مجتمع محدد وإنما على مستوى الإنسانية كلها فى مواردها الطبيعية والبشرية، ونحن نلحظ تفاوتا واضحا فى توزيع الثروات الطبيعية بين القارات والشعوب وهناك بالتأكيد مناطق أكثر غنى عن مناطق أخرى، ويقول الإمام الزمخشري إن الله تعالى قاسم المعايش والمنافع، ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوء تناولهم بابتعادهم عن شرعة الله إلى ما لم يشرعه.
وليس من المنطق أن يكون توزيع الثروات الطبيعية بين الشعوب أو بين أجزاء الوطن الواحد توزيعا حسابيا، لأمر بسيط، هو أن الحدود السياسية من صنع الإنسان يصنعها ثم يقدسها ويعبدها! ولو نظرنا إلى العالم كوحدة لكان ما فيه ملكا للإنسان الذي يعيش فيه، هذا هو المنطق الإلهي الذي نقرأه فى قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة:29). وإذا كانت الثروة خلق الله ولعباده فهي للجميع على امتداد الكرة الأرضية. وعلى هذا فإن ما صنع الإنسان من تخطيط الأرض إلى ممالك وأقطار ودول ذات تخوم لا يجعل ثروة أي بيئة حقا أو ملكا خاصا لأهلها بصورة مطلقة لأنه إبطال لمنطق إنتاج الطبيعة الفطري.
[معالجة الإسلام لمشكلات الاقتصاد – د.إبراهيم الغويل- مؤسسة الرسالة – بيروت -الطبعة الأولى 1976، ص 79].
وليس المقصود من ذلك المبالغة أو التطرف فى نفى وجود أو استقلال الاقتصادات القومية والمحلية، ولكن الطرف الأخر للمعادلة (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) أي التعاون بالحسنى بين الشعوب. وهو الأمر الذي تقره الآن من الناحية النظرية على الأقل المواثيق والأعراف الدولية. فهناك منظمة التجارة العالمية حيث تسعى دول الجنوب لإقامة علاقات عادلة من خلالها مع دول الشمال، وهناك أعراف مستقرة على نجدة البلدان التى تتعرض لكوارث طبيعية أو بيئية أو مجاعات. وهناك العديد من المنظمات والتجمعات الإقليمية التى تمارس التعاون بشكل أوثق وأكثر إخلاصا من النظام العالمي الجائر الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة ودول الغرب.
السعي فى الأرض:
وتحض آيات القرآن الكريم الإنسان على السعي من أجل الرزق فى الأرض، وكأنه نوع من التكليف أو الأمر، وأحيانا كمخرج من أي ضيق أو مأزق اقتصادي. وإذا كان الإسلام يؤكد على أهمية الأوطان (الديار) وينهى عن إخراج المسلمين من ديارهم إلا أنه لا يعارض الخروج الطوعي بحثا عن الرزق، والذي قد يأخذ شكل السفر والعودة، أو شكل الهجرة المؤقتة أو شكل الهجرة الدائمة.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (سورة الملك:15).
وقد كان لهذه الدعوة دور كبير فى ازدهار اقتصاد العالم الإسلامي فى بداية نشوئه وساهمت فى نفس الوقت فى انتشار الإسلام، وكان التجار العرب هم رواد نشر الإسلام ورواد الازدهار الاقتصادي فى ذلك الوقت فى أعماق إفريقيا وحتى أقصى جنوب شرق أسيا، وبعضهم استوطن فى هذه البلدان، وبعضهم اندمج فى الطبقات الحاكمة فيها.
وسنجد هذا المعنى فى الآية الكريمة (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (سورة العنكبوت:56). فهي تشير إلى الهجرة من أماكن يحارب فيها الإسلام إلى أماكن أكثر أمنا، وهى تتضمن أيضا السعي إلى التوسع فى الرزق لأنه لا عبادة صحيحة لله مع الفاقة والفقر الشديد. " أَرْضِي وَاسِعَةٌ" لا تعنى المعنى الجغرافي فحسب فسعة الأرض من رحمة الله التى جعلت البشر متنوعين فى الأمزجة والمصالح والرؤى، وقد ترى أمم عدم التعاون مع المسلمين إطلاقا، وترى أمم أخرى غير ذلك.
هذه الدعوة كان لها دور فى انتشار المسلمين فى شتى أنحاء العالم، وقد لا يعرف كثيرون أن المسلمين يشكلون نسبة مقدرة من سكان القطب الشمالي (سيبريا) فى روسيا. وتتكرر هذه الدعوة فى آية أخرى (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (سورة الزمر:10) وهناك إشارة صريحة للمؤمن كي لا يقيم فى الذل لأن أرض الله واسعة، والدعوة إلى الصبر على مفارقة الأوطان والأحباب.
وقد رأينا نماذج حية مصداقا لهذه الآيات فكم من المسلمين هاجروا من أوطانهم وحققوا نجاحا كبيرا فى حياتهم الدنيوية وفى حفاظهم على دينهم واستمرارهم فى الدعوة إليه، أو دعم الجهاد فى موطنهم الأصلي.
ويستخدم القرآن الكريم تعبير (الضرب فى الأرض) ليشير إلى السعي إلى الرزق الحلال (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ) (المزمل:20) وهو تعبير له من الروعة إلى حد أنه يشمل الانتقال من أجل العمل والتجارة داخل نفس المدينة،أو إلى أبعد ركن فى الأرض!! ولنلحظ هنا أن بعض السلع بل كثيرا من السلع تبور إذا اقتصرت على السوق المحلى، وإنتاجها أو المتاجرة فيها يقتضى أن يكون عالميا. وهذا ينطبق على الكثير من المواد الأولية، وأيضا المنتجات الصناعية. وأحيانا تكون بعض البلاد مجرد نقطة ترانزيت لنقل السلع من مكان لآخر، كما كان حال مكة قبل الإسلام وفى صدره الأول وهذه هى أهمية رحلة الشتاء والصيف. وهذا الوضع توسع بشكل كبير فى عصرنا الحديث. ومن المؤسف أن مصر لا تستفيد من موقعها الجغرافي، إلا من زاوية رسوم قناة السويس، ولكن إذا كان لديها أسطول تجاري وجوي كبير لتمكنت من أن تكون حلقة وصل مهمة بين القارات الثلاث وأيضا إذا قامت بتطوير موانئها ومطاراتها وزادت من عددها.
خلاصة ما تقدم أن الإسلام يخاطب البشرية جمعاء، وأن الله سبحانه وتعالى قدر أقوات الأرض وثرواتها للناس جميعا، وقد ربطت الآيات بين ذلك وبين الإيمان بالله، وأن الإيمان الحقيقي بالله يعنى تعاون البشرية فى التعامل مع ثروات الأرض بصورة عادلة، ولكن الأمر لا يسير على هذا المنوال، فالقوى المهيمنة على العالم لا تكتفي باحتكار ما لديها بل هى تسعى للسيطرة على ما فى أيدي الآخرين، وهو الأمر الذى أدى إلى قيام نظام دولي ظالم، أخذ شكل الاستعمار والاحتلال، وأخذ شكل الاحتلال الاستيطاني الذى يستأصل وجود السكان الأصليين فى قارات بأكملها (أمريكا –استراليا)، وأخذ شكل الهيمنة الاقتصادية على ثروات الشعوب الخاضعة للاستعمار،ثم تطور إلى ما يسمى التبعية الجديدة، فخرجت جيوش الاستعمار ولكن بعد أن نصبت نخبة حاكمة عميلة تربت على ثقافة ولغة المستعمر وارتبطت مصالحها به، والمستعمر القديم جاهز للرجوع فى أي وقت إذا حدث ما يخل بمصالحه، وهو يترك أحيانا قواعد عسكرية (وضع فرنسا فى أفريقيا مثال واضح على ذلك) للحفاظ على النظام التابع، وتظل الشركات الأجنبية تدير الاقتصاد المحلي وتستأثر بفوائده وأرباحه وثماره, وتمنع قيام اقتصاد وطني قادر على النمو بصورة مستقلة. وهى تستخدم أجهزة مخابراتها لتوسيع ورعاية شبكة العملاء من مواطني البلد التابع لها، لمراقبة وحماية مصالحها ثم لتصفية من تسول له نفسه إيذاء هذه المصالح. ومن أبرز الأمثلة على ذلك جريمة اغتيال الملك فيصل حاكم السعودية، عقابا له على موقفه فى حرب أكتوبر 1973 عندما قاد المقاطعة البترولية لأمريكا والدول المؤيدة للعدوان, وأيضا عندما أعلن تصميمه على تحرير القدس. وقد رأينا بعد هذه الجريمة أن الهيمنة الأمريكية على البترول السعودي أصبحت شبه مطلقة ثم تحولت إلى هيمنة مطلقة بتدفق قوات أمريكية على الأراضي السعودية خلال عام 1991، فى أزمة ما يسمى (تحرير الكويت). ومن خلال السيطرة الأمريكية على السعودية وباقي دويلات الخليج يتم التحكم فى سعر النفط إلى حد كبير، مع ملاحظة أن زيادة الأسعار أحيانا لا تغير من هذا الأمر، لأن أغلب الزيادة تصب فى مصلحة الشركات البترولية الأمريكية والعالمية.
إذن أهل المادة (أهل الغرب) يرفضون الرؤية القرآنية التى تتعامل مع ثروات البشر كوحدة واحدة للناس جميعا، ولا بد من مقاومة التوجه الغربي لإقامة نظام دولي غير عادل لضمان استمرار سيطرتهم على مقدرات العالم.
والمثير للانتباه أن قوانين القرآن (باعتبارها من سنن الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا) تعمل سواء أدرك المسلمون ذلك أم لم يدركوا، سواء تمسكوا بالقرآن الكريم أو تخلوا عنه؟! وبطبيعة الحال فإن قوانين القرآن تعمل سواء أدرك غير المسلمين ذلك أم لم يدركوا؟!
فقد أدت هيمنة الغرب أو الشمال على بلدان الجنوب إلى نشوء حركة معاكسة ترفض هذه الهيمنة الغربية على ثروات العالم، وترفض القواعد التى يضعها الغرب للتجارة الدولية. وهذه الحركة المعاكسة أخذت شكلها فى مسارين:
1) المسار الرئيسي: هو انتزاع الحقوق والثروات الوطنية بقوة الأمر الواقع، بطرد المستعمرين ثم بتأميم الشركات الأجنبية، وبسط السيادة الوطنية على الاقتصاد المحلي ثم بإقامة روابط بين هذه الدول المتمردة لتعزيز وضعها فى المعادلة الدولية وقد تعددت هذه الروابط التى بدأت واهية، حتى أخذت أشكالا أشد قوة وصلابة.
وأهم تغير فى الوضع العالمي أدى إلى إنهاء مسألة انفراد أمريكا والغرب بالسوق العالمي ،هو الطفرة التى حدثت فى الصين والهند وهما يمثلان أكثر من ثلث البشرية، وهما الآن الذين يحافظان على معدل نمو ايجابي للاقتصاد العالمي. وأصبحت الصين القوة الاقتصادية الثانية وتتجه لاحتلال المركز الأول عام 2020 وتحتل الهند المركز الرابع وقد أصبحت هاتان الدولتان قوة عالمية مكافئة وندية، لا يستطيع الغرب أن يستغلها أو يفرض عليها شروطه، بل ليس أمامه إلا التعامل معها على أساس عادل. (وقد كانتا مجرد مستعمرتين للغرب قبل أقل من قرن) والتغير الأبرز الثاني كان فى تحرر معظم قارة أمريكا اللاتينية من القبضة الاقتصادية الأمريكية. فبعد أن كانت كل بلدان القارة (عدا كوبا) تدار من واشنطن ومن خلال الشركات الأمريكية، خرجت معظم البلدان عن الطوع الأمريكي، وحققت انطلاقا اقتصاديا مذهلا وعلى رأسهم البرازيل أكبر دول القارة، التى تقوم شركاتها الآن بنشاط ملفت للانتباه على الأرض الأمريكية إلى حد شراء شركات وأصول أمريكية. وأصبحت هناك رابطة لدول القارة ثم رابطة أضيق (ميركسور) تمثل نواة لسوق مشتركة.
والتغير الأبرز الثالث هو تبلور الاستغلال الاقتصادي لدول جنوب شرقي آسيا، وما أنشأته من رابطة للتعاون المشترك (الآسيان) ،وعلى المستوى الإسلامي فإن الذى يتفاعل مع هذه القوانين القرآنية بشكل واع هى إيران وتركيا وماليزيا والسودان رغم التباين الشديد بين كل تجربة وأخرى إلا أنه يجمعها:
1- أنها سعت لبناء اقتصاد مستقل وتنمية متمحورة حول الذات.
2- أنها أدركت ضرورة فرض سيادتها على ثرواتها الوطنية, وانتزاع حقوقها فى المعاملات الدولية، على أساس عادل قدر الإمكان.
ولذلك كان من الطبيعي أن تحقق هذه الدول التوازن فى العلاقات الدولية من خلال توثيق وتوسيع العلاقات مع الكتل السابق الإشارة إليها: الصين والهند وأمريكا اللاتينية ودول جنوب شرقي آسيا.
ويمكن أن نضيف إلى البلاد الإسلامية السابقة بلاد أخرى تسير فى نفس الاتجاه وإن لم تعتمد المرجعية الإسلامية فى الحكم وهى سوريا واندونيسيا ونيجريا.
فى إطار هذا التوازن تتحرر الثروات التى أودعها الله للإنسان فى الأرض من قبضة القلة المستغلة, وتعود إلى التبادل والتداول بيسر أكبر بين الناس, وكلما زاد الثقل الإسلامي الواعي على المستوى الدولي كلما اقتربنا أكثر من نقطة التوازن الأكثر عدالة لأن الله سبحانه وتعالى ينهانا عن حبس الأموال أو الثروات سواء على المستوى المحلي أو الإنساني.
وكانت الدولة العثمانية قد تورطت فى سلسلة من الاتفاقات الاقتصادية مع دول الغرب, أعطت للأجانب امتيازات على الوطنيين فى التجارة والاستثمار, وكان هذا من أهم أسباب انهيار الدولة العثمانية.
إذن كان هذا هو المسار الرئيسي: انتزاع الحقوق بالقوة, وبسياسة الأمر الواقع, فهذه ماليزيا ترفض الإذعان لمطالب صندوق النقد الدولي وتواصل انطلاقاتها الاقتصادية بينما تركع حكومة مصر أمام هذه المطالب, وهذا الذى يفسر الهوة بين اقتصاد ماليزيا واقتصاد مصر فالأمم الناهضة, ثم التكتلات الناهضة أخذت تستعيد مصيرها بأيديها. فماذا كان المسار الثاني؟
2) المسار الثاني هو المسار التفاوضي: وهو تابع للمسار الرئيسي فالحقيقة فإنه لا توجد أي قيمة للمفاوضات بدون قوة, وبناء على هذه القوة تحصل على حقوق موازية على موائد التفاوض فى هذا المسار هو ما نسمع عنه من كتلة عدم الانحياز التى كان قلبها (الهند – مصر- يوغسلافيا) ثم مجموعة الـ 77 حاليا, وما تسمى مفاوضات الشمال و الجنوب، سواء فى إطار الأمم المتحدة أم خارجها، والمفاوضات المتوالية لاتفاقية التجارة العالمية، وهى سلسة تفاوضية تعاني من التعثر والجمود أحيانا، وانتزاع المكاسب فى أحيان أخرى لصالح الجنوب، وفى حالة الجمود فإن الجنوب ينتزع حقوقه على أرض الواقع ..الخ
وفى هذا الإطار بدأت تنشأ تكتلات عديدة لتحسين شروط الأطراف الناهضة فهذا تكتل شنغهاي (روسيا- وجمهوريات آسيا الوسطى- الصين.. الخ) وهناك محور (الهند – جنوب إفريقيا- البرازيل- الصين) الذى بدأ يتفاوض بصورة جماعية، وهنا لابد أن نلاحظ أن جنوب أفريقيا -فى ظل غيبوبة مصر- بدأت تتحول إلى زعيمة أفريقيا الاقتصادية، أما التكتلات الأخرى (الساحل والصحراء، والكوميسا فلم تظهر الحد الأدنى من الجدية حتى الآن لهشاشة معظم الاقتصادات المشاركة فيها وغياب دور القائد المحوري).
مضمون هذه المفاوضات هو الضغط على الغرب للتراجع عن سيطرته الاقتصادية على مقدرات العالم، وإنشاء اقتصاد عالمي أكثر عدلا، والغرب من ناحيته يواصل مفاوضاته وضغوطه اليائسة للحفاظ على مواقعه التقليدية.
إذن العالم يدرك بفطرته وخبرته، إننا نعيش فى قرية واحدة اسمها الكرة الأرضية، ولا بد من علاقات عادلة بين أطرافه وقبائله ودوله، حتى تسير الحياة بصورة هينة يسيرة على الأرض. بل برهنت التطورات البيئية، أن اجتثاث غابات الأمازون فى البرازيل يؤثر على مناخ العالم، وأن تلويث البحار فى مكان سرعان ما ينتقل لمكان أخر، وما يقال عن ثقب الأوزون والانبعاثات الأرضية التى تؤدي إلى تآكله، تؤكد وحدة وجود البشرية، ووحدة مصيرها. محمد بن عبد الله النبي الأمي الذى نشأ فى أكثر الاقتصادات تخلفا، جاء معه كتاب من الله لا يتحدث عن الاقتصاد أو الثروات الطبيعية دون أن يربطها بالدنيا ككل (أي بالكرة الأرضية), وذلك منذ أكثر من 14 قرنا . والآن يقولون أن "العولمة" اكتشاف خطير فى القرن الواحد والعشرين.
لم يتحدث القرآن الكريم عن الثروة فى ارتباط الجزيرة العربية أو الشام أو بلاد فارس أو بأي بلد ما ولكنه كان يتحدث دائما عن الأرض(فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة:10) (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) (الأعراف:10) (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30) (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61) (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ) (الجاثية:13) (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا) (نوح:19) وهو يتحدث عن الظواهر الكونية التى تعم بركاتها على سكان الأرض جميعا كالشمس والقمر والرياح والأمطار، أو مكونات الأرض العامة كالبحار والأنهار والسهول والجبال. فالأرض دائما وحدة واحدة فى الخطاب القرآني. كما عبرت آيات كثيرة فى القرآن عن الناس بأنهم أمة واحدة وأنهم يبتدئون فى الوجود من أصل واحد، وينتهون إلى نهاية واحدة وهى لقاء الله الذى خلقهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) وأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بهذه الوحدة (كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوي).
وأوضح القرآن أن الناس كانوا أمة واحدة فلما تنازع بينهم الخير والشر أرسل الله الأنبياء للإصلاح بين الناس (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ).
هذه الوحدة الإنسانية تتضمن وحدة الأصل، ووحدة التكوين، ووحدة الغرائز، ووحدة الاستعداد للخير والشر، فالغرائز كلها واحدة، فغرائز الإنسان فى أقصى الشمال هى غرائزه فى أقصى الجنوب (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا).
[العلاقات الدولية فى الإسلام- محمد أبو زهرة- ضمن بحوث مؤتمرات الأزهر لمجمع البحوث الإسلامية. الجزء الأول-1971 ص 94: 95]
*****
والنظام الدولي الراهن الذى يفرضه الغرب على المسلمين وأهل الجنوب يتعرض للشروخ والانهيارات كما أشرنا، بل يمكن القول أنه يعيش مرحلة الغروب، ومع ذلك فلابد من الإشارة إلى ملامحه لأنها ما تزال فعالة على قسم لا بأس به من العالم وبالأخص الوطن العربي ومعظم إفريقيا. أن الغرب يطالب بحرية الاستثمار فى بلادنا بدون قيود، ولكنه يفرض قيودا على الاستثمار العربي أو الإسلامي عنده إذا تجاوز حدودا معينة أو دخل مجالات معينة.
- الغربيون يدخلون بلادنا بسهولة، فى حين أن العربي أو المسلم أو الجنوبي عموما يجد مصاعب جمة فى دخول بلاد الغرب، وهذه مسألة قديمة قبل أحداث 11 سبتمبر.
- ليس صحيحا أن الغرب يتساهل فى الهجرة. بل هو يحصل على بعض المهاجرين غير الشرعيين لأنه يريد تشغيلهم فى أعمال غير ماهرة لا يقوم بها أهل البلد الأصليين وتضع استراليا قيودا قاسية على الهجرة خوفا من تغير الطبيعة السكانية الانجلوسكسونية (15 مليونا) متناسين أنهم ليسوا أصحاب هذه البلد، وأنهم أبادوا سكانها الأصليين بصورة وحشية يحميها التعتيم الإعلامي.
- الغرب يفرض دخول سلعه إلى بلدان الجنوب، ولكنه يضع قيودا وشروطا عديدة لمنع دخول السلع الواردة إليه من الجنوب.
- وتؤدي هذه السياسات إلى اختلال الموازين التجارية لصالح الغرب.
- ويضع الغرب قيودا على نقل التكنولوجيا لبلدان الجنوب لضمان استمرار اتساع الفجوة العلمية بين الطرفين ويبتدعون كل يوم قرارات دولية لضمان هذه الهيمنة، كمسألة (الملكية الفكرية).
- فرض الدولار كوسيلة للمعاملات الدولية مسألة غير عادلة لأنها تعطي الاقتصاد الأمريكي قوة مصطنعة لا تعبر عن قوته الحقيقية، وأن مزاحمة اليورو للدولار فى بعض المعاملات الدولية من علامات انهيار هيمنة الدولار. كذلك أصبح سعر العملة الصينية مسألة بالغة الأهمية فى الاقتصاد الدولي.
- سعى الغرب إلى تقسيم دائم للعمل الدولي، فيتخصص الغرب فى الصناعة ويتخصص الجنوب فى إنتاج المواد الأولية الأرخص سعرا، ولا يقبل الاستمرار الآن فى هذه المعادلة إلا العبيد من بني العرب وإفريقيا. مع ملاحظة أن استيراد المصانع الأجنبية (تسليم مفتاح) لا تعني تحول البلد الجنوبي إلى بلد صناعي، بل هو مجرد امتداد جغرافي للصناعة الأجنبية لتكون قريبة من أسواق تصريف منتجاتها!!
ولكن هل يعني إبرازنا للمفهوم الإنساني للاقتصاد فى الإسلام، إننا ندعو للعولمة الحالية ولكن تحت شعار مختلف . لا فكما هو واضح فإن رؤية الإسلام أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الأرض كوحدة واحدة وأن هذا سينعكس على مختلف القضايا ولكننا نركز الآن على الاقتصاد وأن الذين يجحدون رسالات السماء لن يقبلوا بهذه الحقيقة وسيحاولون الهيمنة على الكرة الأرضية وقد فعلوا ذلك مرارا فى القرون الأخيرة وسينعكس صراع العقيدة على الاقتصاد.. وقد لخص رجاء جارودى هذا الموضوع بكلمات قليلة موحية ورائعة وقاطعة:(أن العالم الثالث (يقصد المتخلف) يموت بسبب افتقاده للوسائل بينما يموت العالم الغربي بسبب الافتقار إلى (الغايات)!
وهو يصف الغرب بأنه قزم منحرف ضال وضعت العلوم الحديثة وتقنياتها طاقات عملاقة بين يديه فاستغلها لخدمة أهوائه فى القوة والمتعة والنمو المادي، مهددا حقوق الأغلبية ليسحقها الجوع والحرمان والمعاناة).
[ذاتية السياسة الاقتصادية الإسلامية- د. محمد شوقي الفنجرى- الطبعة الثانية. القاهرة – أكتوبر 2007 – سلسلة قضايا إسلامية – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – العدد 152، ص94].
وقد قال جارودى هذا الكلام فى عام 1986أما الآن فإن مشروع السيادة الأمريكية يتعرض لضربات شديدة فى المجال الاقتصادي العالمي كما أسلفنا، ورغم أن القوة الصاعدة لا تحمل فى أغلبها تصورا حضاريا متكاملا ومختلفا عن تصور الغرب ولكن صعود هذه القوى الآسيوية واللاتينية حقق قدرا أكبر من التوازن ومن ثم قدرا أعلى من العدالة فى التعامل مع ثروات العالم.
ولكن التدافع على المستوى الدولي سيظل سنة الحياة كالتدافع على المستوى الوطني والمحلى. لذلك فإن التصور الإسلامي للاقتصاد الدولي وإن كان يدعو إلى تعاون البشرية جمعاء من أجل حياة أكثر رغدا ورخاء وعدالة إلا أنه يدعو ولضمان تحقيق هذا الهدف إلى تكتل الدول الإسلامية فى كتلة واحدة، وهذا ينقلنا إلى الوجه الأخر للرؤية الإسلامية.
يشيع البعض إسلاميون وغير إسلاميون- أن تقسيم البشرية إلى دار إسلام ودار حرب ودار عهد مسألة قديمة وعفى عليها الزمن، وأنها كانت من اجتهادات بعض الفقهاء فى عصور سابقة، وأن العصر الحديث بعولمته الحالية لا ينطبق عليه هذا الكلام. وهذه واحدة من أكبر الافتراءات على الدين الإسلامي، فهذا التقسيم الثلاثي للعالم ( إسلام -حرب- عهد ) مسألة أساسية مستقاة مباشرة من نصوص القران والسنة ولذلك فقد كانت دائما محل إجماع بين الفقهاء على مدار العصور وإن السعي لهدمها الآن من قبل بعض فقهاء السلطان- بناء على أوامر الغرب – فإنه سعى لهدم أسس الإسلام فإذا كان المسلمون يعتقدون أنهم يتبنون العقيدة الصحيحة، وأنهم ينظمون حياتهم على أساسها فإن ذلك يقتضى أن تكون القاعدة هو تجمع المسلمين فى مكان واحد ( دار الإسلام ) ثم يأتي فى المحل الثاني مسألة تنظيم علاقاتهم مع الآخرين وبالتالي يتم تقسيم باقي العالم إلى قسمين:
1)الحرب 2)العهد أو الميثاق.
والقسمان ليسا على دين الإسلام، ولكن الأول عدو ويبادر بالحرب على دار الإسلام والثاني فى حالة سلام أو تعايش فى إطار عهد أو ميثاق مكتوب أو شفويا فى صورة معاهدة أو فى صورة أمر واقع.
ولا أدرى ما هو وجه الغرابة فى هذا التقسيم المنطقي جدا: تحديد هويتي، وإقامة العلاقة مع الآخرين على أساس موقفهم منى (نسالم من يسالمنا ونعادى من يعادينا).
وأي مجموعة عقائدية أخرى ستقسم العالم بنفس الطريقة: تحديد هويتها وتحديد العدو والصديق!! ولكن فقهاء السلطان فى البلاد العربية يركزون على فكرة نفي (دار الحرب) لأن ذلك يشير إلى أمريكا وإسرائيل وحلف الناتو!! وهذه خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.
فالكيان الصهيوني دار حرب ويخرج المسلمين من ديارهم ويواصل جرائمه اليومية ضد الفلسطينيين مع استعداده الدائم لتوسيع دائرة العدوان إلى لبنان وسوريا وإيران وأمريكا تسانده بالمال والسلاح والدعم السياسي والدبلوماسي ثم بدأت تشن حملاتها العسكرية بنفسها على العراق، ثم احتلت العراق وأفغانستان وآلتها الحربية تضرب فى باكستان واليمن والصومال فإذا سمينا أمريكا- وإسرائيل (دار حرب) هل ظلمناهم فى شيء؟! وهل وصفناهم بما ليس فيهم؟!
وهذه آية واحدة على سبيل المثال لا الحصر استخرج منها الفقهاء أحكام الديار الثلاثة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 72 ) وسنكتفي بهذا المثال حتى لا نخرج عن موضوعنا ونحن نريد التركيز على البعد الاقتصادي لهذا التقسيم الثلاثي للعالم.
هناك خلط متعمد بين دار الكفر ودار الحرب، فالمسلمون لا يسعون للحروب ولا يصفون المخالفين لهم فى العقيدة بأنهم دار حرب، بدليل أن دار العهد والميثاق هم أيضا غير مسلمين (أو كفار بالمعنى العقائدي) فالمسلمون يتمنون أو يسعون ليكون باقي العالم كله دار عهد، أو على الأقل يكون هكذا أغلب العالم، وأن تكون دار الحرب محصورة فى أقل عدد من البلدان.
التقسيم الفقهي المعتمد لا يستخدم مصطلح (دار الكفر) بل مصطلح (دار الحرب) فالعلة فى المواجهة هى أنه طرف عدواني محارب وكذلك كما ذكرنا فإن دار العهد هم أيضا غير مسلمين.
وإذا ركزنا على الجانب الاقتصادي فمن الطبيعي أن يكون المسلمون فى ديارهم اقتصادا متكاملا ومفتوحا فيما بينهم وأن يعملوا على إنشاء سوق اقتصادية مشتركة فهم أمة من دون الناس، تحكمهم نفس القيم والمصالح والرؤى الإسلامية للنشاط الاقتصادي التى سنوضح أبعادها فى الفصول التالية، وحتى فى ظل غياب الدولة المركزية الإسلامية، وحتى مع ذلك، فإنه من الواجب دائما فتح الحدود بين الدول الإسلامية لانتقال الأفراد والأموال والسلع والخدمات، وإلغاء تأشيرات الدخول، وتوحيد القوانين الاقتصادية قدر الإمكان، وليس عيبا أن نستفيد من تجربة الإتحاد الأوروبي فى هذا الصدد، لأن الحكمة هى ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها، بل لأن سعي الأوروبيين لدمج الاقتصادات الصغيرة المتوسطة والكبيرة فى كيان واحد، هو سعي عقلاني راشد، ويقترب من قوانين القرآن الكريم فى مسألة وحدة الأرض وإن كانوا يرون الجانب المصلحي المادي فيه فحسب، وقوانين القرآن تجمع بين الروحي والمادي ،والإنسان العاقل الرشيد ستجده فى ممارسته قريب من القوانين القرآنية حتى وإن لم يقرأه أصلا، لأن قوانينه كما ذكرنا هو سنن الله فى خلقه.
والغربيون لم يتقدموا علينا إلا بالأخذ بالأسباب: امتلاك القوة – العلم – النظام – حكم القانون – العمل – إتقان العمل – حسن استغلال ثروات الأرض.. الخ
والاقتصاد العالمي لن يقوم على أركان مستقرة إذا كان بين 180 دولة، ولكنه يقوم أساسا على العلاقة بين عدد من التكتلات الكبرى والتوازن بين هذه التكتلات هو الذى يضمن الحد الأدنى من العدالة فى العلاقات الاقتصادية الدولية. والعرب والمسلمون هم الكتلة الوحيدة فى العالم غير المنضوية تحت لواء تجمع إقليمي اقتصادي وثيق. وتحاول تركيا وإيران وسوريا وضع نواة لهذا التجمع.
لا يلومنا أحد إذن إذا تحدثنا عن دار الإسلام من الناحية الاقتصادية لأن من حقنا أن نتجمع فى كتلة كما يتجمع الآخرون فى كتل، وإن تجمعنا فى كتلة يقوى الاقتصاد الإنساني العالمي ويحقق مزيدا من التوازن والعدالة فيه، لاحظ أن أمريكا اللاتينية الناهضة هى التى تلهث وراء العرب لتصنع معهم تكتلا مشتركا، ولكن معظم الحكام العرب يفرون منهم.
العلاقات الاقتصادية مع دار العهد:
سنطبق حديثنا على الوضع الراهن فى أوائل القرن الواحد والعشرين إن دار العهد هنا تشمل معظم دول العالم، والعلاقات مع هذه الدار طواعية للغاية بها أوسع انفتاح ممكن فى العلاقات والاتفاقات التى تنظمها، فى كل مجالات الاستثمار – التبادل السلعي– تبادل الخبرات التكنولوجية، باختصار لا توجد قيود على هذه العلاقات إلا عدم الإضرار بالمصالح الوطنية والإسلامية الاقتصادية. ويشمل دار العهد الآن كل الدول الآسيوية والأفريقية واللاتينية غير الإسلامية أي كل ما يسمى دول الجنوب
وكذلك كل الدول الأوروبية التى لا تشارك فى محاربة المسلمين فى العراق أو أفغانستان أو أي بلد إسلامي آخر, كذلك فان كل الدول الأوروبية الداعمة لإسرائيل وبالأخص فى نشاطها الحربي ضد المسلمين, وكذلك كندا واستراليا لإرسالها قوات إلى أفغانستان. كل هذه الشرائح تدخل تحت بند (دار الحرب).
العلاقات الاقتصادية مع دار الحرب:
من الطبيعي أن العلاقات الاقتصادية تتوتر وتضطرب بل وتتعرض للتوقف بين الدول المتحاربة, بل يسعى كل طرف إذا توسعت الحرب إلى ضرب الأهداف الاقتصادية للطرف الآخر. وهذه قاعدة عامة بين الأمم فلماذا يلومون المسلمين حين يتحدثون عن دار الحرب, كدار معادية, وكأن الأمر بدعة عجيبة. فقهاء الحكام العرب يريدون إسقاط مصطلح دار الحرب حتى يستروا عورة حكامهم الذين يتعاونون اقتصاديا وعسكريا وسياسيا مع الدول المحاربة للإسلام والمسلمين. وقد ظهرت مسألة الدعوة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية والأمريكية والأوربية كحركة شعبية ردا على خيانة حكام العرب. ولكن المقاطعة الشعبية مقاطعة رمزية وليست بديلا عن الموقف الفقهي الأصلي وهو ضرورة التزام حكام المسلمين بعدم التعامل الاقتصادي مع الدول المعتدية.
فى تنفيذ ذلك قد تكون هناك كثير من التفاصيل, كالتفرقة بين من لا يقاتل بنفسه, ومن يعاون, والتفرقة بين المعاونين على أساس أهمية وفاعلية المعونة وفى هذا المجال يكون إبقاء أو تحسين العلاقات الاقتصادية على أساس تحسن الموقف المساند للعدوان بمعنى اتجاهه للانكماش والانسحاب (كانسحاب هولندا مؤخرا من أفغانستان) ويحكم هذه المسألة آيتان كريمتان طالما اعتبرتهما ذروة فى الإعجاز القرآني فى مجال العدل عموما وفى العلاقات الدولية خصوصا وطالما تحديت أن يأتي أحد بقاعدة أكثر عدلا منها:
(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8- 9).
فأنت إذا لم تقتلني ولم تخرجني من دياري لك مني البر والعدل فهل يرفض أحد –إلا جاحد أو ظالم- هذا العرض؟!
فمع دار العهد يمكن الدخول فى تكتلات وتجمعات اقتصادية للتعاون المشترك بمنتهى الإخلاص، وتنسيق المواقف الدولية على أساس العدل، بغض النظر عن الجنس أو الدين. أما مع أهل الحرب فليس أمامنا معهم إلا المواجهة حتى يرتدعوا، وهم إذا ارتدعوا وكفوا عن العدوان، يدخلون ببساطة فى دار العهد.
ولكن فى إطار الرؤية الإنسانية لعالمية الاقتصاد، تحدث الفقه الإسلامي عن الحربي المستأمن، وهو ما فتح إمكانية التعاون الاقتصادي مع شركات ومواطنين من دولة الأعداء المحاربة، إذا تم التأكد من حسن نواياهم، وكانت العلاقات الاقتصادية معهم لا تضر مصالح الدولة الإسلامية. كذلك يمكن استقبال الحربي المستأمن كزائر أو سائح أو باحث ولكن بنفس الشروط المشار إليها. وتعكس هذه المسألة سعة أفق الفقه الإسلامي وعدم عنصريته.
والمستأمن شخص دخل الديار الإسلامية على غير نية الإقامة فيها، بل يقيم مدة معلومة، بعقد يسمى عقد الأمان، أو بمجرد منح الإقامة، وذلك يكون بقصد الاتجار أو السياحة أو الزيارة وإقامته تكون محدودة بمدة قابلة للتجديد، فإن أخذت إقامته صفة الدوام تحول إلى ذمي (أي مواطن فى الدولة الإسلامية).
وأن الإسلام لسماحته ولاعتباره الحروب أمرا عرضيا وأنها تكون فى الجبهات ولا تصل إلى الشعوب فتح الباب للمستأمنين يدخلون داره، ولو كانوا منتمين لدولة نصبت الحرب بينها وبين المسلمين، وأن أرواحهم وأموالهم مصونة لا يعتدي عليها ما داموا متمسكين بعقد الأمان، ولهم أن يباشروا نشاطهم التجاري أو غيره من غير أي قيد يقيدهم.
وكما يقول السرخسي فإن (أموالهم مضمونة بحكم الأمان)، بل والعجيب أن جمهور الفقهاء، يقول أن ملكية هذا المستأمن تظل مضمونة حتى ولو عاد إلى دار الحرب بل لا تزول ولو حمل السلاح مقاتلا المسلمين!! لأن الأمان وإن بطل لشخصه فإنه يظل لماله!! وهكذا يحق لورثته فى بلد الحرب أن يحصلوا على أمواله إن مات، ويجب على الدولة الإسلامية أن ترسلها إليهم مصونة غير منقوصة وقد عارض الشافعي فى مسألة الميراث فحسب!
[أبو زهرة- مرجع سابق- ص125: 126- بتصرف من أجل الاختصار].
مسألة الأقليات الإسلامية:
من الأمور التى استخدمت للقول بعدم واقعية التقسيم الثلاثي للعالم فى العصر الراهن مسألة اتساع ظاهرة الأقليات الإسلامية فى دار الحرب (الغرب). والحقيقة فإن هذه الظاهرة بهذا الحجم مستحدثة جدا، ونحسب أيضا أنها مؤقتة جدا بالمعنى التاريخي، وأن تطور الأحداث سيدفع المسلمين للالتحاق بدار الإسلام من جديد وألا سيتعرضون لمخاطر جمة، ذلك أن الغرب لن يتحمل استمرار ارتفاع عدد المسلمين إلى حد تغيير طبيعة المجتمع، ولا نريد الخوض فى هذا الموضوع حتى لا نخرج عن موضوعنا الاقتصادي، خاصة وأن الأقليات المسلمة لا تمتلك المفاتيح الأساسية لاقتصاد الغرب، ولا مفاتيح القرار السياسي، لذلك فإن وجودها المؤقت بين ظهراني الغرب لن يساعد كثيرا فى تغيير طبيعة العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب فى المجال الاقتصادي.
*****
ولا يوجد تعارض بين مخاوفنا من تصفية الظاهرة الإسلامية فى الغرب، وما أشرنا إليه سابقا من دعوة الله للضرب فى الأرض فالأرض ليست أوروبا وأمريكا وحدهما، وإذا رحبت بعض دول أوروبا والولايات المتحدة بالمسلمين بين ظهرانيهم وهم قلة ضئيلة لا تذكر، فإن تزايد عددهم وفاعليتهم يخلق تيارات معادية لهم تختلف من بلد لأخر وتدعوا لاستئصالهم ورفض قبول أي مهاجرين مسلمين جدد، والغرب فى تكوينه الفكري والثقافي فكرة الاستئصال ويمكن أن يستعيدها مرة أخرى، لذلك لا أتوقع مستقبلا زاهرا للأقليات الإسلامية فى أغلب بلدان الغرب، وأن الضرب فى الأرض يبدأ بالعالم الإسلامي نفسه والممتد من أندونيسيا حتى المغرب ومن تركيا حتى أواسط إفريقيا، كذلك فإن الأرض تشمل أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهى بلدان أكثر تسامحا بكثير فى ثقافتها مع أي عناصر وافدة جديدة.
وأنا لا أنتقد المسلمين الذين هاجروا مؤقتا للغرب ولكنني أحذرهم، وماالمعارك حول الحجاب أو النقاب أو المآذن إلا فقاعات على السطح أما الغليان الحقيقي فهو فى قلب وأسفل المرجل، والانفجار الحقيقي ضد الإسلام والمسلمين لم يأت بعد، بل إنه ربما يكون قريبا جدا إذا انتشر الإسلام بصورة سريعة جدا تهدد بنية المجتمع الأوروبي، أما الولايات المتحدة فهي قادرة على استيعاب الظاهرة الإسلامية داخلها لفترة أطول بحكم حجمها السكاني الكبير (حوالي 300 مليون)، على خلاف بلدان مثل انجلترا وفرنسا وهولندا والدنمارك لضآلة حجمها السكاني وتزايد نسبة المسلمين فيها بمعدلات متسارعة سواء بالإنجاب أو بالهجرة.
نخلص من كل ذلك أن دعوة الإسلام إلى التعاون الإنساني فى تنمية موارد الأرض والحفاظ على البيئة فى اطار من العدالة التى لا تفرق بين الأمم على أساس الدين أو الجنس أو اللون (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) هذه الدعوة لا تعنى أن يتسم المسلمون بالسذاجة، أو يتم استغفالهم عبر مصطلحات"العولمة" "النظام العالمي الجديد" أو" السوق العالمي الموحد"..الخ كي تفرض عليهم علاقات ظالمة فى المجال الاقتصادي الدولي عبر صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو غيرهما من الوسائل، كذلك فإن العلاقات الاقتصادية الدولية سيتأثر انسيابها وتفاعلها الحر فى حالة العدوان المسلح على المسلمين بهدف الاستيلاء على ثرواتهم واحتلال أراضيهم. كذلك فإن المسلمين يرفضون أي اعتداء ظالم من أمة على أمة أخرى بهدف فرض مصالح اقتصادية أجنبية, وعلى ذلك فإن المسلمين يتعين عليهم التضامن مع شعوب أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا إذا تعرضت لأي عدوان أمريكي أو غربي. وبدون ذلك لن تقوم علاقات اقتصادية دولية عادلة, نعم ستظل هناك قوى دولية تسعى للهيمنة واستخدام القوة لتغليب مصالحها, وعلى الأمم الحرة أن تتكاتف لمنع ذلك, وإعادة العلاقات الاقتصادية الدولية لمسارها السلمي التنافسي القائم على العلم والعمل والتكنولوجيا والكد والكدح. وهناك فرصة تاريخية فى اللحظة الراهنة لتحقيق ذلك, نتيجة التراجع الملحوظ والمطرد للهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي.

مشاركة مميزة