kolonagaza7
الدكتور طالب الرماحي
(هذه الدراسة تتناول في حلقات أكبر الجرائم المرتكبة بحق الشعب العراقي وهي جريمة المقابر الجماعية في العراق ، وكيف تعاملت الحكومات العراقية معها بعد سقوط النظام السابق في نيسان 2003 ، والجهود التي بذلت وما زالت من أجل انقاذها من التهميش والنسيان ) .
الحلقة الثالثة
ذكرنا في الحلقتين الماضيتين أن جرائم النظام السابق المتنوعة ومصادرته للحريات في العراق كشفت عن وجه إجرامي قبيح لحزب البعث الحاكم ، فأثر ذلك بشكل كبير على مصداقية النظام البعثي وأهليته في استمرار حكم العراق ، وراحت الكثير من حكومات العالم تشعر بالحرج من إقامة علاقات طبيعية معه ، وعندما حصلت أحداث 11 سبتمر وتحركت الإدارة الأمريكية باتجاه إسقاط النظام ، لم تجد تلك الرغبة الأمريكية معارضة دولية أو إقليمية تكفي لتغير قناعة الأمريكيين في تنفيذ مشروع التغير . لذا فإن دماء شهداء المقابر الجماعية تكون قد ساهمت إلى حد كبير في عملية التغيير ، وهذا يعني أن الحكومات التي توالت على العراق بعد ذلك تكون مدانة لتلك الدماء ، وأن استحقاقات وطنية وشرعية وإنسانية تقع على مسؤولي تلك الحكومات في أن تتعامل مع ملف تلك الدماء بوفاء ، وليس من شك في أن الاهتمام بهذا الملف الإنساني قرينة تثبت أو تنفي إخلاص المسؤول أو عدمه لأمته وشعبه ولعقيدته ، وكان ينبغي على الحكومات إذن أن تبادر منذ الأيام الأولى بالقيام بخطوات جدية وفاءا منها للشهداء ولذويهم من أرامل وأيتام وأباء وامهات ، وهذا ما تفعله بل وفعلته كل شعوب العالم مع شهدائها التي راحت ضحية لأنظمة ديكتاتورية شمولية مشابهة لما حصل في العراق . ناهيك من أن أغلب شعوب العالم التي تعرضت لإبادة جماعية كالشعب اليهودي ورواندا وكبمبوديا والبوسنا والهرسك وغيرها قد عملت ما بوسعها لتثبيت تلك الجرائم في الوجدان الشعبي والعالمي لتضمن حقوق الأمة وضحاياها ، وقد استطاعت بعض تلك الشعوب مثل اليهود من خلال أداءها الجيد كما ذكرنا ذلك من قبل في الحصول على الكثير من المكاسب الستراتيجية وتحقيق أهداف كبيرة بفضل دماء ضحاياها .
وقبل أن أتناول ما فعلته أو لم تفعله الحكومات الإتحادية العراقية ، ينبغي أن أسأل سؤالاً كبيرا مهماً حول مسؤولية الأمة ومؤسساتها الحكومية والمدنية اتجاه هذا الملف الإنساني الخطير ، بعد أن هيأ الله سبحانه وتعالى من ينقذ هذا الشعب من نظام حزب البعث الظالم ويفك كامل قيوده .
( هل بادرت الحكومات الإتحادية المتعاقبة منذ مجلس الحكم ، وتشكيل أول حكومة انتقالية في 31 آب 2003 ، وحتى انتهاء ولاية حكومة نوري المالكي في آذار 2010 ، إلى التعامل مع ملف شهداء المقابر الجماعية كما ينبغي ، أو كحد أدنى مما ينبغي أن تفعله من استحقاقات وطنية وشرعية وإنسانية ؟ ولماذا لم يبادر الشعب العراقي وخاصة في الوسط والجنوب باعتبار أن غالبية الضحايا من تلك المناطق ، إلى مطالبة الحكومة باسترداد كرامتها وحقوقها التي سلبت من قبل النظام السابق من خلال تلك الجرائم اللاإنسانية ؟ وهل قامت منظمات حقوق الإنسان في العراق بواجبها اتجاه ملف شهداء المقابر الجماعية ؟ ) .
من خلال تعايشي المستمر مع الملف لم أر أي خطوة ذات أثر تم العمل بها من أجل تنفيذ الأمور المهمة ، والتي ينبغي أن تبادر بها الحكومة باعتبارها معنية بتنفيذ الدستور وتحقيق مصالح وإرادة الشعب والحريصة على تنفيذ مشاريعه المختلفة ومنها الإنسانية ، وأنا هنا عندما أتحدث عن المهام التي ينبغي القيام بها إنما أعني مهام ستراتيجية كبيرة في الداخل والخارج وليس تلك التي تتعلق بتعويض بعض عوائل الشهداء مبلغا من المال أو قطع أراضي أو تخصيص رواتب تقاعدية لبضعة آلاف من ذوي الشهداء ، فهذه الأمور وما يشبهها مما تقوم بها مؤسسة الشهداء هي من بديهيات ما يجب أن تفعله الحكومة ، لكن الذي أعنيه هو القيام بمهام أخرى ذات أبعاد كبيرة ، يمكن حصرها بما يلي :
أولاً : جهة تتبنى مسؤولية ملف المقابر الجماعية :
تشكيل مرجع ذات صلاحيات وقدرات مالية كافية للنهوض بمسؤولياتها في تنفيذ المشاريع المختلفة التي تغطي جوانب الملف المختلفة والتي تتعلق بالضحايا كالاهتمام بمقابرهم والقيام بإجراءات تحفظ لهم تضحياتهم وتكرمهم وتقوم بتعويض وتكريم ذويهم من خلال إصدار القوانين الخاصة بذلك ، تبدأ تلك الإجراءات بإحصائية دقيقة للضحايا وذويهم وبما يتعلق بقضيتهم وانتهاءاً بإصدار القوانين المختلفة والتي تتضمن كل ما يتعلق بحقوقهم المادية والمعنوية ، الوطنية والشرعية والإنسانية ، وقد اقترحنا أكثر من مرة على الحكومة الإتحادية ( في لقاءات مع مدير مكتب رئيس الوزراء ) ، أن تشكل لذلك وزارة أو هيئة وطنية عليا ترتبط ماليا وإداريا بمجلس الوزراء . وثمة إشكال قد يطرح نفسه ، وهو أن هناك أطراف ذات بعد مؤثر في المعادلة السياسية تنظر إلى الإهتمام بملف المقابر الجماعية على أنه إدانة لها بسبب علاقتها الطائفية بالنظام السابق ، وبالتالي فإنها سوف لن تسمح للحكومة في أن تشكل وزارة خاصة بالمقابر الجماعية ، وربما تسعى إلى عرقلة المشروع داخل البرلمان أثناء التصويت . وتشكيل هيئة عليا لنفس الغرض سوف يواجه التحدي نفسه لأن ذلك يتطلب موافقة البرلمان أيضاً . ونحن نرى أن هذا الإشكال لايسقط حق الضحايا في العمل الجاد من أجل تحقيق هذا الهدف الإنساني المقدس ، كما أنه لا يسقط المسؤولية كاملة عن رقاب المعنيين بها ، فالشعب العراقي ما زال يعاني من وجود ممثلي لحزب البعث بمسميات أخرى تشترك بقوة في الحكم وتمارس ضغوط كبيرة على السلطتين التنفيذية والتشريعية ( ولحد انتخابات آذار 2010 ) من أجل أن تمنعها من أن تعمل بواجبها في معالجة هذا الملف ، والذي يؤسف له أن تلك الضغوط كانت إحدى الأسباب التي جمدت العمل بهذا الملف وأضرت به إلى حد كبير ، وقد شجع تلك الأطراف على التشكيك بجرائم المقابر الجماعية والعمل على طمسها ، عدم تحمس الحكومة في تبني الملف ، وراحت تغمض عينيها عنه ، ونعتقد أنه لو ثمة نوايا حسنة وإصرار على العمل بهذا الإتجاه فسوف لن يكون لأي طرف معترض ذلك الأثر الذي يمنع وبالشكل الذي نراه من قيام الحكومة بواجبها. ولذا نرى أن من حق الشعب العراقي بل ينبغي عليه أن يطالب الحكومة بالتعامل مع قضيته هذه وفق متطلبات مصالحه وليس مصالح أعدائه . وهذا يعني أن أي قصور من قبل الأمة في معالجة مشاكل الملف ( وكما هو حاصل لحد الآن ) يعني أن ثمة خلل ما في فهم الأمة لقضاياها الكبيرة والخطيرة ، وأن ثمة اسباب يجب العمل الحثيث لمناقشتها وإزالتها ، ويتطلب من النخب المخلصة أن تتحرك للتوعية وللإصلاح ، كما أن أي قصور وتلكؤ من قبل ممثلي الأمة سواء في البرلمان أو الحكومة ( وكما هو حاصل أيضاً ) في العمل بشكل صحيح في التعامل مع الملف ، يعني خيانة للأمة وللعقيدة ، فعلى الأمة من خلال نُخبها المخلصة والكفوءة أن تبادر إلى حث الحكومة على العمل بواجباتها وفق ما تمليه مصالح الأمة وكما ينبغي ، بعيدا عن المصالح الحزبية وعن المجاملات والمداهنات أو المصانعة التي عاشتها العملية السياسية خلال السنوات السبع الماضية .
ثانياً : تشكيل لجنة للبحث عن المقابر الجماعية :
لاأستطيع أن أضع تفسيرا أو اسبابا معقولة يمكن من خلالها تبرير إحجام الحكومات الإتحادية عن تشكيل مجرد لجنة للبحث عن المقابر الجماعية ، مع علم الجميع أن هناك الآلاف من المقابر تتوزع على طول وعرض البلاد ، وأن هذه المقابر سوف تتعرض لأكثر من خطر بسبب عدم وجود لجنة بحث تعمل للوصول إليها والشروع بالإجراءات اللازمة التي تستوجبها الأعراف الوطنية والإنسانية والدينية ، فعدم وجود مثل هذه اللجنة هو ضياع تلك المقابر التي تقع على حدود المدن بسبب زحف التقدم العمراني عليها ، وهذا يعني إخفاء كل تلك الجرائم إلى الأبد . أما المقابر التي تقع في المناطق النائية فتقادم الزمن عليها يخفي معالمها شيئا فشيئا وهذا يعني صعوبة اكتشافها ، واختفاء معالم الجريمة التي يستوجب الحرص عليها لأغراض جنائية ، فالمقبرة الجماعية وفق القوانين الدولية والمحلية جريمة مكتملة الأبعاد ( ضحية ومكان ارتكاب الجريمة وجانٍ ) ، وأبقاء هذه الجريمة بعيدا عن التحقيق لفترة أطول يعني إضعاف الأدلة الجنائية التي تقودنا إلى الجاني ، وهذا الأمر يشكل ظلامة كبيرة للضحايا وذويهم ، واي إهمال يؤدي إلى هذا الضياع هو بحد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون ، إذا ما كان لدى الشعب وعي وثقافة تؤهله للمطالبة بحقوقه .
والغريب في الأمر أن العراق البلد الوحيد من بين بلدان العالم التي تعرضت للتطهير العرقي والإبادة الجماعية ، ولم تبادر حكومته للإسراع في إجراءات البحث عن المقابر الجماعية ، فأما المقابر التي اكتشفت لحد الآن ، فقد تم اكتشافها عن طريق الصدفة من قبل عوام الناس كما أن هناك أشخاص يحتفظون في ذاكرتهم لأماكن تم فيها دفن ضحايا للنظام السابق ، بادروا إلى إخبار الجهات الرسمية عنها ، إضافة إلى ما تم الإخبار عنه من قبل القوات الأمريكية أو بعض المنظمات الإنسانية الأجنبية أثناء تجوالها في العراق بعد سقوط النظام . وكان المفروض أن تبادر السلطات العراقية بعد سقوط النظام مباشرة – وليس ثمة ما يمنع ذلك – إلى تأسيس لجنة متخصصة في البحث عن المقابر الجماعية يتم شيئا فشيئا تطوير قابلياتها اللوجستية والمالية لتسابق الزمن في اكتشاف المزيد من المقابر الكثيرة التي ما زالت مجهولة لحد الآن ، لكن لم يحصل ذلك حتى مع تحسن الأمن وتعاقب أكثر من حكومة على إدارة البلد ، ونحن نعتقد أن فشل الحكومة في ذلك يعد إخفاقا إنسانيا وتقصيراً في مسؤولية الدولة اتجاه الشعب . ومن السلبيات التي خلفها الإخفاق الحكومي أن أغلب المقابر الجماعية التي تم اكتشافها بشكل عشوائي تم العبث بها ولم يتم نبشها وفق المعايير العلمية المعمول بها في أماكن أخرى من العالم ، مما عرض الأدلة الجنائية إلى الضياع وهذا الأمر يصب في صالح الجناة الذين شاركوا في عمليات القتل والدفن ، وهم ما زالوا طلقاء وموزعين على دوائر الرسمية ولعل البعض منهم تقلد مناصب رفيعة في الدولة .
لم يتم لحد الآن اكتشاف أكثر من 300 مقبرة ، فيما تذهب التقديرات إلى وجود آلاف المقابر مما تحتوي على ضحيتين أو أكثر تم قتلهم ودفنهم بشكل فوضوي . وفي مقارنة بسيطة مع ضحايا المقابر الجماعية في البوسنة والهرسك يمكن لنا أن ندرك مدى خطورة التقصير في عدم تشكيل لجنة للبحث عن المقابر الجماعية في العراق .
لقد عرَّفت القوانين في البوسنة والهرسك المقبرة الجماعية على أنها : ( المقبرة التي تحتوي على أربعة جثامين ما فوق لضحايا دفنوا ليس وفق الأعراف الشرعية أو الإنسانية المتداولة ) . ولذا فإن البوسنيين أكتشفوا مايقرب الـ 500 مقبرة حسب التفسير أعلاه . أما المقابر التي تحتوي دون أربعة جثامين ، فإن المصادر البوسنية تؤكد أنها اكتشفت لحد الآن 3800 مقبرة . علما أن التقديرات لعدد المدفونين في مقابر جماعية في البوسنة والهرسك هو 30 ألف ضحية .
أما في العراق فقد عرَّفت المادة (2/3) من قانون حماية المقابر الجماعية رقم 5 لسنة 2006 المقبرة : (الأرض أو المكان الذي يضم رفات أكثر من شهيد تم دفنهم أو إخفائهم على نحو ثابت دون اتباع الأحكام الشرعية أو القيم الإنسانية الواجب مراعاتها عند دفن الموتى …) ووفق هذا التفسير فإن المقابر التي تم التعرف عليها من قبل العوام لاتزيد على 300 مقبرة . وهذا العدد يعتبر رقما ضئيلاً إذا ما أدركنا أن التقديرات الأولية تشير إلى وجود أكثر من 500 ألف ضحية تم دفنها في مقابر جماعية خلال فترة حكم النظام البعثي السابق . وإذا ما حاولنا الإستفادة من التجربة البوسنية فإن الضحايا فيها يقدر بـ 30 ألف وهو أقل من 1.8% مما هو في العراق من ضحايا، ومع ذلك فقد تم أكتشاف 3800 مقبرة ، مما يجعلنا نعتقد بوجود عشرات الآلاف من المقابر موزعة في أماكن متفرقة في المحافظات العراقية .
يتبع الحلقة الرابعة إنشاء الله
(هذه الدراسة تتناول في حلقات أكبر الجرائم المرتكبة بحق الشعب العراقي وهي جريمة المقابر الجماعية في العراق ، وكيف تعاملت الحكومات العراقية معها بعد سقوط النظام السابق في نيسان 2003 ، والجهود التي بذلت وما زالت من أجل انقاذها من التهميش والنسيان ) .
الحلقة الثالثة
ذكرنا في الحلقتين الماضيتين أن جرائم النظام السابق المتنوعة ومصادرته للحريات في العراق كشفت عن وجه إجرامي قبيح لحزب البعث الحاكم ، فأثر ذلك بشكل كبير على مصداقية النظام البعثي وأهليته في استمرار حكم العراق ، وراحت الكثير من حكومات العالم تشعر بالحرج من إقامة علاقات طبيعية معه ، وعندما حصلت أحداث 11 سبتمر وتحركت الإدارة الأمريكية باتجاه إسقاط النظام ، لم تجد تلك الرغبة الأمريكية معارضة دولية أو إقليمية تكفي لتغير قناعة الأمريكيين في تنفيذ مشروع التغير . لذا فإن دماء شهداء المقابر الجماعية تكون قد ساهمت إلى حد كبير في عملية التغيير ، وهذا يعني أن الحكومات التي توالت على العراق بعد ذلك تكون مدانة لتلك الدماء ، وأن استحقاقات وطنية وشرعية وإنسانية تقع على مسؤولي تلك الحكومات في أن تتعامل مع ملف تلك الدماء بوفاء ، وليس من شك في أن الاهتمام بهذا الملف الإنساني قرينة تثبت أو تنفي إخلاص المسؤول أو عدمه لأمته وشعبه ولعقيدته ، وكان ينبغي على الحكومات إذن أن تبادر منذ الأيام الأولى بالقيام بخطوات جدية وفاءا منها للشهداء ولذويهم من أرامل وأيتام وأباء وامهات ، وهذا ما تفعله بل وفعلته كل شعوب العالم مع شهدائها التي راحت ضحية لأنظمة ديكتاتورية شمولية مشابهة لما حصل في العراق . ناهيك من أن أغلب شعوب العالم التي تعرضت لإبادة جماعية كالشعب اليهودي ورواندا وكبمبوديا والبوسنا والهرسك وغيرها قد عملت ما بوسعها لتثبيت تلك الجرائم في الوجدان الشعبي والعالمي لتضمن حقوق الأمة وضحاياها ، وقد استطاعت بعض تلك الشعوب مثل اليهود من خلال أداءها الجيد كما ذكرنا ذلك من قبل في الحصول على الكثير من المكاسب الستراتيجية وتحقيق أهداف كبيرة بفضل دماء ضحاياها .
وقبل أن أتناول ما فعلته أو لم تفعله الحكومات الإتحادية العراقية ، ينبغي أن أسأل سؤالاً كبيرا مهماً حول مسؤولية الأمة ومؤسساتها الحكومية والمدنية اتجاه هذا الملف الإنساني الخطير ، بعد أن هيأ الله سبحانه وتعالى من ينقذ هذا الشعب من نظام حزب البعث الظالم ويفك كامل قيوده .
( هل بادرت الحكومات الإتحادية المتعاقبة منذ مجلس الحكم ، وتشكيل أول حكومة انتقالية في 31 آب 2003 ، وحتى انتهاء ولاية حكومة نوري المالكي في آذار 2010 ، إلى التعامل مع ملف شهداء المقابر الجماعية كما ينبغي ، أو كحد أدنى مما ينبغي أن تفعله من استحقاقات وطنية وشرعية وإنسانية ؟ ولماذا لم يبادر الشعب العراقي وخاصة في الوسط والجنوب باعتبار أن غالبية الضحايا من تلك المناطق ، إلى مطالبة الحكومة باسترداد كرامتها وحقوقها التي سلبت من قبل النظام السابق من خلال تلك الجرائم اللاإنسانية ؟ وهل قامت منظمات حقوق الإنسان في العراق بواجبها اتجاه ملف شهداء المقابر الجماعية ؟ ) .
من خلال تعايشي المستمر مع الملف لم أر أي خطوة ذات أثر تم العمل بها من أجل تنفيذ الأمور المهمة ، والتي ينبغي أن تبادر بها الحكومة باعتبارها معنية بتنفيذ الدستور وتحقيق مصالح وإرادة الشعب والحريصة على تنفيذ مشاريعه المختلفة ومنها الإنسانية ، وأنا هنا عندما أتحدث عن المهام التي ينبغي القيام بها إنما أعني مهام ستراتيجية كبيرة في الداخل والخارج وليس تلك التي تتعلق بتعويض بعض عوائل الشهداء مبلغا من المال أو قطع أراضي أو تخصيص رواتب تقاعدية لبضعة آلاف من ذوي الشهداء ، فهذه الأمور وما يشبهها مما تقوم بها مؤسسة الشهداء هي من بديهيات ما يجب أن تفعله الحكومة ، لكن الذي أعنيه هو القيام بمهام أخرى ذات أبعاد كبيرة ، يمكن حصرها بما يلي :
أولاً : جهة تتبنى مسؤولية ملف المقابر الجماعية :
تشكيل مرجع ذات صلاحيات وقدرات مالية كافية للنهوض بمسؤولياتها في تنفيذ المشاريع المختلفة التي تغطي جوانب الملف المختلفة والتي تتعلق بالضحايا كالاهتمام بمقابرهم والقيام بإجراءات تحفظ لهم تضحياتهم وتكرمهم وتقوم بتعويض وتكريم ذويهم من خلال إصدار القوانين الخاصة بذلك ، تبدأ تلك الإجراءات بإحصائية دقيقة للضحايا وذويهم وبما يتعلق بقضيتهم وانتهاءاً بإصدار القوانين المختلفة والتي تتضمن كل ما يتعلق بحقوقهم المادية والمعنوية ، الوطنية والشرعية والإنسانية ، وقد اقترحنا أكثر من مرة على الحكومة الإتحادية ( في لقاءات مع مدير مكتب رئيس الوزراء ) ، أن تشكل لذلك وزارة أو هيئة وطنية عليا ترتبط ماليا وإداريا بمجلس الوزراء . وثمة إشكال قد يطرح نفسه ، وهو أن هناك أطراف ذات بعد مؤثر في المعادلة السياسية تنظر إلى الإهتمام بملف المقابر الجماعية على أنه إدانة لها بسبب علاقتها الطائفية بالنظام السابق ، وبالتالي فإنها سوف لن تسمح للحكومة في أن تشكل وزارة خاصة بالمقابر الجماعية ، وربما تسعى إلى عرقلة المشروع داخل البرلمان أثناء التصويت . وتشكيل هيئة عليا لنفس الغرض سوف يواجه التحدي نفسه لأن ذلك يتطلب موافقة البرلمان أيضاً . ونحن نرى أن هذا الإشكال لايسقط حق الضحايا في العمل الجاد من أجل تحقيق هذا الهدف الإنساني المقدس ، كما أنه لا يسقط المسؤولية كاملة عن رقاب المعنيين بها ، فالشعب العراقي ما زال يعاني من وجود ممثلي لحزب البعث بمسميات أخرى تشترك بقوة في الحكم وتمارس ضغوط كبيرة على السلطتين التنفيذية والتشريعية ( ولحد انتخابات آذار 2010 ) من أجل أن تمنعها من أن تعمل بواجبها في معالجة هذا الملف ، والذي يؤسف له أن تلك الضغوط كانت إحدى الأسباب التي جمدت العمل بهذا الملف وأضرت به إلى حد كبير ، وقد شجع تلك الأطراف على التشكيك بجرائم المقابر الجماعية والعمل على طمسها ، عدم تحمس الحكومة في تبني الملف ، وراحت تغمض عينيها عنه ، ونعتقد أنه لو ثمة نوايا حسنة وإصرار على العمل بهذا الإتجاه فسوف لن يكون لأي طرف معترض ذلك الأثر الذي يمنع وبالشكل الذي نراه من قيام الحكومة بواجبها. ولذا نرى أن من حق الشعب العراقي بل ينبغي عليه أن يطالب الحكومة بالتعامل مع قضيته هذه وفق متطلبات مصالحه وليس مصالح أعدائه . وهذا يعني أن أي قصور من قبل الأمة في معالجة مشاكل الملف ( وكما هو حاصل لحد الآن ) يعني أن ثمة خلل ما في فهم الأمة لقضاياها الكبيرة والخطيرة ، وأن ثمة اسباب يجب العمل الحثيث لمناقشتها وإزالتها ، ويتطلب من النخب المخلصة أن تتحرك للتوعية وللإصلاح ، كما أن أي قصور وتلكؤ من قبل ممثلي الأمة سواء في البرلمان أو الحكومة ( وكما هو حاصل أيضاً ) في العمل بشكل صحيح في التعامل مع الملف ، يعني خيانة للأمة وللعقيدة ، فعلى الأمة من خلال نُخبها المخلصة والكفوءة أن تبادر إلى حث الحكومة على العمل بواجباتها وفق ما تمليه مصالح الأمة وكما ينبغي ، بعيدا عن المصالح الحزبية وعن المجاملات والمداهنات أو المصانعة التي عاشتها العملية السياسية خلال السنوات السبع الماضية .
ثانياً : تشكيل لجنة للبحث عن المقابر الجماعية :
لاأستطيع أن أضع تفسيرا أو اسبابا معقولة يمكن من خلالها تبرير إحجام الحكومات الإتحادية عن تشكيل مجرد لجنة للبحث عن المقابر الجماعية ، مع علم الجميع أن هناك الآلاف من المقابر تتوزع على طول وعرض البلاد ، وأن هذه المقابر سوف تتعرض لأكثر من خطر بسبب عدم وجود لجنة بحث تعمل للوصول إليها والشروع بالإجراءات اللازمة التي تستوجبها الأعراف الوطنية والإنسانية والدينية ، فعدم وجود مثل هذه اللجنة هو ضياع تلك المقابر التي تقع على حدود المدن بسبب زحف التقدم العمراني عليها ، وهذا يعني إخفاء كل تلك الجرائم إلى الأبد . أما المقابر التي تقع في المناطق النائية فتقادم الزمن عليها يخفي معالمها شيئا فشيئا وهذا يعني صعوبة اكتشافها ، واختفاء معالم الجريمة التي يستوجب الحرص عليها لأغراض جنائية ، فالمقبرة الجماعية وفق القوانين الدولية والمحلية جريمة مكتملة الأبعاد ( ضحية ومكان ارتكاب الجريمة وجانٍ ) ، وأبقاء هذه الجريمة بعيدا عن التحقيق لفترة أطول يعني إضعاف الأدلة الجنائية التي تقودنا إلى الجاني ، وهذا الأمر يشكل ظلامة كبيرة للضحايا وذويهم ، واي إهمال يؤدي إلى هذا الضياع هو بحد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون ، إذا ما كان لدى الشعب وعي وثقافة تؤهله للمطالبة بحقوقه .
والغريب في الأمر أن العراق البلد الوحيد من بين بلدان العالم التي تعرضت للتطهير العرقي والإبادة الجماعية ، ولم تبادر حكومته للإسراع في إجراءات البحث عن المقابر الجماعية ، فأما المقابر التي اكتشفت لحد الآن ، فقد تم اكتشافها عن طريق الصدفة من قبل عوام الناس كما أن هناك أشخاص يحتفظون في ذاكرتهم لأماكن تم فيها دفن ضحايا للنظام السابق ، بادروا إلى إخبار الجهات الرسمية عنها ، إضافة إلى ما تم الإخبار عنه من قبل القوات الأمريكية أو بعض المنظمات الإنسانية الأجنبية أثناء تجوالها في العراق بعد سقوط النظام . وكان المفروض أن تبادر السلطات العراقية بعد سقوط النظام مباشرة – وليس ثمة ما يمنع ذلك – إلى تأسيس لجنة متخصصة في البحث عن المقابر الجماعية يتم شيئا فشيئا تطوير قابلياتها اللوجستية والمالية لتسابق الزمن في اكتشاف المزيد من المقابر الكثيرة التي ما زالت مجهولة لحد الآن ، لكن لم يحصل ذلك حتى مع تحسن الأمن وتعاقب أكثر من حكومة على إدارة البلد ، ونحن نعتقد أن فشل الحكومة في ذلك يعد إخفاقا إنسانيا وتقصيراً في مسؤولية الدولة اتجاه الشعب . ومن السلبيات التي خلفها الإخفاق الحكومي أن أغلب المقابر الجماعية التي تم اكتشافها بشكل عشوائي تم العبث بها ولم يتم نبشها وفق المعايير العلمية المعمول بها في أماكن أخرى من العالم ، مما عرض الأدلة الجنائية إلى الضياع وهذا الأمر يصب في صالح الجناة الذين شاركوا في عمليات القتل والدفن ، وهم ما زالوا طلقاء وموزعين على دوائر الرسمية ولعل البعض منهم تقلد مناصب رفيعة في الدولة .
لم يتم لحد الآن اكتشاف أكثر من 300 مقبرة ، فيما تذهب التقديرات إلى وجود آلاف المقابر مما تحتوي على ضحيتين أو أكثر تم قتلهم ودفنهم بشكل فوضوي . وفي مقارنة بسيطة مع ضحايا المقابر الجماعية في البوسنة والهرسك يمكن لنا أن ندرك مدى خطورة التقصير في عدم تشكيل لجنة للبحث عن المقابر الجماعية في العراق .
لقد عرَّفت القوانين في البوسنة والهرسك المقبرة الجماعية على أنها : ( المقبرة التي تحتوي على أربعة جثامين ما فوق لضحايا دفنوا ليس وفق الأعراف الشرعية أو الإنسانية المتداولة ) . ولذا فإن البوسنيين أكتشفوا مايقرب الـ 500 مقبرة حسب التفسير أعلاه . أما المقابر التي تحتوي دون أربعة جثامين ، فإن المصادر البوسنية تؤكد أنها اكتشفت لحد الآن 3800 مقبرة . علما أن التقديرات لعدد المدفونين في مقابر جماعية في البوسنة والهرسك هو 30 ألف ضحية .
أما في العراق فقد عرَّفت المادة (2/3) من قانون حماية المقابر الجماعية رقم 5 لسنة 2006 المقبرة : (الأرض أو المكان الذي يضم رفات أكثر من شهيد تم دفنهم أو إخفائهم على نحو ثابت دون اتباع الأحكام الشرعية أو القيم الإنسانية الواجب مراعاتها عند دفن الموتى …) ووفق هذا التفسير فإن المقابر التي تم التعرف عليها من قبل العوام لاتزيد على 300 مقبرة . وهذا العدد يعتبر رقما ضئيلاً إذا ما أدركنا أن التقديرات الأولية تشير إلى وجود أكثر من 500 ألف ضحية تم دفنها في مقابر جماعية خلال فترة حكم النظام البعثي السابق . وإذا ما حاولنا الإستفادة من التجربة البوسنية فإن الضحايا فيها يقدر بـ 30 ألف وهو أقل من 1.8% مما هو في العراق من ضحايا، ومع ذلك فقد تم أكتشاف 3800 مقبرة ، مما يجعلنا نعتقد بوجود عشرات الآلاف من المقابر موزعة في أماكن متفرقة في المحافظات العراقية .
يتبع الحلقة الرابعة إنشاء الله