الاثنين، 1 أغسطس 2011

حماة.. مسكونة بأحياء مهما حاولوا قتلهم



kolonagaza7

القبس

حماة - غسان سعود

هو نهر العاصي، يعرف من زار البقاع اللبناني طبيعة الناس الذين ينشأون على ضفتيه. هو العاصي وهي حماة: من يزورها مرة سيزورها كلما حلم أو فكر أو شعر بثورة. لم ينجز النظام خطته لمعالجة ثورتها بعد أما هي... فتنتظره.والده خاض التجربة السياسية في الحزب الشيوعي، الأمر الذي دفعه إلى النأي بنفسه عن السياسة. ورغم ذلك يجد نفسه اليوم على طرقات ريفية بين دمشق وحماة، يقل بعض الراغبين في استكشاف المدينة: عمل يوفر للأجهزة الأمنية السورية ذريعة لتذويقه بعض المر الذي جربه والده تسع سنوات. دخول حماة من الباب مستحيل من دون مباركة النظام الذي يمنع الإعلام الرسمي من دخول المدينة هذه الأيام، فكيف بالإعلام الخاص. لا بدّ من الشباك إذاً. والشبابيك كثيرة، فالمدينة – القلب السوريّ- مفتوحة على مختلف المدن السورية. والشبابيك تمتلئ بالمواد الغذائية المهربة إليها، وأيضا بالأسر المهربة منها. فعلى الطريق تسير باصات كثيرة وسيارات محملة بالعائلات الهاربة من اضطرابات الوضع الأمني صوب أماكن أكثر استقرارا.الاخضرار المحيط بمدينة نهر العاصي يلامس أطرافها. تاريخ المدينة في العصر الماضي يبيح لأهاليها المطالبة بأن تحمل مدينتهم اسم النهر الذي يقسمها الى قسمين. فجأة، تُحبس الأنفاس، نحن في المدينة: يمكن لأبنائها أن يصلو إليها بسياراتهم من دمشق، رغم الحصار المفروض عليها، ومن دون المرور بأي حاجز. يوقف السائق- القائد السيارة رافضا إعلام ضيوفه بالحي والشارع الذي غطّوا به خشية تمكن الأجهزة الأمنية من رسم خارطة للطريق الذي يمكن أن يوصلهم إلى هذه النقطة. وبعد بضع دقائق فقط يتصالح الشاب مع تحوله إلى دليل سياحي حقيقي.من حي الضاهرية نصل إلى حي الطوافرة في المدينة القديمة. وحماة تتألف من نحو ثلاثين حيا. ويبدو واضحا من إلقاء الشاب التحية والسلام على أهلها أن أبناء هذه المدينة الذين تقدرهم المراجع الرسمية بنحو مليون مواطن، يعرف بعضهم بعضا جيدا، ولا يخشى بعضهم من بعض، أو من اتصال أحدهم بالأجهزة الأمنية لإبلاغهم عن المندسين. يوم السبت الماضي كان في المدينة بعض حياة: فالمحال التجارية فتحت أبوابها، تتلاصق محال السمانة وكراجات تصليح السيارات مع نتافة الدجاج والجزار ومحال الخضر. قبل الاختلاط بالأهالي كانت الحياة تبدو طبيعية: مدينة قليلة الحركة، يشبه الحي بعض أحياء القاهرة في الصباح (قبل الازدحام)، وأحياء طرابلس في لبنان. هناك تشابه كبير بين العمارة في حماة، وتلك التي في طرابلس. تسمع تجاويد قرآنية، يدخل عليها صوت فيروز من جهة، وصوت مغنين بدو من جهة أخرى. وكل بضعة أمتار سيصادف الزائر مجموعة شبان يستفسرون من قائد الرحلة عمّا نفعله هنا، وعمّا إذا كانت «تنسيقية الثورة» تعلم بزيارتنا. أزياء النساء والمصاحف في مختلف المحال التجارية وصوت الأذان الذي يملأ الأثير يؤكد المعروف عن تديّن المدينة، فيما شبابها يحرصون منذ لحظة اللقاء الأولى بهم وحتى الأخيرة على التأكيد أنهم متدينون، لكن ليسوا أصوليين. أزياؤهم الرياضية (أميركن ستايل) تدعمهم وغياب المظاهر السلفية تؤكد كلامهم، فضلا عن أن المتشددين لا يسعون غالبا إلى إنكار ما هم عليه، لا بل على العكس من ذلك.ساعة وروايةالمحطة الأولى في أية زيارة لحماة، مهما كانت الحالة السياسية والأمنية، ستكون في الجامع الأعلى الكبير بعد المرور بالنواعير الشهيرة. يختصر المسجد الخامس في الإسلام بما مر عليه من حضارات متعددة تاريخ المدينة وحاضرها. فالمدينة التي ترسم المساجد الثلاثين جغرافيتها، وحدود أحيائها، تلتف حول «اللؤلؤة» المحاذي لقلعة حماة. هو الذي تهدم كغالبية جوامع المدينة عام 1982، وأعيد بناؤه عام 1991.لا حديث يكتمل في المدينة من دون ذكر تلك الأحداث المشؤومة. الناس هنا منعوا من دفن أحبتهم، ومن البكاء عليهم. لا بل اضطر الناس إلى الصفح عن المجرمين من دون أن يضطرهم أحد إلى الاعتذار أقله. يمر الوقت سريعا: للقصص– الجروح ساعة، للاستكبار الحاكم ساعة، للحقد الدفين والكره ساعة، وللوعيد ساعات. في حال وصول الغد إلى هذه البلاد، سيكون لشركات الإنتاج السينمائية زاد لا ينضب وروايات يظنها المخرجون خيالا. فلأكوام الجثث رواية، ولأولئك الذين أوقفوا صفا طويلا وأجبروا على قتل بعضهم البعض برصاصة واحدة في الرأس رواية، ولتلك التي شاهدت رضيعها ينحر لأنه سيكبر وينضم إلى الإخوان المسلمين رواية. لا علاقة إذن لما يُرى ويُسمع في هذه المدينة بما يُرى ويُسمع في أماكن أخرى من سوريا، سواء في اللاذقية أو الرستن أو درعا أو برزة.اليوم هو الأمسحماة... يصعب مقاطعة سيدة تنزف لسؤالها عن اليوم. واليوم هنا أمس لم يتسن له أن يكون غير ذلك. حاولوا، وكثيرا ما حاولوا، لكن لم يشأ النظام ذلك. حاولوا.. قبل بضعة أيام فقط وتحديدا يوم الخميس اجتمعوا - فعاليات المدينة - في مسجد السرجاوي، واتصلوا برئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، وصهر الرئيس السوري آصف شوكت، وطلبوا منه الإفراج عن مخطوفيهم، مبدين الاستعداد لأن يتقدموا بطلب ترخيص لتظاهراتهم السلمية. لكن النظام لا يشاء ذلك. فقد أتاهم الجواب واضحا: «لن نطلق سراح أي من المعتقلين وأنتم لستم في موقع يخولكم التفاوض. سبق أن جربتم وتعلمون معنى دخول الجيش إلى مدينتكم»!هنا تكمن داخل كل رجل مروءة وخشية، شجاعة وانكسار. وحده الحمويّ- ربما- لا يمكن سؤاله «لماذا تثور»؟ فالسؤال المنطقي الوحيد هنا هو «لماذا لا يثور»؟! هو الذي تعرض للقتل والخطف والسلب وأقصي عن المشاركة السياسية، ومُنع عن الوظائف الرسمية، وحُرم من الحقوق الأساسية، وصودر جواز سفره، وعُومل ثلاثين عاما كمواطن من الدرجة الرابعة. أوليس الإخوان المسلمون، لو ثبت انتماء المليون حموي إلى الإخوان، بشر أيضا؟حماة خائفةحماة خائفة، تسمع بعضها يقول: ريثما يستيقظ ضمير المدن الأخرى لنصرتها يكون الذين ماتوا قد ماتوا، وريثما تصل قوافل المجتمع الدولي لنجدتها تكون الجثث قد تحللت. فيما يعتبر بعضها الآخر الموت أفضل من هذه الحياة. والنظام بأسلحته الثقيلة وطائراته وإجراءاته الإدارية لا يترك مجالا للتفاوض مع من يعتقد أن الحقوق التي انتزعها المحتجون من النظام، سواء على صعيد اعترافه بشهداء المدينة، أو إرجاعه الأراضي المستملكة الى أصحابها، تكفي اليوم، ويمكن البناء عليها وضمان تنظيم النفس أكثر من أجل استعادة مزيد من الحقوق في الطريق لاستعادة المواطنة كاملة. كل ذلك من دون أن تضطر المدينة إلى خوض المواجهة الكبرى. وهناك من يرى أن ما يحصل اليوم أكثر خطورة من اقتحام الجيش للمدينة. فالترهيب الممارس عبر محاصرة المدينة، يترافق مع مداهمة الاستخبارات يوميا لعدة أحياء واقتحام المنازل فجرا لاعتقال الرجال. ووفق مصادر متعددة في المدينة تتراوح نسبة الذين يعتقلوا يوميا بين 4700 مواطن، تبقي أجهزة الأمن نصفهم تقريبا لديها وتطلق سراح النصف الآخر. كل ذلك يحصل من دون مبالاة جدية، سواء من المدن السورية الأخرى، أو من المجتمع الدولي، الأمر الذي يعطي السلطة فرصة تحقيق ما تريده من دون أن تعرض نفسها للملاحقة الدولية، أو أقله للانتقاد. ووفق أحاديث الشباب، فإن اعتقالات الاستخبارات تستهدف مجتمعهم لا هم. فيفترض أن السلطة تعلم أن عصب الحراك الشعبي وأعضاء التنسيقيات لا ينامون في منازلهم، وهي تهدف بالتالي من خلال الاعتقالات إلى إيقاف التعاطف الشعبي مع «التنسيقيات» والحماسة للمشاركة في التظاهرات.ترهيب الشعببمعنى آخر، النظام يريد ترهيب الشعب. واللافت في هذا السياق، وفق رواية أحد الشبان، أن الأمن يتجنب التصادم مع الشباب الذين يحرسون بعض الأحياء، ويكتفي بتنفيذ عمليات خطف ضد المواطنين، حيث لا يستوجب ذلك أي تصادم. فيما يرى آخرون أن استعدادات الجيش لم تكتمل، وكذلك الخطة العسكرية. وبالتالي فإن السلطة تتسلى بالاعتقالات الجماعية الآن ريثما تضع الخطة المناسبة. في وقت تبدو ثقة الحمويين كبيرة بأن الجيش السوري لن يقتحم مدينتهم، كما فعل في مدن سورية أخرى. ثقة يزعزعها قطع السلطة للمياه والكهرباء والانترنت عن المدينة منذ نحو أسبوع. ويتبين من بعض «زلات» الألسن في الحوار مع بعض الشبان الحمويين أن «التنسيقيات» أعدت خطة محكمة لتنجو المدينة، و «الثورة» السورية في حال دخل الجيش. ونجاح الخطة يرتبط بقدرة الحمويين على ضبط النفس، فتحاصر الدبابات بالورود والأرز، ويحرج الجيش، فإما يخرج أو يضطر عناصره إلى التبسم للكاميرات، جنبا إلى جنب المطالبين بإسقاط النظام. صورة تعكس آمال من يأملون أن ينتهي التحرك الشعبي في بلدهم بخير.وجهتا نظر عن فوردهنا في المدينة المحاصرة، تكتمل الرواية عن السفير الأميركي روبرت فورد. كان الأخير قد وصل إلى المدينة مساء الخميس 7 يوليو الجاري، عند الساعة الثامنة والنصف، وذلك بعد مروره بأربعة حواجز رئيسية تفصل بين دمشق وحماة. وتوجه موكب السفير مباشرة إلى فندق أفاميا الذي يتبع لسلسلة فنادق الشام الدولية، ويعتبر واحدا من أفضل الفنادق المصنفة خمسة نجوم في حماة. والمعروف، وفق أحد المواطنين، أن الفنادق السورية تعلم فورا الأجهزة الأمنية بضيوفها. وفي ظل انقطاع الكهرباء، قام الوفد بجولة سيّارة في المدينة، كما عقد مجموعة لقاءات شعبية، أكد في إحداها - وفق أحد المشاركين- أن الانتقال إلى الحرية والديموقراطية يتطلب تضحيات، لكن الشعب السوري ليس وحيدا، ولن يقف المجتمع الدولي متفرجا على هذا الشعب، وهو يتعرض للقتل. وفي المدينة وجهتا نظر بشأن زيارة فورد: واحدة تقول إنها تمت بناء على معطيات توافرت لإدارته رأت أن الزيارة ضرورية لإنقاذ المدينة من مجزرة. وأخرى تعتبر أن ضرر الزيارة كان أكبر من فوائدها، ولا سيما الاستقبال الشعبي الذي أتاح للنظام التشكيك بوطنية الحمويين. لكن، مع فورد أو من دونه، تقول المدينة إن لا علاقة لها بالسفراء، قبله خرجت بتظاهرة ضخمة، وستخرج من بعده.وجوب السرعة في التنقل من منزل إلى آخر، ووجوب التكتم تحول دون الإكثار من المشاهدات أو الشعور بالمدينة كاملة. «تنسيقية» الثورة في هذه المدينة تألفت قبل نحو ثلاثة أشهر، ضمت شبان من مختلف الأحياء، وحزبيين سابقين، سواء في الأحزاب اليسارية والناصرية والقومية، أو في الإخوان المسلمين. بدأت بستة أشخاص لتتسع لاحقا لنحو ستين، حرص من اختارهم على استحالة اختراقهم من قبل الأجهزة الأمنية. وفضلت «التنسيقية» أن تأخذ وقتها في الإعداد لتحرك المدينة. اختارت ساحة يعجز الأمن عن محاصرتها لوجود أحياء مكتظة على ضفتيها. تابعت وبدقة عدم اندساس مسلحين وسط المتظاهرين، وتفويت أية فرصة للسلطة لتجر المتظاهرين إلى تصادم. حاولت تجاوز التوتر التاريخي بين المدينة وريفها، ولا سيما بعد الإشكال الكبير الذي كاد يتحول إلى مجزرة إثر تعدي أبناء المدينة على مجموعات من الريف كانت تتظاهر دعما للنظام. نظمت الإعلام واخترعت «الإذاعة السيارة» التي وحدت صوت المتظاهرين، وحالت دون خروج هتاف استفزازي من هنا أو هناك. ووفرت مخزونا من المواد الغذائية التي تتيح للمتظاهرين الاستمرار عدة أسابيع في حال اشتد الحصار. وقد أوكلت «التنسيقية» لشابين مهمة التواصل مع الحمويين الذين ينزحون بعيدا عن المدينة باتجاه حلب وبانياس ودمشق ليكون هؤلاء شرارة لاحتجاجات جدية في مناطقهم في حال تعرض حماة لمزيد من الضغط الأمني.مدينة أحياءمغادرة حماة في ظل ما تشهده أبشع ما يمكن أن يطلب من صحافيّ. لكن شباب التنسيقية يفضلون ذلك، لا سيما إذا كان الصحافي غير سوريّ. فهم يستبشرون خيرا من انتهاء مسلسل المندسين الذي كان يعرضه التلفزيون السوري. ويريدون لرسالة مدينتهم أن تصل في ظل محاولة السلطة عزلهم. وهكذا قبل مغيب الشمس، تبدو المدينة مقفرة، لا ناس في شوارعها. سيسمع من يغمض عينيه ثواني صوت العاصي وطلقات رصاص بعيدة ونقاشات ثوار. مهلا، هذه ليست مدينة أموات، المنازل هنا مسكونة بأحياء؛ أحياء مهما حاولوا قتلهم.

مشاركة مميزة