الثلاثاء، 30 أغسطس 2011



kolonagaza7

زياد منى

لن نمل من القول، يوماً بعد يوم، إنّ أي برنامج للتغيير لا يضع القضايا القومية العربية، وفي القلب منها قضية استعادة فلسطين واستبدال الدولة العربية الفلسطينية الديموقراطية العلمانية بالكيان الصهيوني العنصري، يكون ناقصاً، بل قاصراً، ويكون المخططون له مدعاة للشبهة. عندما تقف «نخب» عربية تدعي عشقها للحرية ضد إدخال القضايا القومية في مقدمة برامج الحراك العربي الذي انطلق من تونس، لا بد لنا من رفض فهمها الأعوج للحرية، بل وحتى إدارة الظهر لأهدافها ونياتها وطموحاتها السياسية الحقيقية. كتبنا كثيراً من قبل عن أخطار الوقوع أسرى فخاخ وشراك مفردات لامعة يخطف بريقها الأبصار، ويعمي البصر. قلنا: علينا الإدراك أنّ الحرية لا تعني استبدال طاغية جاء بانتخابات «حرة وديموقراطية طبعاً»، بآخر استولى على السلطة بطرق أخرى. وقلنا إنّ المعنى الحقيقي للديموقراطية أعمق بكثير مما تشير إليه المفردة التي كثيراً ما أسيء إلى محتواها. ديموقراطية الغرب تعني النظام الرأسمالي التمثيلي، والحكم فيه ليس للشعب، بل للأحزاب ومموليها الرأسماليين، وفق مبدأ «تقسيم العمل»، وجوهره تسليع الأرض والسماوات وما بينهما وعليهما.يهدف الابتعاد عن التعامل المعمق مع القضايا القومية لتحويل شعوب أمتنا إلى قطعان من المواشي الساعية وراء الكلأ.
صحيح أنّ شعوب أمتنا تعاني الجوع والفقر والاضطهاد والإذلال على يد حكام أكثرهم يعاني عقدة نقص تفوق الرجل الأبيض، وهذا جوهر الصراع الوطني.
العالم تغيّر، والغرب الاستعماري، ممثلاً بمنظمة حلف شمالي الأطلسي العدواني، وما يتبعه من منظمات أخرى انبثقت من الحكومات الغربية المشاركة فيه، انتصر في الحرب الباردة واستأنف سعيه المحموم للسيطرة على العالم.
للتذكير، ادعى الغرب الاستعماري، في منتصف القرن الماضي، أنّه أسس حلف الناتو العدواني، للدفاع عن أوروبا في مواجهة «العدوانية الشيوعية». لم يبادر الاتحاد السوفياتي إلى إنشاء «حلف وارسو» في 1955، إلا بعد انضمام ألمانيا الغربية إلى الناتو الذي تأسس في 1949.
على أيّ حال، هزم الغرب الاستعماري الاتحاد السوفياتي وزال الخطر الأحمر، لكنّ حلفه العدواني استمر وتوسع وتمدد جنوباً وشرقاً، وشهيته مفتوحة على روسيا الاتحادية وما تحويه من ثروات طبيعية لا تنضب، ما يؤكد، للمرة المليون، طبيعته الاستعمارية العدوانية.
ساركوزي وبرلسكوني وأوباما وغيرهم، الذين كانوا في الماضي القريب جداً يلعقون أحذية معمر القذافي ورجالاته، كما الجنرال المخلوع و«بطل الضربة الجوية»، بل وحتى يقبلون يديه ويقدمون له مختلف الأوسمة، ويدعمون تقديم جامعاتهم شهاداتها لهم، ويدعمون العدو الصهيوني بلا شروط، حتى في أمور تتناقض مع دساتير بلادهم وقوانينها، صار هؤلاء يتحدثون عن حرية الشعوب العربية، وحقها في تقرير مصيرها، ويعدون أنّ الشرط الأول لاستكمال العرب لحرياتهم المفقودة، هو الخضوع للعدو المغتصب.
قال وزير تضليل النظام النازي غوبلز إنّه يتحسس مسدسه عندما يسمع كلمة «مثقف». وأنا، أضع فوهة المسدس على رأسي عندما أسمع زعماء الغرب يتفوهون بمفردات «الحرية» و«العدالة» و«الديموقراطية»، وأيضاً عندما يتفوه بها المعارضون السفاراتيون، ومثقفو الناتو وممثلو قنصليات الغرب الاستعماري.
ثمة بديهيات، تعمل وسائل التضليل العربية وغير العربية وأشباه مثقفين مضلَّلين، على محاولة إجبارنا على نسيانها. وهي مقدمة ضرورية لفهم معنى التحالف مع الغرب الاستعماري والنتائج البديهية لمثل علاقة ذيلية كهذه، بل وخيانية.
لا نعرف الآن حقيقة ظروف بداية الحراك الشعبي في ليبيا ومدى مشاركة حلف الناتو العدواني فيه، وتأثير الصهيوني في سياساته، وإن كنا على ثقة بأنّه مختلف كثيراً عما تصوّره مختلف أجهزة التضليل الإعلامي العربية وغير العربية (ستأتي ويكيليكس في المستقبل وتكشف المسكوت عنه الآن). لكنّ الأخبار بدأت تأتي تباعاً عن مشاركة قوات حلف العدوان الأطلسي في احتلال طرابلس وغيرها من المدن الليبية، وكذلك عن حضور صهيوني مكثف في ليبيا، وإعلان قوى ليبية عميلة عزمها على الاعتراف بشرعية كيان العدو العنصري، بل وحتى التحالف معه، وفوق ذلك كلّه إلغاء صفة العروبة عن البلاد من الدستور الذي وضعه القناصل وعملائهم.
نحن لا ندافع عن معمر القذافي، ولم ندافع يوماً عنه أو عن أي حاكم، عربي أو غير عربي، ولا نقلل أبداً من معاناة شعبنا العربي في ليبيا. شعب الأبطال عمر المختار ورمضان السويحلي وسيف النصر عبد الجليل وسليمان الباروني، وغيرهم من أبطال محاربة الاستعمار الإيطالي، وشعب مناضلين أبطال ضد النظام الملكي الذليل مثل القائد النقابي القومي المرحوم محمد المغربي والصحافي القومي الشجاع علي عبد الله ورَيِّث، والسياسي المناضل القومي المرحوم صالح مسعود بْوِيصِير وغيرهم كثيرين، أو الجنود المجهولين من طلبة جامعتي بنغازي وطرابلس ومدارسها، الذين سقطوا وهم يتظاهرون تأييداً لجمال عبد الناصر ودعوته لعقد أول مؤتمر قمة في طرابلس، ولفلسطين، ولإزالة القواعد البريطانية والأميركية من البلاد. كذلك لا نقلل من صِدق انتماء الشعب الليبي الوطني والقومي العربي العروبي، ولا من حقهِ المطلق في التحرر من طغيان نظام فاسد.
نحن نتكلم هنا على «قادة»، معظمهم قضوا أعمارهم يتسكعون في دهاليز استخبارات الغرب وغرفه التآمرية، أو خدماً في نظام «الأخ العقيد»، وصاروا، بقدرة قادر، مدافعين عن حقوق الشعب. نحن نتكلم على أشخاص ارتهنوا للغرب، وسخروا أنفسهم محامين للشيطان وممثلين لأهدافه الاستعمارية النهابة، متظللين بالشعارات إياها، التي تخطف الأبصار وتعمي البصيرة. نتكلم على أشخاص عمت أعينهم المناصب، وأفقد شعورهم بالنقص تجاه الرجل الأبيض أي شعور بالكرامة والانتماء الوطني والقومي والديني، لا يعرفون معنىً للحرية سوى تسلمهم هم المناصب، يريدون السطو عليها بقنابل الغرب الاستعماري وسياساته الغبية، وطموحاتهم الشخصية الوضيعة.
نتكلم على أشخاص فرضهم الغرب الاستعماري وأجهزة التضليل الإعلامي «العربية» والعالمية، ناطقين باسم شعب ليبيا العربي، الذي عرفته حراً أبياً، متديناً حقاً بلا ادعاء، ذا كرامة أصيلة تناطح السماوات، متواضعاً أمام نفسه وراكعاً أبدياً للخالق، مستغلين توقه الفطري إلى الحرية والكرامة الحقيقيتين التي امتهنها ملك ملوك الأوهام، وجنده الطائعون المعبأون قبلياً وعشيرياً... ومالياً.
كثر منهم، أسماؤهم معروفة، ولن يمر وقت طويل قبل الكشف عنها، جندهم الغرب الاستعماري ليكونوا طليعته المتقدمة لاحتلال ليبيا والعودة إلى استعمارها مجدداً.
ليس ثمة من عذر لأي قوة كانت تدعي الوطنية، الاستعانة بالقوى الاستعمارية على بلادها وعلى شعبها، عبر تضليله بأنّها تأتي لتحريره. الغرب الاستعماري لا يريد من الشعوب الضعيفة سوى الاستكانة والخنوع والتحوّل إلى جماعات مستهلكة (ألا يطلق على مجتمعاتـ(ـه) اسم «المجتمع الاستهلاكي/ consumer society»). يريدون تحويل الشعوب إلى مستهلكة خانعة تلهث وراء السلعة وتؤلهها، أي الخضوع لشروط الغرب الاستعماري السياسية وفي مقدمتها التحلل من الانتماء الوطني والقومي، وبالتالي، التخلي عن فلسطين والتحالف مع العدو الصهيوني العنصري.
انظروا إلى العراق وأفغانستان، لنتذكر أنّ التاريخ يعيد نفسه، لكن الثمن يتضاعف في كل مرة. ولنتذكر أيضاً أنّ قطعة الجبن في مصيدة الفأر هي الأمر المجاني الوحيد الذي يمنحه المستعمر لمن ضلل به.
لقد عايشت شعب ليبيا العظيم منذ الصغر، وتربيت مع أبنائه، وتعلمت على أيدي معلميه الأفاضل، ورأيته يتظاهر ضد النظام الملكي الفاسد، وينتصر لفلسطين ولعبد الناصر. عرفته شعباً يعتز بنفسه وبانتمائه إلى عرب الجزيرة، رغم أنف النظام الملكي البائد، ونظام القائد الأوحد والمفكر الأوحد والفيلسوف الأوحد والزعيم الأوحد والإله الأوحد... ولا حول ولا قوة إلا بالله!
تلك الشخصيات حملت أعلام دول حلف الناتو العدواني، ولم تكلف نفسها حمل علم فلسطين، هي المتكالبة على مناصب وزعامة وهمية كاذبة. تؤكد تلك الشخصيات تمسكها بتعاليم أسيادها في حلف العدوان الأطلسي، الذين قدمت لهم الغطاء، تحت كذبة «حماية المدنيين»، لتدمير ليبيا على رؤوس أبنائها وتحويل البلاد إلى حاملة طائرات للغرب، يفصلها عن محيطها وانتمائها التاريخي العربي، ولينقض منها على بلاد المغرب العربي ووسط أفريقيا الثري بالمعادن الاستراتيجية.
ليس ثمة من مسوغ لأي كان للاستعانة بعدو طماع همجي متخلف على بلاده وشعبه وتقديمها هدية له. لم ننزعج من فرار الطاغية، لكنّنا لم نشعر في الوقت نفسه بأي درجة من الارتياح لاحتلال قوات حلف الناتو العدواني و«ثوار الناتو» طرابلس ومقر المستبد الفار. لكنّنا سنحتفل يوماً، نراه قريباً، مع شعب ليبيا العربي البطل، وهو يزيح من جديد حاجز الخوف ويطرد الناتو من بلاده، ومعه الخونة الذين استخدمهم غطاءً لاستعماره الجديد ـ القديم.
الاستعانة بقوات المستعمر تمنح الحاكم مسوغاً لاستقدام قوات من الخارج تدعمه. بل إنّ حمل السلاح ضد الحاكم الطاغية، وتحويل التظاهر السلمي إلى تمرد مسلح مرفوضان. حمل السلاح يعني إلغاء الآخر، ويعبر عن جوهر الحراك نفسه. انتفاضتا تونس ومصر نجحتا في إبعاد الطاغيتين وبطانتهما، لأنّها لم تلجآ إلى السلاح، رغم ضراوة النظامين ووحشيتهما، فتدخل الجيش ليحسم الأمر.
قريباً، سيصحو شعب ليبيا العروبي البطل، من النشوة التي يعيشها بعضه الآن. وعندما يرى أنّ من يدعي النطق باسمه استبدل الديكتاتور الصغير بطغاة مستعمرين أكثر دهاءً وقوة ومنعة ووحشية، سيستعيد المبادرة، بعد أن أسقط حاجز الخوف الذي أمسك بقلوب شعوب أمتنا وعقولها لفترة طويلة. سيتصرف على قاعدة أنّ الاستعانة بقوى خارجية أياً كانت، ضد الوطن والشعب، تحت أي مسمى كان، هو خيانة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. بل إنّها الخيانة العظمى.
* كاتب فلسطيني

مشاركة مميزة