الثلاثاء، 24 أغسطس 2010

غزة بين الظلام والحصار والحر


kolonagaza7

د. مصطفى يوسف اللداوي

ظلامٌ دامس، وانقطاعٌ دائمٌ للتيار الكهربائي، وحصارٌ مشددٌ محروسٌ بالأسوار والأسلاك والجدران، وحرٌ لاهبٌ تجود به السماء، وتتفضل به الشمس، ولا تبخل به الطبيعة، معاناةٌ ثلاثتية الأبعاد، عميقة الجذور، قادرة على النفاذ إلى كل مكان، والوصول إلى كل الناس، تتضافر كلها لتترك في الأرض وعلى السكان أثراً، خاصةً في ظل شهر رمضان المبارك، الذي صادف هذا العام ارتفاعاً غير مسبوقٍ في درجات الحرارة، وتغيراً في الطقس العام مغايراً لما سبق في العقود الأخيرة، فتميزت أيام شهر رمضان بسخونةٍ عالية، وحرارةٍ لاهبة، وشمس محرقة، وعرقٍ يتصبب، ورطوبة تتزايد، فاكتوى بها سكان قطاع غزة أكثر من غيرهم، وعانوا من لهيبها أكثر من سواهم، فتفاقمت معاناتهم، وازدادت عذاباتهم، ولكنهم قد رضوا بقضاء الله وسلموا بحكمه، ولا يعترضون على نواميسه في الخلق، ولا قوانينه في تسيير الحياة، فهذا الطقس الحار قضاءٌ من رب العباد، يقبلون به ويستجيرون في يومهم الحار من لهيب وحر جهنم يوم القيامة، ويسألون الله عز وجل أن يقيهم حرها ولفحها يوم القيامة.
ولعل أشد معاناة سكان قطاع غزة يسببها الاحتلال الإسرائيلي بحصاره للقطاع، ومنعه من التواصل مع عمقه الفلسطيني، أو مع أشقاءه العرب، سفراً أو تجارة، ولكن الغزيين المنزرعين في أرضهم كالأشجار، قد تعودوا على الحصار، وتعايشوا معه، وهو بالنسبة لهم أمر طبيعي، يتوقعونه وما هو أشد من الاحتلال الإسرائيلي، الذي يتربص بهم، ويتآمر عليهم، ولا يهمه معاناتهم، ولا يفكر إلا في تعميق أحزانهم، ولا يساهم إلا بما يزيد الفرقة، ويكرس الانقسام، فقد اعتاد أهل غزة على الحصار الظالم الذي فرض عليهم، وتأقلموا معه، وتعايشوا مع قسوته، بل انتصروا عليه، وأفشلوا صناع الحصار وبناة الجدران أهدافهم، وأفقدوهم غاياتهم المنشودة، ولم تعد شكواهم من الحصار إلا سياسية، واعتراضهم على الجدران إلا لأسبابٍ إنسانية، وسعيهم لإزالته لحقهم في حدودٍ مفتوحة مع مصر، وارتباطٍ حيوي بأرضهم وشعبهم في الضفة الغربية، وعموم فلسطين، ولكنهم لم يخضعوا أمام الحصار، ولم يتنازلوا لعدوهم عن ثوابتهم لتجنب ما سببه الحصار، وصمدوا في وجهه أكثر من أربعة أعوام، وقد اجترحوا لخرق الحصار حلولاً، ولتجاوز مفاعيله السياسية والأمنية أحابيلاً، وجلبوا لقطاعهم الحبيب كل ما يحتاج إليه ويتمنى، متحدين إرادة الدول العظمى، ومتجاوزين مساعي دولة الاحتلال، وكافة الجهود المتضافرة معه التي تسعى لاخضاع سكان قطاع غزة، وقد أثبت الغزيون للعالم أجمع أن إرادتهم أقوى من الحصار، وأنها أمضى من أي سلاح.
ولكن انقطاع التيار الكهربائي المتعمد، الذي جاء في هذه الظروف المناخية العصيبة، أضر بمصالح الناس، وعقد حياتهم، وتسبب في تلف طعامهم، وحرمهم من شرب الماء البارد، وجعل الحصول على شربةِ ماءٍ بارد تبلل العروق أمرٌ مستحيل، في وقتٍ تنعم فيها مناطق أخرى بنعمة الكهرباء، التي تبدد الظلام، وتلطف من حرارة الجو، وتيسر الصيام، وتخفف من حدة العطش، ولكن أهل غزة قد حرموا هذا كله، وقد حرمت مستشفياتهم من التيار الكهربائي، فلا مكيفات تلطف حرارة الجو على المرضى، ولا قدرة على تشغيل الأجهزة الطبية المختلفة، كما توقفت بانقطاع التيار الكهربائي معامل القطاع البسيطة ومصانعهم، ولم تتمكن ورش العمل من مزاولة نشاطها بسبب انقطاع التيار الكهربائي المستمر، وتوقفت مضخات المياه عن العمل، فلم تعد تصل البيوت في قطاع غزة مياه الشرب الشحيحة في أصلها، كما تعطلت مختلف عمليات الصرف الصحي، وتعطلت كل مناحي الحياة التي أصبحت تعتمد في تشغيلها على التيار الكهربائي.
تأفف المواطنون في قطاع غزة، وصدحوا بأصواتهم عالياً، وصخبوا في شكواهم، وناشدوا كل صاحب ضميرٍ حي أن يبذل وسعه في تجاوز هذه المحنة، وفي حل هذه الأزمة، رحمةً بالأطفال والصغار والنساء والشيوخ والمرضى، ونادوا كل مسؤولٍ ألا يستخدم معاناة الناس في تمرير شروطٍ سياسية، أو في إملاء مواقف حزبية، وأن ينأى بسياسته عن حاجات الناس ومطالبهم، وألا يوظف حق المواطنين في التيار الكهربائي في فرض رؤى سياسية معينة، فالظرف والوقت والحاجة لا تسمح بالمساجلة، ولا بتحميل كل طرفٍ للآخر مسؤولية معاناة الناس في غزة، فإن كان القرار فلسطينياً فمن العيب أن نتأخر عن حل المشكلة ومحاصرة الأزمة، فإن كنا نملك مفاتيح حل الأزمة، فلنعجل ولا نتأخر، لئلا يأتي وقتٌ نخسر فيه أنفسنا قبل غيرنا.
قدر قطاع غزة أن يكون دوماً على موعدٍ مع المحنة والابتلاء ، ومواجهة تعديات الاحتلال، والتصدي لمؤامرات الخصوم والجيران، فما أن يخرج من محنة، ويتعافى من أزمة، حتى تواجهه صعابٌ أخرى، ويدخل في تحدٍ مع معاناةٍ جديدة، تطال مختلف جوانب حياته، ويتأذى منها كل مواطنيه، ويشكو منها كل بيتٍ في رحاب القطاع الضيق المساحة، المكتظ سكاناً، ثم لا نجد إزاء هذه المحن والخطوب التي ينوء بحملها قطاع غزة، إلا أن ندعو الله أن يكون في عون أهلنا، وأن يقف معهم في معاناتهم، ويخفف عنهم آلامهم وأحزانهم، وأن يكفكف الدمعة من عيون ومآقي أطفالهم، فليس لسكان غزة بعد الله أحد، يشعر بمعاناتهم، ويستجيب لشكواهم، ويسمع دعاءهم، ويتلطف بهم برحمته، ويهيئ لهم الأسباب التي تخفف أحزانهم وألامهم، وتسكت جوع أطفالهم، وتسكن ألم مرضاهم وجرحاهم، وتمنح أمهاتهم صبراً واحتمالاً، فالله عز وجل وحده هو الذي يكلأوهم برعايته وحفظه، ويمن عليهم بالصبر والثبات، أما غيره سبحانه فيقف مراقباً، أو شامتاً، أو محرضاً، أو مشاركاً في المحنة، ومساهماً في المصيبة، ومعيناً على تعميق الأزمة وزيادة المعاناة، غير مبالٍ بمعاناة الناس، ولا بعذابات المواطنين، ولكن هذه المحن والابتلاءات مهما عظمت في حرها، أو تمادى العدو في ظلمه واعتداءه، أو تأخر الأخوة والأشقاء عن اللقاء والاتفاق، فإنها لن تزيد أهل قطاع غزة إلا ثباتاً على أرضهم، وتمسكاً أشد بحقوقهم، وصدقاً في حرصهم على وحدة فصائلهم، وتلاقي جهودهم، واتفاق كلمتهم، لتحقيق أهدافهم، نوراً قبل التحرير، وتيار كهرباء متصلٍ يحميهم من حر الصيف وقر الشتاء.

دمشق في 24/8/2010

مشاركة مميزة