kolonagaza7
عاد نعمان
هذا ما حكاه لي قريبي باختصار ضاحكًا (((باكرًا، في صباح يوم ... رن تلفون بيتنا، كانت في الطرف الآخر من المكالمة مدام كريستال الفرنسية الأصل(زوجة أحد أقربائنا)، كنت حينها نائمًا فطلبت أن يبلغوني بحاجتها لمساعدتي بموضوع مهم جدًا – نستطيع أن نقول عنه مصيري – ، عاودت الاتصال بها بعد أن استيقظت، طبعًا لم أفهم الكثير منها عبر التلفون، فلغتها العربية بعافية قليلًا تشبه إلى حد بعيد لغة المستشرقين الخواجات في البلاد العربية، فطلبت مني عصر ذات اليوم أن أزورها في بيت عمتي لتتفق معي على كل شي لطالما كانت هذه المرأة راقية بتعاملها، مشرقة كشمس الربيع، تفوح منها الروائح الباريسية العاطرة، أنيقة تعكس تمامًا ما هو معروف عن السيدات الفرنسيات، إلا أنني وجدتها هذه المرة ذاهبة اللون، شاحبة الوجه، مرهقة وكأنها لم تنم منذ أيام، خسرت من وزنها بعض الكيلو جرامات لذلك بدت ضعيفة وكأنها لم تأكل منذ فترة، ليست بذلك الجمال والتألق الذي تعودت عليه ... أمسكت بكفي وقالت بحزن شديد يكاد يطحنها طحنًا ،،" شوف خبيبي ... ma mere(أمي) مريضة في paris(باريس)، لازم أروح أزورها في france(فرنسا) آخر الـ somain(الأسبوع). mais(لكن) تعرف عندي problem(مشكلة)، بوسي حقي الـ chat(قطة) من يبقى معها؟، يأكلها ... يشربها ... يغسلها، تقدر تبقى معها؟ تنتبه لها بوسي خبيبتي ". طبعًا رفقًا بتلك المخلوقة الرقيقة (مدام كريستال) لم أتردد ووافقت على الفور، فنادرًا جدًا ما تجد معاملة لطيفة كهذه بل من المستحيل، أخذت إجازة من كل ما يخصني ويربطني به مواعيد، لا دراسة لا عمل لا واجبات تجاه بيتنا، تفرغت تمامًا لتنفيذ مهمة من تستبدل في كلماتها حرف الـ (ر) بحرف الـ (غ) وبالفعل تواجدت في بيت مدام كريستال نهاية الأسبوع لأتولى رعاية بوسي خلال 10 أيام قادمة منذ يوم سفرها حتى يوم عودتها من فرنسا بعد أن تطمئن على أمها المريضة هناك. كدت اسقط عندما حملت بوسي لأول مرة، وكأنني حملت كلب وليس قط، فرصة رائعة وشرف لم يزرني قبلًا بأن ألتقي أنظف قطة رأيتها، شعرها أبيض كبياض الثلج ممشط بعناية، يفصل بين شعر شاربها فضاءات متساوية، عيناها زرقاوان، ذيلها كثيف منتشي. لم أأخذ الكثير من الوقت لأستغرب، فلقد أوضحت لي مدام كريستال أن بوسي عزيزة عليها جدًا وكأنها أبنتها، جلبتها معها من فرنسا منذ آخر زيارة قامت بها، بعد أن وجدتها لحمة حمراء ملتفة حول نفسها بجوار سور منزلها في ليلة ممطرة باردة فاجأتني بظرفين قدمتهما لي قبل وداعها، أحدهما يخصني والآخر يخص بوسي - مكتوب اسم كلانا في واجهتهما - ، وبعد أن غادرت مدام كريستال البيت باتجاه المطار، فتحت ظرفي فوجدت بداخله 10 ألف ريال كمكافئة لي ومثلها مرتين 20 ألف بداخل ظرف بوسي، ورسالة كتب فيها بعربية ركيكة فهمت منها ما يلي "بوسي أمانة برقبتك، أنا ما عندي أولاد، بوسي هي ابنتي، انتبه لها رجاءًا". اعتقدت في البداية أن تعتني بقطة أسهل بكثير من أن تكون جليس طفل لترعاه، إلا أنني وجدته أصعب بكثير مما تخيلته، فلبوسي نظام غذائي خاص، تتناول الطعام في 4 أوقات ثابتة المواعيد لا تتغير، لا تصدر أمعاءها ذلك الصوت كبقية أمعاء القطط فهي لا تأكل سوى التونة والساردين المعلبين والسمك المجفف، وعند إعلانها عن رغبتها بقضاء حاجتها أجدها تتحرك ذاهبًا وإيابًا تصدر أصوات غريبة أمام باب الحمام المغلق، هناك خزانة صغيرة أنيقة تحتوي إكسسوارات خفيفة وملابس خاصة تعود لبوسي وألبوم صور بغلاف وردي اللون يحوي ذكريات جميلة مع مدام كريستال، محدد موعد ذهابها إلى النوم في غرفتها الخاصة وعلى سريرها القطني الدافئ بعد يومين من مغادرة مدام كريستال مرضت بوسي كثيرًا، إلى حد أنها توقفت عن الحركة وتدريجًا بدأت تمتنع عن الأكل مع شرب القليل من الماء بين حين وآخر، حتى أنها صارت ترفض شرب الحليب وتكتفي بالتمدد بتراخي على فراش مدام كريستال وكأنها تسترجع لحظات مصاحبتها لها، لم يكن بينهما يوم أو يومين بل عِشرة أيام من الود والمحبة المتبادلة. اعتقدت في البداية أنها وعكة صحية بسيطة بسبب البرد وستزول قريبًا، إلا أن حالتها ازدادت سوءًا، فقررت أن أعرضها على طبيب بيطري مختص بالحيوانات، وبعد بحث طويل لم أجد من يهتم بأمور القطط ويفهم بأمراضها، فجميع المختصين البيطريين في المدينة لا يفقهون سوى بأمراض المواشي. واصلت رعاية بوسي بكل اجتهاد واهتمام، استنفذت طاقتي حتى أنني كنت نادرًا ما أنام وأبقى ساهرًا بجوارها، وكأنني أهتم بأحد أخوتي الصغار عند غياب أمي. لم أشعر يومًا بمسئولية كتلك التي شعرت بها، شعور غريب لم أعهده قبلًا، بجد كنت سعيدًا جدًا وفي صباح اليوم التاسع وقبل يوم من عودة مدام كريستال، استيقظت على آخر أنفاس بوسي وكأنها تطلب أن ترى مداد كريستال قبل أن تودع وتفارق الحياة. لم يكن لها ذلك فعلى الفور توفيت، نعم ماتت بوسي ... أنظف وأظرف قطة قابلتها في حياتي أو ربما في اليمن. حزن رهيب اعتراني حينها لدرجة أنني بكيت من كبر القهر. لم يكن لي قلب أن أحركها من مكانها، تركتها حتى تراها مدام كريستال لآخر مرة. بعد عودة مدام كريستال من السفر وعلمها بخبر وفاة بوسي، انفجرت بالبكاء والصراخ، ولم تتوقف حتى رأتها ممدة على فراشها ميتة ليغمى عليها حالًا، لم تفق إلا بعد ساعات، مسكينة فالصدمة كانت قوية وما زالت تراودها كل وقت وآخر. وفي اليوم التالي قمت بدفن المرحومة بوسي – رحمة الرب تغشاها – في أقرب تربة لبيت مدام كريستال، لم تستطع أن تحضر مراسيم الدفن من شدة تأثرها. عندما سمع الدكتور مدام كريستال تهذي باسم بوسي، طلب منا أن نحضر بوسي لها علها تجد عافيتها، لم يكن يعلم أن بوسي هي قطة مدام كريستال المدللة والتي كانت بمقام طفلتها الذي لم تنجبها إلا أنها ماتت مرت 3 أيام على موت عزيزتنا بوسي، ومدام كريستال تلبس الثوب الأسود، لا تتوقف عن النواح، لا يفارق الدمع خدها، لا تعرف الأكل ونادرًا جدًا ما تشرب. كانت بوسي بالنسبة لمدام كريستال تمثل الابنة التي لم تنجبها والزوج الذي يسافر كثيرًا للعمل والأهل والأقارب في فرنسا، صارت مدام كريستال تراني السبب في بعادها عن بوسي، تعبر عن غضبها كلما قابلتني بالصراخ في وجهي بصوت مبحوح مؤشرة بيدها صوبي "أنت قتلت بوسي، ما كنت تحبها، حرام عليك، أنت مش إنسان". أكد لي العلاقة القوية بينهما أكثر بقاء مدام كريستال في بيتها حتى اليوم الأربعين من وفاة بوسي، وتعليقها صور بوسي على جدران غرفتها وفي حلقة سلسلتها الذهبية ووضع بعضها تحت مخدتها، لتمسي وتصبح عليها. حاولت بمساعدة أخوتي أن نساعدها على تخطي أزمتها، اعتقدنا أن وجود قطة أخرى في حياتها قد تنهي ذلك الحزن وتعيد مدام كريستال إلى حياتها الطبيعية، وبالفعل جلبت لها قطة من القطط التي تعيش وتتربى عند صديق محب لها، فأعطاني أجملها وأكثرها دلالًا. وعندما قدمتها لـِ مدام كريستال، احتضنتها بحنان وقالت باكية بمرارة "أنت ما تفهم، بوسي كانت ma fille (ابنتي) كانت ma mere(أمي). بوسي خلاص ماتت، راحت عند mon adieu (إلهي)، بوسي واحدة وماتت، راحت عند الله". كنا نرى أن حزن مدام كريستال مفرط وفي غير محله إلا أنه بداخل إنسانها كان كبير بحجم فقدان أحد أفراد أسرتها))) ذات مساء، شدني برنامج يعرض أفلامًا وثائقية عن الجمعيات والمنظمات التي تهتم بالحيوانات على قناة كوكب الحيوان(animal planet) في عالم الغرب الملحد - كما نصفهم - ، وغفت عيناي على مقطع يحكي قصة مجموعة من الكلاب، حبسها مالكها في البيت ليسافر في إجازة استجمام دون أن يترك لها ما يكفي من الأكل والشرب، على الرغم من أنها ترافقه كل سنة بسفره، إلا هذه السنة فالظروف لم تكن تسمح بذلك. كنت شديد التعب إلا أنني قاومت النوم لأعرف نهاية القصة، تابعت كيف تم الإفراج عن الكلاب ومعالجتها نفسيًا وجسديًا، وكيف تم ملاحقة مالكها؟ واعتقاله، ومن بعدها مقاضاته ومحاكمته من قبل السلطات المحلية في مدينته الصغيرة الأقرب لأن تكون قرية. تتقدم في الأخير سيدة كبيرة بالسن تعيش وحيدة في منزل كبير بطرف المدينة لتتبنى تلك الكلاب تعيسة الحظ والمسكينة على حد قولها في مقابلة نهاية البرنامج، وقعت السيدة على التزام بالحفاظ على الكلاب وتكلفت بدفع مصاريف علاجها ومبلغ التأمين، وبعد كل ذلك أدت القسم واليمين بأن تراعي الله بمعاملتها لها، وبقت السيدة تحت متابعة الجهات المختصة لفترة. لا أخفيكم سرًا أنني تمنيت وقتها أن أكون أحد تلك الكلاب في بلاد الغرب -الذين نقول عنهم كفار-، فبعد أن شبعوا واكتفوا من الحقوق والحريات، راحوا يمنحوها للحيوانات، ليطوروها ويرتقوا ويصلوا بها إلى مرحلة الإنسان بصفاته وخصائصه - على الرغم من عدم اقتناع الأغلبية بنظرية دارون"النشوء والارتقاء" - ، ولكنهم كعادتهم لا يرمون بالشيء الذي لا يتوافق معهم جانبًا إلا بعد أن يستخلصوا منه كل ما هو جميل ويمكن الاستفادة منه، فقد قام الغرب بإسقاط النظرية بطريقة غير مباشرة على الحيوان، فصار للحيوان ما للإنسان من حقوق ومتساوي معه في كل شيء حتى الحريات، يتمتعان بذات المنزلة والمكانة في بلاد العرب حصل عكس ما جرى في بلاد الغرب، فالعرب كفروا نظرية دارون وعكسوها ليثبتوا صحتها بطريقة مباشرة على الإنسان، وبوعي تام راحوا يحولوا الإنسان إلى حيوان، بتجريده تمامًا من حقوقه وتغييبه عنها، حتى أبسطها حقوق (حق الحصول على لقمة العيش) صار صعب المنال. واشغلوا أنفسهم بأمور تافهة، وساعدوا حكامهم وحكوماتهم في ذلك، وأعطوهم فرصة ليشغلوا البسطاء بحقوق أساسية تأتي دون مطالبة ملتزمين هم بها دوام جلوسهم على الكراسي، حقوق بديهية كفلها الرب من سابع سماء. فما بالكم بحق التعبير عن الرأي بحرية ودون تقييد. في أحد المقاطع في حلقة لاحقة من ذات البرنامج، تظهر قطة في فيلم مسجل محاولة أن تقول thanks (شكرًا) للأسرة الحاضنة لها تعبيرًا عن مدى سعادتها في كنفها، فلا تستغربوا إن صادفتم يومًا كلبًا فرنسيًا أو أمريكيًا يقول (كيف حالكم how are you?)، هنيئًا له فقد أخذ حقه في حرية التعبير عن مشاعره، لا بأس إن رديتم عليه "هو ذات الحق الذي سلب منا". أنا أكيد من أن أمنيتي بالتحول إلى كلب عقب مشاهدتي للبرنامج، كانت من جمال ورغد عيشة تلك الحيوانات من طيور وأسماك وذوات أربع وزواحف في ظل تلك المنظمات والجمعيات والأسر الحاضنة في عالم الغرب. ومع مرور الزمن بقيت اسأل نفسي كلما فقدت حقًا من حقوقي كآدمي ... كإنسان ... كبشر، متى سوف ألقى من يعنى بي ويهتم بمشاعري؟ أو ألقى على الأقل لقمة العيش دون مطالبة أو تعب غير مستحق. متى سأعيش بكرامة؟ لأول مرة في حياتي - الكرامة الحقيقية البحتة الغير الممتهنة. في الأخير توصلت إلى قناعة وبالسعي إليها سوف يتحقق لي كل ما تمنيته ألا وهي "أن أكون حيوان في بلاد الغرب أفضل وأكرم بكثير من أن أكون إنسان في بلاد العرب". بصدد الموضوع، تحضرني طرفة للأستاذ نعمان قائد(أبي) ... عن كلب مدلل يعيش برغد عند سيده الثري، فجأة ودون سابق إنذار مرض كثيرًا ذلك الكلب، عرضه سيده على عدة أطباء مختصين بالكلاب وأمراضها في الخارج، إلا أنه لم يلقى العافية، استسلم للواقع المر بأن موت كلبه صار قريب جدًا، فقرر السفر برفقته عدة بلدان ليقضي معه آخر أيامه قبل أن يودع الحياة، هبطت طائرتهما الخاصة في أكثر من بلاد، لم يشعر السيد الثري بفرحة كلبه واستعادته لصحته التامة إلا بعد أيام قليلة من هبوط الطائرة في أحد مطارات اليمن. ومن يومها وذلك السيد الثري ينصح أصدقائه الأثرياء الذين يملكون حيوانات مدللة بأن يسافروا بهم إلى اليمن؟!؟