kolonagaza7
الدكتور إدمون ربّاط*
يتّصف المسيحيون الشرقيون بظاهرة خاصّة بهم، لا يبدو أنّ لها مثيلاً في سائر البلاد التي تعمّها المسيحية، وهي في توزيعهم إلى طوائف مختلفة، قائمة بذاتها، تستند كل منها إلى تاريخ سحيق، فتتمتّع بهيكلية كهنوتية، وتشريعات كنسية، ومحاكم مذهبية أو روحية، خاصّة بها. وهي منقسمة في الوقت الحاضر إلى فئتين؛ فئة الطوائف الشرقية، المستقلّة عن كل سلطة دينية خارجة عنها، وفئة الطوائف الموصوفة بالغربية، أي الكاثوليكية، من جرّاء خضوعها إلى الكنيسة الرومانية وانتمائها إلى عقيدتها وتعاليمها – مع ملاحظة أنّ هذه الطوائف الكاثوليكية كانت وليدة انشقاق قد أصاب طائفتها الأصلية، وهي الطائفة الشرقية الأم، باستثناء الطائفة المارونية، التي استطاعت المحافظة على وحدتها الكنسية والاجتماعية، في إطار الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، بفضل انحسارها في إقليم جغرافي واحد في شمال جبال لبنان.
ومن المعلوم أنّ هذه الطوائف هي من رواسب الماضي البعيد، العائد إلى ما قبل الإسلام، وأنّها نشأت وتكوّنت قبل الإسلام والفتح العربي، عندما كانت المسيحية تعمّ العالم القديم بأسره، أي أوروبا الوسطى والغربية، والإمبراطورية البيزنطية، ما عدا المملكة الفارسية، التي كانت المسيحية قد تغلغلت فيها من جوانبها الغربية، في العراق والقسم الشرقي الأكبر من بلاد بين النهرين، أي الجزيرة في لغة العرب.
فالمسيحية قد احتلّت، بعد سنوات قليلة من صدور مرسوم الإمبراطور قسطنطين الكبير، عام 313، مرتبة دين الدولة الرسمي في الإمبراطورية الرومانية، وعندما تحوّلت هذه الإمبراطورية، تدريجياً إلى إمبراطورية إغريقية بلغتها وثقافتها، فغدت معروفة – فعلاً لا رسمياً، إذ أنّها احتفظت بتسميتها الرومانية الرسمية، وهي التسمية التي تحرّفت إلى تسمية "الروم" في اللغات الشرقية – باتت معروفة بالإمبراطورية البيزنطية.
وإليها كانت تمتّ بلاد الشام، أي سوريا وفلسطين ومصر، وإفريقيا الشمالية وأسبانيا الفزيغوتية، القائمة على سواحل البحر المتوسط، ومن بداهة القول إنّ شعوب هذه الأقطار كانت جميعها تدين بالمسيحية الرسمية، على مذهب الدولة، وكانت منتظمة في أربع بطريركيات كبرى، هي بطريركية إنطاكية – وهي الأقدم عهداً- وبطريركية القسطنطينية، و بطريركية الإسكندرية، و بطريركية أورشليم القدس.
أمّا الجزيرة العربية فقد كانت راسخة في الوثنية، على الرغم من انسلال بعض الأفكار والتقاليد المسيحية إلى الحجاز، وبخاصّة إلى مكّة، هذه التيّارات الروحية، التي وصفها العرب منذئذ بالنصرانية، إلماحاً إلى مدينة الناصرة التي ينتمي إليها يسوع الناصري، وهي التسمية الواردة وحدها، كما هو معروف، بالقرآن الكريم.
على أنّه إذا كانت النصرانية قد تعرقل سيرها في المناطق الحضرية، فإنّ تعاليمها وطقوسها قد تمكّنت من الانتشار في عدد من القبائل العربية، وذلك عبر بادية الشام والعراق، فكانت آثارها خصبة، لأنّها كانت بمثابة الخميرة التي أعدّت العرب في الجزيرة إلى تقبّل الإسلام.
ففي هذا البحر الزاخر من المسيحية ظهرت الطوائف المسيحية، التي ما زالت حيّة، ولو بأحجام أقل رقعة، إلى يومنا هذا.
وأمام هذا الواقع الديني الشامل، ينتصب السؤال عن الأسباب التي حوّلت المسيحيين في سوريا وفلسطين والعراق ومصر إلى طوائف مختلفة بينما بقيت سائر شعوب الإمبراطورية البيزنطية، في القسطنطينية والأناضول وإفريقيا الشمالية وأوروبا، متمسّكة بوحدتها – هذه الوحدة التي ستنفصم هي أيضاً، في القرن الحادي عشر بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية، وللمرّة الثانية، في القرن السادس عشر، بين الكثلكثة والبروتستنتية.
أوّل ما يتبادر إلى الذاكرة للجواب عن هذا السؤال هو القول بأن الأسباب – وليست العوامل، بمفهومها السوسيولوجي – إنّما كمنت في المجادلات الصاخبة التي عمّت العاصمة وبلاد الشام ووادي النيل في القرنين الرابع والخامس، حول شخصية السيد المسيح وطبيعته، وهو جواب يبدو، في أوّل وهلة، وافياً بالمرام، ولكنّه سرعان ما تظهر فيه بعض علامات الاستفهام، إذا ما حاولنا التعمّق في العوامل العرقية والقومية أيضاً، التي لعبت دوراً فعّالاً في نشوب هذه الانقسامات التي أدّت في النهاية، إلى بروز الكيانات الطائفية.
وسنحاول قدر المستطاع إلقاء بعض الأضواء المستقاة من التاريخ على هذه الجوانب الخاصة بالمسيحيين الذين باتوا، في اللغات الغربية موصوفين "بمسيحيي الشرق" وذلك بالطبع بشكل مقتضب جداً، باعتبار أنّ الغاية من البحث الحاضر ترمي إلى تلمّس الجذور الإثنية التي تجعل من هؤلاء المسيحيين عرباً، يتكلّمون العربية ويساهمون بالشعور العربي، أسوة بمواطنيهم المسلمين في الأقطار العربية التي ما زالت تقوم فيها جماعات مسيحية.
أولاً: الانقسامات اللاهوتية:
منذ زمن بعيد تميّزت شعوب الشرق، ومنها أيضاً الروم في القسطنطينية بشغفها الزائد للمساجلات اللاهوتية، وقد كانت الفرصة سانحة ابتداءً من القرن الرابع، عندما بدأ آباء الكنيسة والفلاسفة بالتمعّن في شخصية السيد المسيح، وذلك بعد أن رفعته رسائل القدس بولس إلى مرتبة ابن الله، الذي أوفده الأب بفعل الروح القدس، بشكل إنسان، مخلصاً للبشر من الخطيئة.
وهذه الخصلة قصّها غريغوريوس النيسي، أي من مدينة نيسا في آسيا الصغرى، وقد رفعته الكنيسة بعد وفاته إلى مرتبة آباء الكنيسة، بشكل من الطرافة، لا تخلو من الانزعاج ممّا شاهده في العاصمة ذاتها من هذا القبيل، بقوله ما نصّه:
"إذا سألت أحدهم كم هو ثمن هذه السلعة فيجيبك بالمناقشة حول المولود وغير المولود، وإذا سألته عن ثمن الخبز أجابك "إنّ الأب أعلى والابن إنّما يأتي بالدرجة الثانية، وإذا ما سألته عمّا إذا كان الحمام معداً، أجابك أنّ الابن إنما هو مخلوق من العدم".
وكم كانت منتشرة الأفكار الجديدة حول طبيعة المسيح، هذه الأفكار التي أدّت بالنتيجة إلى الانقسامات، التي اتسم بها تاريخ المسيحية في الشرق.
ومن هذه "الهرتقات"، كما تصفها الكنيسة الرسمية برزت ثلاث نظريات رئيسية، في غمرة من الهرتقات العديدة، وقد لعبت دوراً حاسماً في الانشقاقات المسيحية، وهي الآرية، والنسطورية، والمنوفسية، مع ما كان لهذه الأخيرة من صيغة فرعية تجلّت بالمنوثلية، التي أراد صانعوها بابتكارها إيجاد حل وسط لتقريب المنوفسية من مذهب الكنيسة الرسمية.
* الآرية:
وهي البدعة التي ابتكرها الكاهن آريوس، في الإسكندرية، وكان من أصل ليبي، وذلك في القرن الربع، وكان قد أعلن وحدانية الله، وأن المسيح لم يكن سوى كلمة الله المخلوقة، فأوفده الله إلى البشر رسولاً ونبياً.
إلا أن هذه الفكرة، التي كان من شأنها تقويض الإيمان الأساسي بالثالوث المقدس، الذي اعتنقته وعلّمته الكنيسة، دانها المجمع المسكوني، الذي انعقد مدينة نيسيا، في شمالي غربي آسيا الصغرى، عام 325، برئاسة الإمبراطور قسطنطين شخصياً، فكان من نتيجة هذا المجمع إزالة هذه العقيدة من الشرق، إزالة تامّة، وبخاصة تحديد الإيمان بالثالوث الأقدس تحديداً قاطعاً نهائياً.
ومنذ ذلك الحين تحوّلت الآرية إلى القبائل الجرمانية في أوروبا، إلى أن توصّلت الكنيسة الرومانية إلى القضاء عليها قضاءً مبرماً – لكي تظفر في النهاية في القرآن والإسلام.
* النسطورية:
أمّا النسطورية فهي العقيدة التي تحمل اسم صاحبها، نسطور السوري الأصل الذي شغل مدّة سنوات، كرسي بطريريكية القسطنطينية، وأخذ يعلن وذلك بتأثير من الآرية على ما يبدو، أن المسيح، إذا ما كانت في شخصه قد اتحدت الطبيعتان، الإلهية والبشرية، فهذا الاتحاد لا يعني أنّ عذاب الصليب قد نال من الطبيعة الإلهية، بل إنّ هذا العذاب قد اقتصر على الطبيعة البشرية وحسب، وهي عقيدة كان من شأنها أن تجعل من الإيمان بأن الله قد بعث بابنه لتخليص البشر، إيماناً بدون أساس، طالما أنّ عذاب الصليب لم يشمل شخص المسيح بطيعتيه المتحدتين، الأمر الذي يجعل عندئذ السيدة مريم أم المسيح الإنسان، وليس أم الله، كما يأتي اسمها بصلاة مريم.
وأثر الاحتجاجات المدوية التي قامت من كل جانب على البطريركنسطريوس، ولا سيما من شعب القسطنطينية، الذي كان جدّ متعلّقاً بالقديسة مريم أم الله، قضى المجمع المسكوني الثالث، المنعقد في أفسوس، عام 431، بالهرتقة على هذا المذهب، وبخلع نسطوريوس عن كرسيّه وإرساله منفياً إلى شمال الجزيرة العربية – لجهة البتراء التي كانت واقعة تحت سيادة الإمبراطورية البيزنطية – حيث توفّي منسيّاً.
إلا أنّ أتباعه الكثر قد اضطرّوا من جهتهم إلى الهجرة فلجأوا إلى بلاد فارس، ولا سيما في بلاد بين النهرين، في نصّيبين والرّها، حيث ازدهرت الكنيسة النسطورية ازدهاراً عجيباً، لدرجة أنّها تمكّنت، خلال العصر الوسيط، من إرسال البعثات التبشيرية إلى أقطار آسيا الوسطى، وإلى مملكة التتر أو المنغول، وحتى إلى الصين، حيث تألفت على أساس مذهبها جاليات عديدة وضخمة.
* المنوفسية:
ولكن المذهب الذي لعب دوراً حاسماً في الانشقاقات الكنيسية، إنما كان عقيدة الطبيعة الإلهية الواحدة، الموصوفة بالمنوفسية.
وأوّل من بشّر بها كان ناسكاً ورعاً في القسطنطينية، اسمه أتويشيوش، وذلك في أوائل القرن الخامس، ولكن مؤسس هذه العقيدة إنما كان في النهاية ساويروس الكبير، بطريرك إنطاكية في القرن السادس.
وهذه العقيدة كانت تقول بالطبيعة الإلهية الواحدة بالمسيح دون الطبيعة البشرية، التي زالت من الوجود بفعل تجسّد ابن الله في هيئة إنسان.
وقد انتشرت هذه العقيدة على الأخص في سوريا، ومصر، وحتى أنّ أرمينيا ذاتها قد اعتنقتها، ولكن بإضفاء تفسير خاص عليها.
وكان لا بدّ للكنيسة الرسمية من أن تثير حيال هذه العقيدة ردّة فعل قاسية، فتجلّت ردّتها بادئ ذي بدء، في المجمع المسكوني الذي انعقد في مدينة خلقيدونية، في شمال آسيا الصغرى، بقرب العاصمة، عام 451، حيث صدر القرار بدينها وتحريمها، وإعلان عقيدة الكنيسة الرسمية، أي الكاثوليكية – الأرثوذكسية، المبنية على الإيمان باتحاد الطبيعتين، الإلهية والبشرية، في شخص المسيح، اتحاداً غير قابل للانفصام.
الكنائس المنوفسية:
لقد كان مجمع خلقيدونية فاتحة الانشقاق العميق بين الكنيسة الرسمية والكنيسة السريانية في سوريا، والكنيسة القبطية في مصر، كما كان هذا المجمع منطلقاً حافلاً بالاضطهادات من جانب الدولة البيزنطية وكنيستها الرسمية، كما أنّه قد أثار في سوريا ومصر موجة من السخط ضدّهما.
المؤرّخون، على اختلاف نزعاتهم، من شرقيين وغربيين، ومن كاثوليك وسريان، وصفوا الأشكال الفظيعة التي اتخذنها هذه الاضطهادات من مذابح جماعية، وتقتيل فردي بالسيف والنار، ومن تشريد خارج المدن والأديرة، إلى ما هنالك من أنواع التعذيب التي تقشعرّ لها الأبدان، وكل ذلك باسم يسوع الناصري، رسول المحبّة والرأفة، وهي حالة حدت كاتباً سورياً كبيراً، أميانوس مارسلانوس، على القول:
"لم يرَ التاريخ بهائم متوحشة أشد افتراساً وقساوة من المسيحيين، بعضهم لبعض".
وكان من أثر هذه الأعمال أن تأسست في بلاد الشام الكنيسة السريانية، وفي وادي النيل الكنيسة القبطية، وهو عمل جبار يعود الفضل بالمبادرة به وإنجازه، إلى كاهن سرياني، يعقوب البراذعي، أي في السريانية ذو الثياب الرثة والممزقة، التي كان يرتديها، للتخفّي عن أعين الشرطة البيزنطية، التي كانت تلاحقه في كل مكان.
ولا غرو أنه كان من أثر هذه الاضطهادات، ليس فقط إنشاء كنيسة وطنية في سوريا، وهي الكنيسة السريانية، وكنيسة وطنية في مصر، هي الكنيسة القبطية، وذلك بجانب الكنيسة الرومية، الرسمية، بل وعلى الأخص انبثاق شعور عميق من العداء والكراهية للسلطة البيزنطية، هذا الشعور الذي سيمهّد الدروب للفتح العربي في القرن السابع.
وأمام هذه الانتفاضات التي ظهرت في الشام ومصر قبيل الإسلام، تساءل المؤرّخون الغربيون، أمثال الروسي فاسيليف، والروماني نقولا يورغا، والفرنسي شارل ديل والفرنسي أرنست رينان، والإنجليزي ألفرد بتلر، والنمساوي أرنست شتاين، وعدد كبير من سواهم، عمّا إذا كانت هذه الحالة النفسية التي هيمنت على أهل الشام ومصر إزاء الحكم البيزنطي، بل هذه الانشقاقات التي قضت على وحدة الكنيسة الشرقية في القرنين الخامس والسادس، عمّا إذا كانت وليدة الاختلافات في العقيدة حول شخصية المسيح فحسب، أم أنّ ثمّة عوامل أخرى قد ساهمت في انطلاقها، وهو الوجه من تاريخ المسيحيين في الشرق، الذي وجد فيه المؤرّخون الغربيون الذين ذكرنا، أنّ لتلك الانتفاضات أسباباً قومية، كانت سوريّة في سوريا، وقبطية في مصر، وإنّها ارتدت وقتئذ شكل الحركات الدينية، لأنّ الدين إنما كان الرداء الذي كانت تتجلّى به في ذلك العهد، كما سيجري بعدئذ في الإسلام، الحركات السياسية والاجتماعية.
وهي نظرة إلى حقيقة تلك الحركات، يقتضي توضيحها بالعودة إلى الجذور العرقية التي تمتّ إليها شعوب هذه المنطقة، الموصوفة اليوم بالشرق الأوسط .
ثانياً: الأصول السامية
ممّا لا شكّ فيه أنّ معظم الشعوب القاطنة في الوقت الحاضر الأقطار التي يتألف منها الهلال الخصيب، وهو التعبير الذي أوجده، في أوائل هذا القرن، المؤرّخ الأثري الأميركي، جيمس بريستد، بوصفه الأقطار المحيطة بالجزيرة العربية بالهلال الخصيب، إنّما هي محض سامية في أصولها.
والساميون الذين ورد ذكر جدّهم الأعلى، سام بن نوح، في التوراة، إنّما يؤلفون مجموعة واسعة من الأقوام التي تربطها صلة النسب من جهة، وعلاقة التربة من جهة أخرى، وهذه الأقوام، التي ظهرت منذ فجر التاريخ بشكل قبائل وعشائر، هي التي استوطنت بلاد الشام والعراق – ولربما أيضاً، وعلى حد قول بعض العلماء، مصر ونوبيا والحبشة.
والإشكال الذي أثار الاهتمام منذ أوائل القرن الماضي كان في التحرّي عن المحيط، الذي كانت تنطلق منه الأقوام السامية.
للجواب عن هذا السؤال، توصّل الألماني أدولف شبرنغر في أواسط القرن التاسع عشر، إثر دراسات وتحرّيات معمّقة، إلى القول الجازم "إنّ الساميين جميعهم عرب"، لأنّهم قد نبتوا من الجزيرة العربية، فتبعه بهذا الرأي، استناداً إلى أدلة جديدة، عالمان ألمانيان أخوان، شرادر وفنكلر، ولهذا الأخير عبارة معروفة، وهي "أنّ منبت الساميين الأصلي إنّما هو الجزيرة العربية".
وهذا الرأي قد تحوّل إلى نظرية علمية بفضل العلامة الإيطالي ليوني كايتاني، صاحب "حوليات الإسلام" الضخمة. ففي هذا المؤلّف، وبخاصّة في مؤلَّف آخر بعنوان "دراسات في التاريخ الشرقي"، قد توصّل إلى الدلالة على أنّ القبائل كانت تنفر، تباعاً، خلال الأزمنة الغابرة ومنذ أكثر من خمسة آلاف سنة قبل المسيح، من الجزيرة العربية منذ زمن بعيد جداً بسبب تحوّلها إلى صحاري رملية وبوادٍ عارية من النبات، وتزايد الأعداد البشرية في القبائل، تزايداً مستمراً، الأمر الذي كان يدفعها إلى اجتياز الجزيرة، لكي تنصبّ على الأقطار المجاورة، فتغمرها كمياه الأنهار الصاخبة، وتحتل أراضيها، وتشيد فيها الممالك والإمبراطوريات، التي كانت جميعها سامية في أصولها العرقية، باستثناء قبائل سومر التي ما زال العلماء مختلفين حول تعيين أوطانها الأصلية.
وهكذا كاد اليوم الإجماع أن يتمّ بينهم على أنّ الساميين قد وردوا، تباعاً، خلال الأزمنة الغابرة، من الجزيرة العربية، وإن كانت آراؤهم برحت متضاربة حول الأسباب التي كانت تدفعهم، دورياً، إلى اجتياز شواطئ الجزيرة والفيض على أقطار الهلال الخصيب.
وهذه النتيجة لتحرّيات وأبحاث طويلة، فقد لخّصها المؤرخ الفرنسي ألكساندر موريه بخمس من الأمواج السامية الآتية جميعها من الجزيرة العربية، على الوجه التالي:
· بلاد عقاد أو أكاد، في جنوبي العراق، وهي متاخمة لحدود الجزيرة العربية في الألف الرابع قبل المسيح.
· الكنعانيون، وهم فئتان؛ فئة كنعانيي سواحل بلاد الشام، الذين أسماهم الإغريق بالفينيقيين، مع العلم أنّ مدنهم الدولية (بفتح الدال) بمعنى الدولة – المدينية، كانت تتسمّى بالكنعانيين.
وفئة كنعانيي الداخل، الذين امتدّ انتشارهم إلى فلسطين وبعض أقسام من سوريا الوسطى، وذلك حوالي عام 2900، أي في أواخر الألف الثالث.
· الآراميون في سوريا من شمالها حتى دمشق، والعبريون في فلسطين، قريب عام 1500، أي في أواسط الألف الثاني.
· الأنباط بجوار عام 500، وذلك كله بالطبع قبل الميلاد.
· وفي القرن السابع، بعد الميلاد، اندفعت الموجة الأخيرة، التي أتت بالعرب، تحت راية الإسلام.
وهي موجات قد توقفت ظاهراً، منذ الفتح العربي، بشكلها العنفي، لكي تتحوّل إلى حركات تسلّلية، كانت تغذّي بصورة متواصلة، سكان سورا الساميين، بدم قبائلها، فكان منها من يبقى على حياة البادية والرحّل، وسواها على الحياة الحضرية في أنحاء سوريا كافّة، كما أثبت ذلك المؤرّخ الفرنسي رينه دوسو في كتابين معروفين.
وهذا مع الإشارة إلى أنّ الجغرافي الإغريقي، سترابون، قد أشار في مؤلَّفه المسمّى "بالجغرافيا" أنّ جبل لبنان كانت تقطنه، في القرن الأول من الميلاد، قبائل وعشائر عربية وإيتورية (علماً بأنّ الإيتوريين هم أيضاً من العرب)، وأن هذه الأقوام كانت تعيش من الغزو وسائر وسائل الحياة البدوية.
في ضوء هذه المعطيات التاريخية، قد نستطيع إجراء المحاولة للتحرّي، على وجه التقريب، عن الأصول العرقية لأهالي بلاد الشام، قبيل الفتح العربي في القرن السابع – مع الملاحظة أنّه من العسير تطبيق الطريقة ذاتها على أقباط مصر، الذين نبقيهم خارج بحثنا الحاضر، لأسباب عدّة ومنها على الأخص لأنّ للشعب القبطي المصري، الذي تحوّل إلى الإسلام فيما بعد، لكي لا يبقى منه في الوقت الحاضر سوى ستة أو سبعة ملايين فقط، جذوراً عرقية ممتزجة بالسامية والحامية السوداء، التي لمّا يتوصّل العلم إلى توضيحها.
ثالثاً: المسيحيون في سوريا والعراق
نحصر البحث بسكان سوريا والعراق، علماً بأن سوريا التاريخية إنما تشمل أيضاً فلسطين، وبالطبع لبنان – تاركين خارج هذا الإطار الأقباط في مصر، الذين كان يتألف من كثرتهم الساحقة شعب مصر قبل الإسلام.
فمن المسلّم به إذن أن الجماعات التي كانت قاطنة في سوريا والعراق، قبل الفتح العربي، كانت مسيحية برمّتها، كما أنّه من المتّفق عليه بين المؤرخين أنّ هذه الجماعات كانت منتمية إلى المنوفيسية في سوريا، وإلى النسطورية في العراق، وذلك بجانب جماعات كان لها أيضاً قيمتها العددية، مؤلفة من الروم، الخاضعين للكنيسة الرسمية في سوريا، ومن المنوفيسيين أتباع كنيسة إنطاكيا اليعقوبية، في العراق، وكان بعضهم في سوريا من أصل إغريقي والبعض الآخر من الآراميين، بينما كانوا في العراق، بمعظمهم على الأقل، من الآراميين ومن غير الفرس الإيرانيين.
المسيحيون في سوريا والعراق توسّموا الخير والخلاص على يد الفاتحين العرب
إلا أنّ في شمال سوريا، وبالتخصيص في مدينة خوروس، الواقعة قرب مدينة عزار، وكذلك حول دير كان كائناً على العاصي قرب مدينة أفاميا، وهو المكان المعروف اليوم بقلعة المضيق، تكوّنت جماعة الموارنة، الذين تسمّوا باسم مار مارون، منشئ هذه الجماعة، وقد عاش ناسكاً في القرن الرابع.
وحول العقيدة التي انبثقت عنها هذه الجماعة، التي هي آرامية في أصول أتباعها، تضاربت الآراء. فهنالك شبه إجماع لدى المؤرخين والمبشرين الغربيين، على أن هذه الجماعة قد نشأت بوحي وعلى أساس المنوثيلية، القائلة بأن للمسيح مشيئة واحدة في طبيعته الإلهية والبشرية، في حين أنّ المؤرخين والأحبار والكهنة من الموارنة إنما ينكرون بشدة ما يعتدّونه وصمة في "أرذوكسيتهم الدائمة".
ومهما كان الأمر، فالواقع أن هذه الجماعة كانت في وطنها الأصلي وليدة تربته مما يعني أنها كانت، ولم تزل، آرامية بعرقيتها، وإذا ما انتقلت، ابتداءً من القرن التاسع، على أغلب الظن، إلى أعالي جبال لبنان الشمالية، فإنما بقيت محافظة على وحدتها، وبالطبع على أصولها، مما يدعو إلى القول بأنها، هي أيضاً، سامية الأصل، وعربية المنشأ.
إلا أن في الواقع كانت تلك الجماعات في سوريا والعراق خليطاً من الآراميين والعرب، فكان العنصر الآرامي سائداً في المدن الساحلية والداخلية، وعلى الأخص في القرى والأرياف، بينما كان العرب، وهم كانوا وما زالوا منضويين في إطاراتهم القبائلية والعشائرية، متوطنين، منذ الأزمنة البعيدة، بأعداد كثيفة، في المناطق الشرقية من سوريا والمناطق الغربية والشمالية من العراق.
وهكذا نشأت وازدهرت في تلك البوادي إمارة الغساسنة في سوريا، وكانوا يعتنقون المذهب اليعقوبي، ومملكة اللخمين في الحيرة من أعمال العراق، التي كان ملوكها ورعاياها من النسطوريين، - مع الملاحظة أن دولاً عربية قد نشأت أيضاً في تلك الأصقاع، قبل القرنين الخامس والسادس، اشتهرت منها جمهورية البطراء في الأردن، ومملكة تدمر (بالميرا) في سوريا.
هذا وقد كانت الآرامية اللغة المهيمنة في ذلك العهد، وقد بقيت الآرامية منتشرة، مدة ستة قرون على الأقل، لدرجة أنها غدت اللغة الدولية، وأيضاً الرسمية حتى في المملكة الفارسية- وكانت هي اللغة الدارجة في فلسطين، بدلاً من العبرية التي اندثرت كلغة محكية ومكتوبة، فانزوت في طقوس العبادة لدى اليهود – ومن المعروف عن المسيح أنّه بشّر بالآرامية وليس بالعبرية، وأن آخر كلماته على الصليب إنما لفظها بالآرامية.
غير أنه بجانب الآرامية، كانت العربية اللغة الدارجة في بوادي الشام والعراق، وأيضاً في المدن والقرى المتاخمة، وعلى الأخص في حمص وقنسرين وفي وادي الأردن وفي الشام، وفي الأنبار والمدائن والموصل والرها ونصيبين ألخ، في العراق والجزيرة. وذلك كله بجانب اللغة الإغريقية، لغة الدولة والدواوين في سوريا، والفارسية لغة الساسانيين في العراق.
ومن المعلوم أن اللغة إنما تؤلف أحد المؤشرات الدالة على الأصول العرقية، بل هي المؤشر الأكبر في الجماعات الدولية، لدرجة أنه بفضل اللغة القديمة جداً في الهند، والمعروفة بالسانسكريتية، قد توصّل العلماء إلى كشف الغطاء المجهول الذي كان يحجب أصول الشعوب الآرية الموصوفة أيضاً بالهندو-أوروبية، أو الهندو-الآرية.
فإذا كانت الآرامية الممتزجة بالعربية اللغة العامية والأدبية في الوقت ذاته، في جماعات سوريا والعراق المسيحية، فلأن هذه الجماعات إنما كانت متحدرة من أصل سامي، وأن أصولها القريبة والبعيدة، كانت متصلة بالجزيرة العربية، وذلك إثر الموجات البشرية الكثيفة التي ما فتئت، مدة أربعة أو خمسة آلاف سنة، تجتاح أقطار الهلال الخصيب.
رابعاً: القابلية النفسية للفتوحات العربية
وكان من الطبيعة الإنسانية أن تولد تلك الانقسامات اللاهوتية، والاضطهادات الدينية، نفوراً وكراهية وعداء في سوريا ومصر، حيال الإغريق في بيزنطيا، كما كانت عليه الحالة النفسية في العراق تجاه الساسانيين الفرس، الذين لم يمتنعوا هم أيضاً عن اللجوء إلى العنف وسفك الدماء لإخضاع المسيحيين، من نساطرة ويعقوبيين، إلى سياستهم المجوسية.
وكان لا بدّ للأصول السامية من أن تهيء النفوس لهذا النفور نحو المملكتين العظميين في ذلك الحين، وهي التي دفعت سكان سوريا والعراق على الأخص، إلى أن يتوسّموا الخير وينشدوا الخلاص على يد الفاتحين العرب، ليس فقط من محنتهم الدينية، بل أيضاً من ظلم الضرائب وكثرتها التي كانت تثقل كاهل المكلفين في أقطار الهلال الخصيب ووادي النيل.
وهذه المعطيات أجمع المؤرخون على أنها ساهمت كثيراً بتسهيل سبل النصر للفتوحات العربية، لدرجة أنه جزموا بأن سكان هذه الأقطار قد تقبلوا العرب بقلوب رحبة، لأنهم رأوا فيهم محرّرين لا غزاة.
وحسبنا الاستشهاد ببعض الأقوال من هذا القبيل، كميخائيل السرياني، بطريرك السريان الأرثوذكس في القرن الثاني عشر، أي بعد خمسة قرون من الفتح، وفي تاريخه الطويل نجد عبارات استهجان لسياسة الروم، كالتالية:
"لأنّ الله هو المنتقم الأعظم، الذي وحده على كل شيء قدير، والذي وحده إنما يبدّل ملك البشر كما يشاء، فيهبه لمن يشاء، ويرفع الوضيع بدلاً من المتكبّر، ولأنّ الله قد رأى ما كان يقترفه الروم من أعمال الشر، من نهب كنائسنا ودياراتنا، وتعذيبنا بدون أيّة رحمة، فإنما قد أتى من مناطق الجنوب ببني إسماعيل، لتحريرنا من نير الروم ... وهكذا كان خلاصنا على أيديهم من ظلم الروم وشرورهم وحقدهم واضطهاداتهم وفظاعاتهم نحونا".
وهي شهادة رهيبة، نجد مثلها، مما يتعلق بأقباط مصر، في تاريخ يوحنا النيقوسي، الذي تولى أسقفية نيقو في دلتا النيل، بعد فتح مصر بقليل، وكذلك في تاريخ سواروس الأشموني، الذي جاء من بعده، وهي شهادة لا شك بأنّها تدل على ما كان عليه مسيحيو مصر وسوريا والعراق من الشعور نحو البيزنطيين والفرس من جهة، وحيال العرب المسلمين من جهة ثانية.
ولأنهم قد تحققوا من هذا الوضع النفساني، الذي كان عاملاً حاسماً في إنجازات الفتح العربي، بسرعة مذهلة، فقد توافق المؤرخون الغربيون في عصرنا على إعلان هذه الحقيقة، أمثال الهولندي دي غوج، والبريطاني ألفرد بتلر، والفرنسي أرنست رينان وعدد كبير من سواهم.
ونكتفي في هذا المضمار بإيراد مقطع من دي غوج، في بحثه العميق حول فتح سوريا، الصادر في أوائل القرن الحالي، وفي معرض تذكيره بالتبعة التي يتحملها الإمبراطور هراقليوس، أو هرقل، في ضياع سوريا، بسبب سياسته الخرقاء، بفرض تعاليم المجتمع الخلقيدوني والمنوثلية، بوسائل شتى من الاضطهاد، وذلك مع إشارته إلى ازدياد الضرائب التي أثقلت كاهل سكان سوريا، مما حدا هؤلاء السوريين على اليقين بأن سلطان العرب سيكون أكثر رحمة وأشد حرية لمعتقداتهم. يقول هذا المستشرق الهولندي أن العرب والسوريين معاً كانوا يرون في بلاد الشام، جزءاً لا يتجزأ، مكملاً من الجزيرة العربية، وذلك بقوله ما نصّه:
"منذ أبعد الأزمنة، كانت سوريا موطناً للعرق السامي، وعلى الرغم من أن الحكومة كانت، في عهد بيزنطيا، متمركزة في القسطنطينية، فإن الشعب كان بمعظمه سامياً وحتى عربياً، ولذلك لم يكن من أثر الفتح العربي الاستيلاء على قطر غريب، الغاية المباشرة منه جباية الضرائب من سكانه، وإنما تحرير جزء من الوطن العربي الذي كان رازحاً تحت طغيان الاحتلال الأجنبي، وبالتالي استعادة عدد عظيم من المواطنين المهيئين نفسياً لإشراكهم بالدفاع عن مجد الله ونبيه".
ولا غرو أن السياسة التي اتبعها العرب المسلمون منذ أول فتوحاتهم قد أعدّت تلك الجماهير في البلاد التي دانت لهم، إلى تقبل سلطاتهم، وهي سياسة كانت، هي أيضاً، فتحاً بذاتها، في عالم الفكر والدين. ومن المعلوم أنها استندت إلى آيتين كريمتين، الواحدة التي تقضي أن "لا إكراه في الدين"، والثانية أن على أهل الكتاب، الذين يختارون البقاء على دينهم، أن "يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
فمن الممكن وبدون مبالغة القول بأن الفكرة التي أدّت إلى انتجاع هذه السياسة الإنسانية "الليبرالية" إذا جاز استعمال هذا الاصطلاح العصري، إنما كانت ابتكاراً عبقرياً، وذلك لأن للمرة الأولى في التاريخ انطلقت دولة، هي دينية في مبدئها، ودينية في سبب وجودها، ودينية في هدفها، ألا وهو نشر الإسلام، من طريق الجهاد، بأشكاله المختلفة، من عسكرية ومثلية وتبشيرية، إلى الإقرار في الوقت ذاته بأن من حق الشعوب الخاضعة لسلطانهم، أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وطراز حياتها – وذلك في زمن كان يقضي المبدأ السائد إكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم، بل وحتى على الانتماء إلى الشكل الخاص الذي يرتديه هذا الدين، كما كان الأمر عليه في المملكتين العظميين اللتين كان يتألف منهما العالم القديم.
هذه القاعدة التي لم تندثر في البلاد الغربية إلا بفضل الثورة الأميركية والثورة الفرنسية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
وكان لا بدّ إذن لهذه السياسة الإسلامية، المتحدرة عن القرآن، من أن تسفر عن نتيجتين حاسمتين ما لبثت آثارهما ماثلة في الشعوب العربية، وهما قيام الطوائف المسيحية على أساس النظام الطائفي من نحو، ودخول سكان الأقطار التي فتحها العرب في دين الإسلام من نحو آخر.
فتلك الجماهير الكثيفة، التي تشكل كثرة أهالي سوريا ومصر والعراق، إنما كانت تدين بالمسيحية، وقد اعتنقت الإسلام بأفواج متلاحقة، منذ القرن الأول من الهجرة بملء حريتها، في حين أن من بقي من هؤلاء النصارى، موزعين إلى طوائفهم المعروفة بتسمياتها المختلفة إنما هم شهود عدل، عبر التاريخ، ليس على سماحة الإسلام – وهو تعبير لا يفي بالواقع، لأن وجودهم كأهل ذمّة في الماضي، إنما كان مبنياً على قاعدة شرعية وليس على شعور، من طبيعته أن يتضاعف أو أن يضعف – وإنما على إنسانية هذا الدين العربي الذي أنزله القرآن.
وهو الدين الذي أقرّ لغير المسلمين، ليس فقط بحقوقهم الفردية والجماعية الكاملة، بل وأيضاً بالمواطنية الشاملة في عصرنا الحاضر، الذي زال فيه نظام الذمّة، لكي يحل محله نظام الحريات العامة، المنطوية، لزاماً، على مبدأ المساواة التامّة في المواطنية.
ألم يكن الرسول العربي الذي قال في حديثه الشهير:
"ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلّم بالعربية، فهو عربي"
يتّصف المسيحيون الشرقيون بظاهرة خاصّة بهم، لا يبدو أنّ لها مثيلاً في سائر البلاد التي تعمّها المسيحية، وهي في توزيعهم إلى طوائف مختلفة، قائمة بذاتها، تستند كل منها إلى تاريخ سحيق، فتتمتّع بهيكلية كهنوتية، وتشريعات كنسية، ومحاكم مذهبية أو روحية، خاصّة بها. وهي منقسمة في الوقت الحاضر إلى فئتين؛ فئة الطوائف الشرقية، المستقلّة عن كل سلطة دينية خارجة عنها، وفئة الطوائف الموصوفة بالغربية، أي الكاثوليكية، من جرّاء خضوعها إلى الكنيسة الرومانية وانتمائها إلى عقيدتها وتعاليمها – مع ملاحظة أنّ هذه الطوائف الكاثوليكية كانت وليدة انشقاق قد أصاب طائفتها الأصلية، وهي الطائفة الشرقية الأم، باستثناء الطائفة المارونية، التي استطاعت المحافظة على وحدتها الكنسية والاجتماعية، في إطار الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، بفضل انحسارها في إقليم جغرافي واحد في شمال جبال لبنان.
ومن المعلوم أنّ هذه الطوائف هي من رواسب الماضي البعيد، العائد إلى ما قبل الإسلام، وأنّها نشأت وتكوّنت قبل الإسلام والفتح العربي، عندما كانت المسيحية تعمّ العالم القديم بأسره، أي أوروبا الوسطى والغربية، والإمبراطورية البيزنطية، ما عدا المملكة الفارسية، التي كانت المسيحية قد تغلغلت فيها من جوانبها الغربية، في العراق والقسم الشرقي الأكبر من بلاد بين النهرين، أي الجزيرة في لغة العرب.
فالمسيحية قد احتلّت، بعد سنوات قليلة من صدور مرسوم الإمبراطور قسطنطين الكبير، عام 313، مرتبة دين الدولة الرسمي في الإمبراطورية الرومانية، وعندما تحوّلت هذه الإمبراطورية، تدريجياً إلى إمبراطورية إغريقية بلغتها وثقافتها، فغدت معروفة – فعلاً لا رسمياً، إذ أنّها احتفظت بتسميتها الرومانية الرسمية، وهي التسمية التي تحرّفت إلى تسمية "الروم" في اللغات الشرقية – باتت معروفة بالإمبراطورية البيزنطية.
وإليها كانت تمتّ بلاد الشام، أي سوريا وفلسطين ومصر، وإفريقيا الشمالية وأسبانيا الفزيغوتية، القائمة على سواحل البحر المتوسط، ومن بداهة القول إنّ شعوب هذه الأقطار كانت جميعها تدين بالمسيحية الرسمية، على مذهب الدولة، وكانت منتظمة في أربع بطريركيات كبرى، هي بطريركية إنطاكية – وهي الأقدم عهداً- وبطريركية القسطنطينية، و بطريركية الإسكندرية، و بطريركية أورشليم القدس.
أمّا الجزيرة العربية فقد كانت راسخة في الوثنية، على الرغم من انسلال بعض الأفكار والتقاليد المسيحية إلى الحجاز، وبخاصّة إلى مكّة، هذه التيّارات الروحية، التي وصفها العرب منذئذ بالنصرانية، إلماحاً إلى مدينة الناصرة التي ينتمي إليها يسوع الناصري، وهي التسمية الواردة وحدها، كما هو معروف، بالقرآن الكريم.
على أنّه إذا كانت النصرانية قد تعرقل سيرها في المناطق الحضرية، فإنّ تعاليمها وطقوسها قد تمكّنت من الانتشار في عدد من القبائل العربية، وذلك عبر بادية الشام والعراق، فكانت آثارها خصبة، لأنّها كانت بمثابة الخميرة التي أعدّت العرب في الجزيرة إلى تقبّل الإسلام.
ففي هذا البحر الزاخر من المسيحية ظهرت الطوائف المسيحية، التي ما زالت حيّة، ولو بأحجام أقل رقعة، إلى يومنا هذا.
وأمام هذا الواقع الديني الشامل، ينتصب السؤال عن الأسباب التي حوّلت المسيحيين في سوريا وفلسطين والعراق ومصر إلى طوائف مختلفة بينما بقيت سائر شعوب الإمبراطورية البيزنطية، في القسطنطينية والأناضول وإفريقيا الشمالية وأوروبا، متمسّكة بوحدتها – هذه الوحدة التي ستنفصم هي أيضاً، في القرن الحادي عشر بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية، وللمرّة الثانية، في القرن السادس عشر، بين الكثلكثة والبروتستنتية.
أوّل ما يتبادر إلى الذاكرة للجواب عن هذا السؤال هو القول بأن الأسباب – وليست العوامل، بمفهومها السوسيولوجي – إنّما كمنت في المجادلات الصاخبة التي عمّت العاصمة وبلاد الشام ووادي النيل في القرنين الرابع والخامس، حول شخصية السيد المسيح وطبيعته، وهو جواب يبدو، في أوّل وهلة، وافياً بالمرام، ولكنّه سرعان ما تظهر فيه بعض علامات الاستفهام، إذا ما حاولنا التعمّق في العوامل العرقية والقومية أيضاً، التي لعبت دوراً فعّالاً في نشوب هذه الانقسامات التي أدّت في النهاية، إلى بروز الكيانات الطائفية.
وسنحاول قدر المستطاع إلقاء بعض الأضواء المستقاة من التاريخ على هذه الجوانب الخاصة بالمسيحيين الذين باتوا، في اللغات الغربية موصوفين "بمسيحيي الشرق" وذلك بالطبع بشكل مقتضب جداً، باعتبار أنّ الغاية من البحث الحاضر ترمي إلى تلمّس الجذور الإثنية التي تجعل من هؤلاء المسيحيين عرباً، يتكلّمون العربية ويساهمون بالشعور العربي، أسوة بمواطنيهم المسلمين في الأقطار العربية التي ما زالت تقوم فيها جماعات مسيحية.
أولاً: الانقسامات اللاهوتية:
منذ زمن بعيد تميّزت شعوب الشرق، ومنها أيضاً الروم في القسطنطينية بشغفها الزائد للمساجلات اللاهوتية، وقد كانت الفرصة سانحة ابتداءً من القرن الرابع، عندما بدأ آباء الكنيسة والفلاسفة بالتمعّن في شخصية السيد المسيح، وذلك بعد أن رفعته رسائل القدس بولس إلى مرتبة ابن الله، الذي أوفده الأب بفعل الروح القدس، بشكل إنسان، مخلصاً للبشر من الخطيئة.
وهذه الخصلة قصّها غريغوريوس النيسي، أي من مدينة نيسا في آسيا الصغرى، وقد رفعته الكنيسة بعد وفاته إلى مرتبة آباء الكنيسة، بشكل من الطرافة، لا تخلو من الانزعاج ممّا شاهده في العاصمة ذاتها من هذا القبيل، بقوله ما نصّه:
"إذا سألت أحدهم كم هو ثمن هذه السلعة فيجيبك بالمناقشة حول المولود وغير المولود، وإذا سألته عن ثمن الخبز أجابك "إنّ الأب أعلى والابن إنّما يأتي بالدرجة الثانية، وإذا ما سألته عمّا إذا كان الحمام معداً، أجابك أنّ الابن إنما هو مخلوق من العدم".
وكم كانت منتشرة الأفكار الجديدة حول طبيعة المسيح، هذه الأفكار التي أدّت بالنتيجة إلى الانقسامات، التي اتسم بها تاريخ المسيحية في الشرق.
ومن هذه "الهرتقات"، كما تصفها الكنيسة الرسمية برزت ثلاث نظريات رئيسية، في غمرة من الهرتقات العديدة، وقد لعبت دوراً حاسماً في الانشقاقات المسيحية، وهي الآرية، والنسطورية، والمنوفسية، مع ما كان لهذه الأخيرة من صيغة فرعية تجلّت بالمنوثلية، التي أراد صانعوها بابتكارها إيجاد حل وسط لتقريب المنوفسية من مذهب الكنيسة الرسمية.
* الآرية:
وهي البدعة التي ابتكرها الكاهن آريوس، في الإسكندرية، وكان من أصل ليبي، وذلك في القرن الربع، وكان قد أعلن وحدانية الله، وأن المسيح لم يكن سوى كلمة الله المخلوقة، فأوفده الله إلى البشر رسولاً ونبياً.
إلا أن هذه الفكرة، التي كان من شأنها تقويض الإيمان الأساسي بالثالوث المقدس، الذي اعتنقته وعلّمته الكنيسة، دانها المجمع المسكوني، الذي انعقد مدينة نيسيا، في شمالي غربي آسيا الصغرى، عام 325، برئاسة الإمبراطور قسطنطين شخصياً، فكان من نتيجة هذا المجمع إزالة هذه العقيدة من الشرق، إزالة تامّة، وبخاصة تحديد الإيمان بالثالوث الأقدس تحديداً قاطعاً نهائياً.
ومنذ ذلك الحين تحوّلت الآرية إلى القبائل الجرمانية في أوروبا، إلى أن توصّلت الكنيسة الرومانية إلى القضاء عليها قضاءً مبرماً – لكي تظفر في النهاية في القرآن والإسلام.
* النسطورية:
أمّا النسطورية فهي العقيدة التي تحمل اسم صاحبها، نسطور السوري الأصل الذي شغل مدّة سنوات، كرسي بطريريكية القسطنطينية، وأخذ يعلن وذلك بتأثير من الآرية على ما يبدو، أن المسيح، إذا ما كانت في شخصه قد اتحدت الطبيعتان، الإلهية والبشرية، فهذا الاتحاد لا يعني أنّ عذاب الصليب قد نال من الطبيعة الإلهية، بل إنّ هذا العذاب قد اقتصر على الطبيعة البشرية وحسب، وهي عقيدة كان من شأنها أن تجعل من الإيمان بأن الله قد بعث بابنه لتخليص البشر، إيماناً بدون أساس، طالما أنّ عذاب الصليب لم يشمل شخص المسيح بطيعتيه المتحدتين، الأمر الذي يجعل عندئذ السيدة مريم أم المسيح الإنسان، وليس أم الله، كما يأتي اسمها بصلاة مريم.
وأثر الاحتجاجات المدوية التي قامت من كل جانب على البطريركنسطريوس، ولا سيما من شعب القسطنطينية، الذي كان جدّ متعلّقاً بالقديسة مريم أم الله، قضى المجمع المسكوني الثالث، المنعقد في أفسوس، عام 431، بالهرتقة على هذا المذهب، وبخلع نسطوريوس عن كرسيّه وإرساله منفياً إلى شمال الجزيرة العربية – لجهة البتراء التي كانت واقعة تحت سيادة الإمبراطورية البيزنطية – حيث توفّي منسيّاً.
إلا أنّ أتباعه الكثر قد اضطرّوا من جهتهم إلى الهجرة فلجأوا إلى بلاد فارس، ولا سيما في بلاد بين النهرين، في نصّيبين والرّها، حيث ازدهرت الكنيسة النسطورية ازدهاراً عجيباً، لدرجة أنّها تمكّنت، خلال العصر الوسيط، من إرسال البعثات التبشيرية إلى أقطار آسيا الوسطى، وإلى مملكة التتر أو المنغول، وحتى إلى الصين، حيث تألفت على أساس مذهبها جاليات عديدة وضخمة.
* المنوفسية:
ولكن المذهب الذي لعب دوراً حاسماً في الانشقاقات الكنيسية، إنما كان عقيدة الطبيعة الإلهية الواحدة، الموصوفة بالمنوفسية.
وأوّل من بشّر بها كان ناسكاً ورعاً في القسطنطينية، اسمه أتويشيوش، وذلك في أوائل القرن الخامس، ولكن مؤسس هذه العقيدة إنما كان في النهاية ساويروس الكبير، بطريرك إنطاكية في القرن السادس.
وهذه العقيدة كانت تقول بالطبيعة الإلهية الواحدة بالمسيح دون الطبيعة البشرية، التي زالت من الوجود بفعل تجسّد ابن الله في هيئة إنسان.
وقد انتشرت هذه العقيدة على الأخص في سوريا، ومصر، وحتى أنّ أرمينيا ذاتها قد اعتنقتها، ولكن بإضفاء تفسير خاص عليها.
وكان لا بدّ للكنيسة الرسمية من أن تثير حيال هذه العقيدة ردّة فعل قاسية، فتجلّت ردّتها بادئ ذي بدء، في المجمع المسكوني الذي انعقد في مدينة خلقيدونية، في شمال آسيا الصغرى، بقرب العاصمة، عام 451، حيث صدر القرار بدينها وتحريمها، وإعلان عقيدة الكنيسة الرسمية، أي الكاثوليكية – الأرثوذكسية، المبنية على الإيمان باتحاد الطبيعتين، الإلهية والبشرية، في شخص المسيح، اتحاداً غير قابل للانفصام.
الكنائس المنوفسية:
لقد كان مجمع خلقيدونية فاتحة الانشقاق العميق بين الكنيسة الرسمية والكنيسة السريانية في سوريا، والكنيسة القبطية في مصر، كما كان هذا المجمع منطلقاً حافلاً بالاضطهادات من جانب الدولة البيزنطية وكنيستها الرسمية، كما أنّه قد أثار في سوريا ومصر موجة من السخط ضدّهما.
المؤرّخون، على اختلاف نزعاتهم، من شرقيين وغربيين، ومن كاثوليك وسريان، وصفوا الأشكال الفظيعة التي اتخذنها هذه الاضطهادات من مذابح جماعية، وتقتيل فردي بالسيف والنار، ومن تشريد خارج المدن والأديرة، إلى ما هنالك من أنواع التعذيب التي تقشعرّ لها الأبدان، وكل ذلك باسم يسوع الناصري، رسول المحبّة والرأفة، وهي حالة حدت كاتباً سورياً كبيراً، أميانوس مارسلانوس، على القول:
"لم يرَ التاريخ بهائم متوحشة أشد افتراساً وقساوة من المسيحيين، بعضهم لبعض".
وكان من أثر هذه الأعمال أن تأسست في بلاد الشام الكنيسة السريانية، وفي وادي النيل الكنيسة القبطية، وهو عمل جبار يعود الفضل بالمبادرة به وإنجازه، إلى كاهن سرياني، يعقوب البراذعي، أي في السريانية ذو الثياب الرثة والممزقة، التي كان يرتديها، للتخفّي عن أعين الشرطة البيزنطية، التي كانت تلاحقه في كل مكان.
ولا غرو أنه كان من أثر هذه الاضطهادات، ليس فقط إنشاء كنيسة وطنية في سوريا، وهي الكنيسة السريانية، وكنيسة وطنية في مصر، هي الكنيسة القبطية، وذلك بجانب الكنيسة الرومية، الرسمية، بل وعلى الأخص انبثاق شعور عميق من العداء والكراهية للسلطة البيزنطية، هذا الشعور الذي سيمهّد الدروب للفتح العربي في القرن السابع.
وأمام هذه الانتفاضات التي ظهرت في الشام ومصر قبيل الإسلام، تساءل المؤرّخون الغربيون، أمثال الروسي فاسيليف، والروماني نقولا يورغا، والفرنسي شارل ديل والفرنسي أرنست رينان، والإنجليزي ألفرد بتلر، والنمساوي أرنست شتاين، وعدد كبير من سواهم، عمّا إذا كانت هذه الحالة النفسية التي هيمنت على أهل الشام ومصر إزاء الحكم البيزنطي، بل هذه الانشقاقات التي قضت على وحدة الكنيسة الشرقية في القرنين الخامس والسادس، عمّا إذا كانت وليدة الاختلافات في العقيدة حول شخصية المسيح فحسب، أم أنّ ثمّة عوامل أخرى قد ساهمت في انطلاقها، وهو الوجه من تاريخ المسيحيين في الشرق، الذي وجد فيه المؤرّخون الغربيون الذين ذكرنا، أنّ لتلك الانتفاضات أسباباً قومية، كانت سوريّة في سوريا، وقبطية في مصر، وإنّها ارتدت وقتئذ شكل الحركات الدينية، لأنّ الدين إنما كان الرداء الذي كانت تتجلّى به في ذلك العهد، كما سيجري بعدئذ في الإسلام، الحركات السياسية والاجتماعية.
وهي نظرة إلى حقيقة تلك الحركات، يقتضي توضيحها بالعودة إلى الجذور العرقية التي تمتّ إليها شعوب هذه المنطقة، الموصوفة اليوم بالشرق الأوسط .
ثانياً: الأصول السامية
ممّا لا شكّ فيه أنّ معظم الشعوب القاطنة في الوقت الحاضر الأقطار التي يتألف منها الهلال الخصيب، وهو التعبير الذي أوجده، في أوائل هذا القرن، المؤرّخ الأثري الأميركي، جيمس بريستد، بوصفه الأقطار المحيطة بالجزيرة العربية بالهلال الخصيب، إنّما هي محض سامية في أصولها.
والساميون الذين ورد ذكر جدّهم الأعلى، سام بن نوح، في التوراة، إنّما يؤلفون مجموعة واسعة من الأقوام التي تربطها صلة النسب من جهة، وعلاقة التربة من جهة أخرى، وهذه الأقوام، التي ظهرت منذ فجر التاريخ بشكل قبائل وعشائر، هي التي استوطنت بلاد الشام والعراق – ولربما أيضاً، وعلى حد قول بعض العلماء، مصر ونوبيا والحبشة.
والإشكال الذي أثار الاهتمام منذ أوائل القرن الماضي كان في التحرّي عن المحيط، الذي كانت تنطلق منه الأقوام السامية.
للجواب عن هذا السؤال، توصّل الألماني أدولف شبرنغر في أواسط القرن التاسع عشر، إثر دراسات وتحرّيات معمّقة، إلى القول الجازم "إنّ الساميين جميعهم عرب"، لأنّهم قد نبتوا من الجزيرة العربية، فتبعه بهذا الرأي، استناداً إلى أدلة جديدة، عالمان ألمانيان أخوان، شرادر وفنكلر، ولهذا الأخير عبارة معروفة، وهي "أنّ منبت الساميين الأصلي إنّما هو الجزيرة العربية".
وهذا الرأي قد تحوّل إلى نظرية علمية بفضل العلامة الإيطالي ليوني كايتاني، صاحب "حوليات الإسلام" الضخمة. ففي هذا المؤلّف، وبخاصّة في مؤلَّف آخر بعنوان "دراسات في التاريخ الشرقي"، قد توصّل إلى الدلالة على أنّ القبائل كانت تنفر، تباعاً، خلال الأزمنة الغابرة ومنذ أكثر من خمسة آلاف سنة قبل المسيح، من الجزيرة العربية منذ زمن بعيد جداً بسبب تحوّلها إلى صحاري رملية وبوادٍ عارية من النبات، وتزايد الأعداد البشرية في القبائل، تزايداً مستمراً، الأمر الذي كان يدفعها إلى اجتياز الجزيرة، لكي تنصبّ على الأقطار المجاورة، فتغمرها كمياه الأنهار الصاخبة، وتحتل أراضيها، وتشيد فيها الممالك والإمبراطوريات، التي كانت جميعها سامية في أصولها العرقية، باستثناء قبائل سومر التي ما زال العلماء مختلفين حول تعيين أوطانها الأصلية.
وهكذا كاد اليوم الإجماع أن يتمّ بينهم على أنّ الساميين قد وردوا، تباعاً، خلال الأزمنة الغابرة، من الجزيرة العربية، وإن كانت آراؤهم برحت متضاربة حول الأسباب التي كانت تدفعهم، دورياً، إلى اجتياز شواطئ الجزيرة والفيض على أقطار الهلال الخصيب.
وهذه النتيجة لتحرّيات وأبحاث طويلة، فقد لخّصها المؤرخ الفرنسي ألكساندر موريه بخمس من الأمواج السامية الآتية جميعها من الجزيرة العربية، على الوجه التالي:
· بلاد عقاد أو أكاد، في جنوبي العراق، وهي متاخمة لحدود الجزيرة العربية في الألف الرابع قبل المسيح.
· الكنعانيون، وهم فئتان؛ فئة كنعانيي سواحل بلاد الشام، الذين أسماهم الإغريق بالفينيقيين، مع العلم أنّ مدنهم الدولية (بفتح الدال) بمعنى الدولة – المدينية، كانت تتسمّى بالكنعانيين.
وفئة كنعانيي الداخل، الذين امتدّ انتشارهم إلى فلسطين وبعض أقسام من سوريا الوسطى، وذلك حوالي عام 2900، أي في أواخر الألف الثالث.
· الآراميون في سوريا من شمالها حتى دمشق، والعبريون في فلسطين، قريب عام 1500، أي في أواسط الألف الثاني.
· الأنباط بجوار عام 500، وذلك كله بالطبع قبل الميلاد.
· وفي القرن السابع، بعد الميلاد، اندفعت الموجة الأخيرة، التي أتت بالعرب، تحت راية الإسلام.
وهي موجات قد توقفت ظاهراً، منذ الفتح العربي، بشكلها العنفي، لكي تتحوّل إلى حركات تسلّلية، كانت تغذّي بصورة متواصلة، سكان سورا الساميين، بدم قبائلها، فكان منها من يبقى على حياة البادية والرحّل، وسواها على الحياة الحضرية في أنحاء سوريا كافّة، كما أثبت ذلك المؤرّخ الفرنسي رينه دوسو في كتابين معروفين.
وهذا مع الإشارة إلى أنّ الجغرافي الإغريقي، سترابون، قد أشار في مؤلَّفه المسمّى "بالجغرافيا" أنّ جبل لبنان كانت تقطنه، في القرن الأول من الميلاد، قبائل وعشائر عربية وإيتورية (علماً بأنّ الإيتوريين هم أيضاً من العرب)، وأن هذه الأقوام كانت تعيش من الغزو وسائر وسائل الحياة البدوية.
في ضوء هذه المعطيات التاريخية، قد نستطيع إجراء المحاولة للتحرّي، على وجه التقريب، عن الأصول العرقية لأهالي بلاد الشام، قبيل الفتح العربي في القرن السابع – مع الملاحظة أنّه من العسير تطبيق الطريقة ذاتها على أقباط مصر، الذين نبقيهم خارج بحثنا الحاضر، لأسباب عدّة ومنها على الأخص لأنّ للشعب القبطي المصري، الذي تحوّل إلى الإسلام فيما بعد، لكي لا يبقى منه في الوقت الحاضر سوى ستة أو سبعة ملايين فقط، جذوراً عرقية ممتزجة بالسامية والحامية السوداء، التي لمّا يتوصّل العلم إلى توضيحها.
ثالثاً: المسيحيون في سوريا والعراق
نحصر البحث بسكان سوريا والعراق، علماً بأن سوريا التاريخية إنما تشمل أيضاً فلسطين، وبالطبع لبنان – تاركين خارج هذا الإطار الأقباط في مصر، الذين كان يتألف من كثرتهم الساحقة شعب مصر قبل الإسلام.
فمن المسلّم به إذن أن الجماعات التي كانت قاطنة في سوريا والعراق، قبل الفتح العربي، كانت مسيحية برمّتها، كما أنّه من المتّفق عليه بين المؤرخين أنّ هذه الجماعات كانت منتمية إلى المنوفيسية في سوريا، وإلى النسطورية في العراق، وذلك بجانب جماعات كان لها أيضاً قيمتها العددية، مؤلفة من الروم، الخاضعين للكنيسة الرسمية في سوريا، ومن المنوفيسيين أتباع كنيسة إنطاكيا اليعقوبية، في العراق، وكان بعضهم في سوريا من أصل إغريقي والبعض الآخر من الآراميين، بينما كانوا في العراق، بمعظمهم على الأقل، من الآراميين ومن غير الفرس الإيرانيين.
المسيحيون في سوريا والعراق توسّموا الخير والخلاص على يد الفاتحين العرب
إلا أنّ في شمال سوريا، وبالتخصيص في مدينة خوروس، الواقعة قرب مدينة عزار، وكذلك حول دير كان كائناً على العاصي قرب مدينة أفاميا، وهو المكان المعروف اليوم بقلعة المضيق، تكوّنت جماعة الموارنة، الذين تسمّوا باسم مار مارون، منشئ هذه الجماعة، وقد عاش ناسكاً في القرن الرابع.
وحول العقيدة التي انبثقت عنها هذه الجماعة، التي هي آرامية في أصول أتباعها، تضاربت الآراء. فهنالك شبه إجماع لدى المؤرخين والمبشرين الغربيين، على أن هذه الجماعة قد نشأت بوحي وعلى أساس المنوثيلية، القائلة بأن للمسيح مشيئة واحدة في طبيعته الإلهية والبشرية، في حين أنّ المؤرخين والأحبار والكهنة من الموارنة إنما ينكرون بشدة ما يعتدّونه وصمة في "أرذوكسيتهم الدائمة".
ومهما كان الأمر، فالواقع أن هذه الجماعة كانت في وطنها الأصلي وليدة تربته مما يعني أنها كانت، ولم تزل، آرامية بعرقيتها، وإذا ما انتقلت، ابتداءً من القرن التاسع، على أغلب الظن، إلى أعالي جبال لبنان الشمالية، فإنما بقيت محافظة على وحدتها، وبالطبع على أصولها، مما يدعو إلى القول بأنها، هي أيضاً، سامية الأصل، وعربية المنشأ.
إلا أن في الواقع كانت تلك الجماعات في سوريا والعراق خليطاً من الآراميين والعرب، فكان العنصر الآرامي سائداً في المدن الساحلية والداخلية، وعلى الأخص في القرى والأرياف، بينما كان العرب، وهم كانوا وما زالوا منضويين في إطاراتهم القبائلية والعشائرية، متوطنين، منذ الأزمنة البعيدة، بأعداد كثيفة، في المناطق الشرقية من سوريا والمناطق الغربية والشمالية من العراق.
وهكذا نشأت وازدهرت في تلك البوادي إمارة الغساسنة في سوريا، وكانوا يعتنقون المذهب اليعقوبي، ومملكة اللخمين في الحيرة من أعمال العراق، التي كان ملوكها ورعاياها من النسطوريين، - مع الملاحظة أن دولاً عربية قد نشأت أيضاً في تلك الأصقاع، قبل القرنين الخامس والسادس، اشتهرت منها جمهورية البطراء في الأردن، ومملكة تدمر (بالميرا) في سوريا.
هذا وقد كانت الآرامية اللغة المهيمنة في ذلك العهد، وقد بقيت الآرامية منتشرة، مدة ستة قرون على الأقل، لدرجة أنها غدت اللغة الدولية، وأيضاً الرسمية حتى في المملكة الفارسية- وكانت هي اللغة الدارجة في فلسطين، بدلاً من العبرية التي اندثرت كلغة محكية ومكتوبة، فانزوت في طقوس العبادة لدى اليهود – ومن المعروف عن المسيح أنّه بشّر بالآرامية وليس بالعبرية، وأن آخر كلماته على الصليب إنما لفظها بالآرامية.
غير أنه بجانب الآرامية، كانت العربية اللغة الدارجة في بوادي الشام والعراق، وأيضاً في المدن والقرى المتاخمة، وعلى الأخص في حمص وقنسرين وفي وادي الأردن وفي الشام، وفي الأنبار والمدائن والموصل والرها ونصيبين ألخ، في العراق والجزيرة. وذلك كله بجانب اللغة الإغريقية، لغة الدولة والدواوين في سوريا، والفارسية لغة الساسانيين في العراق.
ومن المعلوم أن اللغة إنما تؤلف أحد المؤشرات الدالة على الأصول العرقية، بل هي المؤشر الأكبر في الجماعات الدولية، لدرجة أنه بفضل اللغة القديمة جداً في الهند، والمعروفة بالسانسكريتية، قد توصّل العلماء إلى كشف الغطاء المجهول الذي كان يحجب أصول الشعوب الآرية الموصوفة أيضاً بالهندو-أوروبية، أو الهندو-الآرية.
فإذا كانت الآرامية الممتزجة بالعربية اللغة العامية والأدبية في الوقت ذاته، في جماعات سوريا والعراق المسيحية، فلأن هذه الجماعات إنما كانت متحدرة من أصل سامي، وأن أصولها القريبة والبعيدة، كانت متصلة بالجزيرة العربية، وذلك إثر الموجات البشرية الكثيفة التي ما فتئت، مدة أربعة أو خمسة آلاف سنة، تجتاح أقطار الهلال الخصيب.
رابعاً: القابلية النفسية للفتوحات العربية
وكان من الطبيعة الإنسانية أن تولد تلك الانقسامات اللاهوتية، والاضطهادات الدينية، نفوراً وكراهية وعداء في سوريا ومصر، حيال الإغريق في بيزنطيا، كما كانت عليه الحالة النفسية في العراق تجاه الساسانيين الفرس، الذين لم يمتنعوا هم أيضاً عن اللجوء إلى العنف وسفك الدماء لإخضاع المسيحيين، من نساطرة ويعقوبيين، إلى سياستهم المجوسية.
وكان لا بدّ للأصول السامية من أن تهيء النفوس لهذا النفور نحو المملكتين العظميين في ذلك الحين، وهي التي دفعت سكان سوريا والعراق على الأخص، إلى أن يتوسّموا الخير وينشدوا الخلاص على يد الفاتحين العرب، ليس فقط من محنتهم الدينية، بل أيضاً من ظلم الضرائب وكثرتها التي كانت تثقل كاهل المكلفين في أقطار الهلال الخصيب ووادي النيل.
وهذه المعطيات أجمع المؤرخون على أنها ساهمت كثيراً بتسهيل سبل النصر للفتوحات العربية، لدرجة أنه جزموا بأن سكان هذه الأقطار قد تقبلوا العرب بقلوب رحبة، لأنهم رأوا فيهم محرّرين لا غزاة.
وحسبنا الاستشهاد ببعض الأقوال من هذا القبيل، كميخائيل السرياني، بطريرك السريان الأرثوذكس في القرن الثاني عشر، أي بعد خمسة قرون من الفتح، وفي تاريخه الطويل نجد عبارات استهجان لسياسة الروم، كالتالية:
"لأنّ الله هو المنتقم الأعظم، الذي وحده على كل شيء قدير، والذي وحده إنما يبدّل ملك البشر كما يشاء، فيهبه لمن يشاء، ويرفع الوضيع بدلاً من المتكبّر، ولأنّ الله قد رأى ما كان يقترفه الروم من أعمال الشر، من نهب كنائسنا ودياراتنا، وتعذيبنا بدون أيّة رحمة، فإنما قد أتى من مناطق الجنوب ببني إسماعيل، لتحريرنا من نير الروم ... وهكذا كان خلاصنا على أيديهم من ظلم الروم وشرورهم وحقدهم واضطهاداتهم وفظاعاتهم نحونا".
وهي شهادة رهيبة، نجد مثلها، مما يتعلق بأقباط مصر، في تاريخ يوحنا النيقوسي، الذي تولى أسقفية نيقو في دلتا النيل، بعد فتح مصر بقليل، وكذلك في تاريخ سواروس الأشموني، الذي جاء من بعده، وهي شهادة لا شك بأنّها تدل على ما كان عليه مسيحيو مصر وسوريا والعراق من الشعور نحو البيزنطيين والفرس من جهة، وحيال العرب المسلمين من جهة ثانية.
ولأنهم قد تحققوا من هذا الوضع النفساني، الذي كان عاملاً حاسماً في إنجازات الفتح العربي، بسرعة مذهلة، فقد توافق المؤرخون الغربيون في عصرنا على إعلان هذه الحقيقة، أمثال الهولندي دي غوج، والبريطاني ألفرد بتلر، والفرنسي أرنست رينان وعدد كبير من سواهم.
ونكتفي في هذا المضمار بإيراد مقطع من دي غوج، في بحثه العميق حول فتح سوريا، الصادر في أوائل القرن الحالي، وفي معرض تذكيره بالتبعة التي يتحملها الإمبراطور هراقليوس، أو هرقل، في ضياع سوريا، بسبب سياسته الخرقاء، بفرض تعاليم المجتمع الخلقيدوني والمنوثلية، بوسائل شتى من الاضطهاد، وذلك مع إشارته إلى ازدياد الضرائب التي أثقلت كاهل سكان سوريا، مما حدا هؤلاء السوريين على اليقين بأن سلطان العرب سيكون أكثر رحمة وأشد حرية لمعتقداتهم. يقول هذا المستشرق الهولندي أن العرب والسوريين معاً كانوا يرون في بلاد الشام، جزءاً لا يتجزأ، مكملاً من الجزيرة العربية، وذلك بقوله ما نصّه:
"منذ أبعد الأزمنة، كانت سوريا موطناً للعرق السامي، وعلى الرغم من أن الحكومة كانت، في عهد بيزنطيا، متمركزة في القسطنطينية، فإن الشعب كان بمعظمه سامياً وحتى عربياً، ولذلك لم يكن من أثر الفتح العربي الاستيلاء على قطر غريب، الغاية المباشرة منه جباية الضرائب من سكانه، وإنما تحرير جزء من الوطن العربي الذي كان رازحاً تحت طغيان الاحتلال الأجنبي، وبالتالي استعادة عدد عظيم من المواطنين المهيئين نفسياً لإشراكهم بالدفاع عن مجد الله ونبيه".
ولا غرو أن السياسة التي اتبعها العرب المسلمون منذ أول فتوحاتهم قد أعدّت تلك الجماهير في البلاد التي دانت لهم، إلى تقبل سلطاتهم، وهي سياسة كانت، هي أيضاً، فتحاً بذاتها، في عالم الفكر والدين. ومن المعلوم أنها استندت إلى آيتين كريمتين، الواحدة التي تقضي أن "لا إكراه في الدين"، والثانية أن على أهل الكتاب، الذين يختارون البقاء على دينهم، أن "يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
فمن الممكن وبدون مبالغة القول بأن الفكرة التي أدّت إلى انتجاع هذه السياسة الإنسانية "الليبرالية" إذا جاز استعمال هذا الاصطلاح العصري، إنما كانت ابتكاراً عبقرياً، وذلك لأن للمرة الأولى في التاريخ انطلقت دولة، هي دينية في مبدئها، ودينية في سبب وجودها، ودينية في هدفها، ألا وهو نشر الإسلام، من طريق الجهاد، بأشكاله المختلفة، من عسكرية ومثلية وتبشيرية، إلى الإقرار في الوقت ذاته بأن من حق الشعوب الخاضعة لسلطانهم، أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وطراز حياتها – وذلك في زمن كان يقضي المبدأ السائد إكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم، بل وحتى على الانتماء إلى الشكل الخاص الذي يرتديه هذا الدين، كما كان الأمر عليه في المملكتين العظميين اللتين كان يتألف منهما العالم القديم.
هذه القاعدة التي لم تندثر في البلاد الغربية إلا بفضل الثورة الأميركية والثورة الفرنسية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
وكان لا بدّ إذن لهذه السياسة الإسلامية، المتحدرة عن القرآن، من أن تسفر عن نتيجتين حاسمتين ما لبثت آثارهما ماثلة في الشعوب العربية، وهما قيام الطوائف المسيحية على أساس النظام الطائفي من نحو، ودخول سكان الأقطار التي فتحها العرب في دين الإسلام من نحو آخر.
فتلك الجماهير الكثيفة، التي تشكل كثرة أهالي سوريا ومصر والعراق، إنما كانت تدين بالمسيحية، وقد اعتنقت الإسلام بأفواج متلاحقة، منذ القرن الأول من الهجرة بملء حريتها، في حين أن من بقي من هؤلاء النصارى، موزعين إلى طوائفهم المعروفة بتسمياتها المختلفة إنما هم شهود عدل، عبر التاريخ، ليس على سماحة الإسلام – وهو تعبير لا يفي بالواقع، لأن وجودهم كأهل ذمّة في الماضي، إنما كان مبنياً على قاعدة شرعية وليس على شعور، من طبيعته أن يتضاعف أو أن يضعف – وإنما على إنسانية هذا الدين العربي الذي أنزله القرآن.
وهو الدين الذي أقرّ لغير المسلمين، ليس فقط بحقوقهم الفردية والجماعية الكاملة، بل وأيضاً بالمواطنية الشاملة في عصرنا الحاضر، الذي زال فيه نظام الذمّة، لكي يحل محله نظام الحريات العامة، المنطوية، لزاماً، على مبدأ المساواة التامّة في المواطنية.
ألم يكن الرسول العربي الذي قال في حديثه الشهير:
"ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلّم بالعربية، فهو عربي"
* (بحث قدّمه الدكتور إدمون ربّاط خلال المحاضرات التي نظّمها النادي الثقافي العربي في بيروت عن المسيحيين العرب– آذار/مارس 1981، ونشرته مجلة "الحوار" في عددها الثالث الصادر في حزيران/يونيو 1989).