الاثنين، 22 أغسطس 2011

حرة تروي أيام (عارنا) في معتقلات الطغاة..



بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
من بين مئات، بل آلاف القصص المفجعة في بلاد الرافدين، كانت قصة اليوم، والتي لم تكن سوى حلقة من سلسلة طويلة من المآسي والآلام والأحزان والإجرام مرت بها نساء أرض السواد..
إليكم الحلقة الثانية و(الأخيرة) من هذه القصة التي أكتبها لكم بالحبر، في الوقت الذي عاشتها هذه الحرة الأبية وخزنتها في ذاكرتها بالدماء، والدموع، والقيح، والسياط، وامتهان كرامة الإنسان
!
حسين المعاضيدي

kolonagaza7

شبكة البصرة
حسين المعاضيدي
تفاصيل كثيرة مؤلمة، مرعبة، مخيفة، تخللتها قصة هذه الحرة، التي وجدت نفسها في طريق الحق وحيدة، بلا مناصر لها في الأيام السود التي عاشتها، وبلا مدافع عن عفتها في زمن الهوان الذي حل بنا، وبلا حافظ لها شرفها في زمن التهاوي والرذيلة التي غاصت فيه كثير من الأقدام، من عملاء وأنصاف رجال..
طريق موحش خلا اليوم من ندرة السالكين، بعدما تساقط من عليه الأهل والأصحاب، والأحباب والخلان، والمعارف والأغراب، فمنهم من أرتد، ومنهم من خان، ومنهم من غدر، ومنهم من ثبت بانتظار الظفر، فآخر الطريق نصر يعز الله به الإسلام، ويقرّ به عيون المسلمين، أو شهادة نسأل الله القبول لمن نالها وسبقنا إليها..
طريق لم يقتصر سلكه على الرجال، بل سارت في عتمته المظلمة والتحقت بركبه الكثير الكثير من نساء الإسلام، فكانت ظلمته نوراً إلى الجنان، وعثراته سبيلاً إلى العلياء.. وعلى ذات الطريق تجد العقبات، والحسرات، والزفرات، والمنغصات، والآهات، والأحزان، مثلما تجد فيه التعذيب، والأسر، والقتل، والاعتقال، والذي طال حتى النساء.. وحرة اليوم واحدة من تلك النساء!
تواصل هذه الحرة المسلمة سرد تفاصيل سرقة سنوات عمرها ومصادرة حقها في العيش بسلام وأمان في ربوع عائلة متكاملة الأفراد، أب وأم وزوج وأخ وأبناء، فتستمر في رواية أحداث قصة مفجعة، لا يصدقها ولا يمنحها جواز المرور إلى العقل إلا من عاش أحداثها، وتعايش مع شخوصها، وسكن على ضفاف الرافدين، فهم الشهود على ما يجري هناك، وهم الضحايا، وهم المتفرجون في مسرح الجلاد!
تقول هذه المسلمة الحرة: بعد أن اعتقلتني قوات الاحتلال، وأهانتني بطريقة وقحة وجردتني من ملابسي مدنسة ستري، وبعد أن شهدت بعيني على ما يجري للنساء هناك، أبلغوني أن وزارة الداخلية العراقية التي تأتمر بإمرة الاحتلال، ويقودها الفرس المجوس، هي من ستكون وجهتي الجديدة بعد أيام من الذل والقهر والتنكيل الذي عشته في معتقلات الأميركان..
وضعوني في همر أميركي في ظهيرة ذلك اليوم القاتم بعد أن أعادوا إليّ ملابسي التي كنت أرتديها يوم زيارتهم لداري، وسارت بي العجلة العسكرية، بعد أن عصبوا عيني، وقيدوا يداي إلى الخلف، حتى خروجهم من مقر المنطقة الخضراء الذي ظلت هي مكان اعتقالي حتى لحظة مغادرتي لذاك المكان، الذي تحول من مكان كان الجميع يتمنى زيارته قبل زمن الاحتلال، إلى مكان لا يزوره إلا من كبلت يديه وعصبت عينيه، أو بصفة الجاسوسية والخيانة والعمالة التي يحملها كحال حكام العراق اليوم الغارقين في العمالة حد هاماتهم..
فجأة شعرت أن هناك من يحاول رفع العصابة عن عيني، وبالفعل فقد كان الجندي الأميركي الذي يجلس بجانبي هو من كشف عن عينيّ، وحينما نظرت من حولي لأتفحص المكان وجدت عيني تبصر معظم أجزاء بغداد، حيث كان المكان جسر القائد ذو الطابقين الذي يربط ما بين الكرخ والرصافة من منطقة جنوب بغداد، ومن ضمن ما رأيت رتل من الآليات المختلفة الأنواع يضمها ذلك الرتل الذي كان يقلني إلى حيث المجهول، وما أن اجتاز ذلك الرتل الجسر حتى سلك طريق الدورة، الدورة حيث مسكني وبيتي وعائلتي التي لا تعلم مصيري وما حل بي، بل أنا من لا يعلم مصيرهم وما حل بهم من بعدي!
سار بي الرتل وفي داخلي غصة تكاد تفتك بي، فها أنذا أمرّ بالقرب من داري في طريقي إلى الموت، الذي أن لم يزرني في معتقل المحتلين الصليبيين فلن يغادرني أو يخطئني بالتأكيد في زنزانة الفرس المجوس..
وفجأة وحينما وصل الرتل إلى قلب الدورة وعلى مقربة من سكة القطار الشهيرة التي تفصل بين أحياء الدورة توقف الرتل، وقطع الشارع من جهتيه الشمالية والجنوبية، ليتقدم مني جندي ترجل من عربة أخرى، فيما تولى ذلك الذي يجلس بجانبي نزع الأصفاد من يدي، فطلب مني ذاك القادم من عربة أخرى الترجل والنزول!!
بقدر ما أسعدني الأمر فقد أخافني، بل أرعبني، فهل هو إطلاق السراح، أم هي تلك الحرية الزائفة التي تسبق الموت؟! للحظة شعرت أنها لحظات الاحتضار والانتظار وتحقيق الأمنيات قبل الشنق والإعدام واستقبال الرصاص..
لكن الموت الذي كنت أترقب أن يخطف روحي غادرني، فقد سار الرتل العسكري وتركني متوقفة وسط الطريق، غير مصدقة ما يجري حولي، أهو الخلاص، أهي الحرية، أهي الحياة، أهي النجاة!؟
لم أصدق، ولن أصدق، ولكن تلك هي طرق المحتل، يعتقل، يعذب، ينكل، وحينما ينال المرء حريته فجأة لا يعرف لماذا اعتقل، وكيف كان إطلاق السراح، وكأن الشاعر البغدادي(الزهاوي) حاضراً وهو يصف حال من يعيش في بلاد الرافدين حينما قال قبل قرن من الزمان، وذا بلد العجائب والغرائب، ليس فيه قياس، والمغفل فيه من يقيس، لينطبق هذا القول على واقع العراق المرّ اليوم في ظل الاحتلال!
عدت إلى داري بعد أن استقليت سيارة أجرة، رفض سائقها أن يأخذ المال، راجياً إياي أن أجعله هو بريد الخير، ومرسال البشائر إلى عائلة تنتظر على نار معرفة مصيري، فكانت المفاجأة أكبر من أن يتصوروها، فقد فقدت أمي وعيها، وعمت الأفراح الدار بعد تعب ونصب وعناء وشقاء، تخللها بكاء وعويل لحالي، الذي كان لا يسر عدو أو صديق، بعدما عدت فجأة مثلما أخذوني فجأة في غفلة من الزمان!
لم يكن أبي قد عاد بعد من غربته، ولا إخوتي، فلم يبلغهم أحد لغاية تلك الساعة ما جرى لعائلتنا في الغياب، خوفاً عليهم من العواقب، لكن بعد وصولي أبلغوهم بما جرى فوعدوا بقرب العودة، وحمدوا الله وشكروه وهنئوني على سلامتي، فمن يدخل إلى تلك القلاع لا يمكن له أن يعود بسلام، وأن عاد فأغلب الأحيان يكون بلا رشاد، فكم من شريف، وحر وطاهر، ونزيه، وبرئ ابتلعته تلك الزنازين، واغتالته الأوباش يد، ولم يعثر له على طريق!
لم تنته القصة هاهنا، فما مر ليس سوى نزهة في بلاد العم سام الذي زارنا في بلادنا محتلاً للأرض، وغاصباً للعرض، وهاتكاً للحرمات، حتى جعل من دورنا وبيوتنا معتقلات وزنازين وسجون، ومن مؤسساتنا الحكومية أوكاراً للخطف والسلب والنهب والاغتصاب والقتل على الهوية بإدارة ورعاية أحفاد المجوس، فما هي سوى أسابيع أربعة قد مرت حتى اختل كيان البيت من جديد، في ليلة سوداء قاتمة، غادرها القمر على استحياء، لتأتي الخفافيش كعادتها في آخر الليل ويتكرر المشهد..
كان القتلة وأهل الجرم، أرباب سجون اللصوصية، والخمر، والزنا، على علم بأنني غادرت معتقلات اليهود، وعدت إلى داري بسلام، لكن كيف لي أن أعود بسلام في ظل منطق يسود عراق اليوم، بعد أن بات العدو الفارسي هو السيد، والمحتل هو الراعي للإجرام، والحاكم هو الجلاد، والزبانية هم أدوات الإعدام.. فقد داهمت دارنا من جديد عدة سيارات مدنية، برفقتها مركبات للشرطة الحكومية، وراحوا يبحثون عني، فأخرجوني من بين أخواتي، في مشهد بات يتكرر كل يوم، وفي كل دار، مشهد اختيار الضحية الأولى، بانتظار أن تمر السكين على باقي رقاب الخراف!
ثارت أمي وانتفضت، وصرخت وجزعت الأخوات، وراحت كلمات تخرج من تلك الأفواه الفاغرة تؤكد لهم أن جراحي لا تزال من وطأة الأميركان تأن، فتعالت الضحكات والقهقهات وهي تعلن لنا ساخرة أن علاج الجراح سيكون في زنازين العراة..
التهبت أمي فأصبحت كالنمرة الجريحة في دفاعها عني، بعدما تيقنت أنني لن أحتمل مأساة أخرى، فكيف وقد اعتاد الناس أن لا يخرج أحداً حياً من حظيرة الجزار، فألقت بنفسها عليهم، قبّلت أرجلهم، أقدامهم، أحذيتهم، فرفستها وركلتها تلك الأحذية والأقدام، توسلتهم مرة واثنتين، فتلقت ضربات بأخمص البنادق، لم تستسلم، فلم يعد في القلب متسعاً لمزيد من الآلام، قالت لهم، لن تمروا إلا على جثتي، وما هي لحظات حتى كان الرصاص يملئ الدار، ليستقر معظمه في جسد أمي، التي حتى وهي تنازع الموت ظلت ترقب مصير ابنة خطفتها يد الجناة، ففارقت الحياة بعد أن لفظت آخر أنفاسها وهي تنادي على الكلاب، أرحمونا، أرحمونا، لسنا سوى نساء!
قتلت أمي، ويُتّمت عائلتي، وهدم كيان أسرتي، واُسرت أنا من جديد، وبدل من أن يضعوني كالمرة السابقة في همر، كالشياه، رميت هذه المرة في صندوق إحدى السيارات كما ترمى أكياس القذارة في حاويات القمامة..
كانت لحظات ألم، شابها صمت مطبق شديد من هول صدمتي، فحتى البكاء لم يعد يجدي نفعاً، ولم يعد للضرب والركل تأثير في الجسد العليل، فالمنظر حولني إلى جماد، لم أنطق، لم أتأوه، ولم أقل حتى لا، بعدما أبصرت منظر أمي التي فارقت أمام ناظريّ الحياة..
كنت أظن أن وجهتي ومستقري ستكون إحدى مراكز الشرطة، أو واحدة من مديريات التحقيق المشبوهة الموبوءة بالإجرام، أو من سراديب الأمن ودهاليز المخابرات والاستخبارات، خصوصاً أن عدد من مركبات الشرطة شاهدتها وهي ترافقهم قبل أن يضعوني في صندوق تلك السيارة المظلم، والذي تعفنه رائحة دماء، بعضها متيبس، وبعضها الآخر لا يزال طرياً، حتى ظننت أنه نزف من جراحاتي..
كنت وأنا شبه فاقدة الوعي مما جرى لي أستمع لأصوات من حولي، بعضها لسيارات تمر من قربي مرور السحاب، وأخرى لآليات أميركية أصبحت أميز صوتها من بين آلاف الأصوات، وأخرى لجنود يتضاحكون في سيطرات ونقاط تفتيش لم تخلصني من الأسر والاعتقال، وكيف لها أن تخلصني وهم أنفسهم الجناة!؟
توقفت السيارة، بعد أن عبرت بي جسوراً، وقطعت أنهاراً، واجتازت أزقةً وأحياء، ثم فتح باب، فأغلق بعد أن تحركت أمتار للأمام، وحينما فتحوا صندوق السيارة أخرجوني وجروني، كما تجر البهائم، إلى غرف خاوية ببلاط أملس، وألقوني في إحدى الزوايا، بعد تقييد يداي وأرجلي ثم غادروني، تاركين إياي لوحدي لا تواسيني سوى أوجاعي وآهاتي وآلامي وأحلامي المفقودة وذكريات أمي المقتولة..
أحسست بوقع أقدامهم وهي تغادرني، تذكرت لحظة الموت، تلك التي يمر بها كل إنسان، حينما يسمع الميت وقع أقدام دافنيه وهم يغادرونه تاركيه لأسئلة منكر وحساب نكير، لكن هذه المرة الحساب لن يكون على يد منكر ونكير، بل سيكون على يد (أستاذ) و(سيّد)!!
مرّت ساعات وأنا على حالي تلك، كنت أراها شهوراً ودهوراً طوال، قبل أن يكسر جمود ذلك الوقت وقع أقدامهم التي عادت، لتعود معها الآهات والأنين..
وقفوا على جثتي الهامدة، كنت وقتها أقرب للموت منه للحياة، كانوا وحوشاً، قساة، لم يهزهم أو يحرك مشاعرهم حتى منظر غرقي وسط البول، بعدما منعوا عني حتى الوصول إلى الحمام..
تفوه أحدهم بلكنة هي أقرب للفارسية منها للعربية، سيسألك (الأستاذ) وتردين على جوابه باحترام، فأي احترام هذا الذي يبحث عنه (أستاذ) من امرأة غارقة في بولها والدماء، وما يضحك أكثر مما يبكي أن يبحث الجلاد من الضحية عن الاحترام بعدما قتل من أتت بها إلى الحياة، أمي التي لم تكن كسائر النساء والأمهات، ولكن هذا هو زمن الهوان الذي يعيشه عراق الرافدين في زمن تسلط الأقزام وفاقدي الاحترام!
سألني (الأستاذ) أسئلة مبهمة عن الخلفاء الراشدين، وأخرى عن مدى حبي لسيدتنا عائشة، وتارة كانت الأسئلة عن يزيد ومعاوية، وبقية الصحابة الأطهار، قبل أن تتحول الأسئلة عن القاعدة، والإرهاب، والجهاد، ليختتمها بالسؤال عن زوجي الذي أكثروا من الأسئلة بخصوصه، لتأتي إجاباتي، كالعادة، لا ترضي ذلك (الأستاذ).. كانت عصابة العين تمنع عني معرفة هوية وشكل وهيأة ذاك المسمى (أستاذ) وأن كان مدنياً أم عسكرياً، لكن القسم الأول من أسئلته كان يوحي بأن عمامة (الأستاذ) بحجم إطار متهرئ، والشق الثاني من الأسئلة كانت تجعل منه في خيالي شرطياً بخمسة نجوم..
لم تعجب (الأستاذ) أجوبتي، فأنا لا أعلم عن حال زوجي شيء، ما جعل السياط تنهال عليّ من كل حدب وصوب، حتى وصلت صدى صرخاتي أعنان السماء، لكن ما تأثير صوت الصراخ في مناطق لا تسكنها إلا الأشباح والقطط والنعام والدجاج!
مزقوا عني ملابسي بسياطهم، التي تركت أثارها كخارطة في كتاب، فتناوب الاحمرار والازرقاق على جسدٍ بات ملطخاً بالدماء ومشوهاً بآثار السياط..
وانتهى ذلك اليوم كأول بدايته بول، وآلام، وأوجاع، وسياط، ليلقي الليل بأستاره عليّ وأنا عارية، غارقة بالدماء، ويكون ظلام ليلي هو ستري بعدما جردوني من الثياب!
مضت أيام وأنا على هذا الحال والمنوال، وكانوا يلقون لي بقاذورات آكلها وأنا معصوبة العينين، دون أن أبصر أو أعلم نوع ما يدخل جوفي من ذلك الطعام، فالحال جعلني لا أتتردد حتى في التهام القاذورات من أجل أن أسدّ رمق الجوع الذي كان يضيف لأوجاعي أوجاع، حتى جاءت تلك اللحظة التي جعلتني أنسى الجوع، والألم، وقساوة الأيام عليّ، وجور الزمان، حينما تعالت الأصوات القادمة، وميزت بحدسي الذي لا يخيب صوت زوجي الذي بات يقترب مني شيئاً فشيئاً حتى جاورني، أو بات على مقربة مني.. ناديته، أهذا أنت يا (حسن)، رد عليّ، تحملي وأثبتي..
تيقنت أنه هو بالفعل، ولكن كيف اعتقلوه، وكيف تمكنوا منه، ثم أي ثبات وصبر ذلك الذي يتحدث عنه، وما الذي تبقى لي حتى أحتمل أكثر، أأحتمل الجوع، الألم، الذل، العار، مقتل أمي، زوجي المكبل بجانبي، شقيق زوجي الذي أتوا به هو الآخر!؟
شعرت بالانهيار، وأخذت أبكي مستنجدة به، لكني كنت كمن يستنجد من الرمضاء بالنار، فما زاد استنجادي بزوجي (حسن) إلا ألماً وقيحاً لي وله، فهو أسيرهم، مثلي، ومقيد بالأغلال، كما أنا، وزادوا عليه حينما أطلقوا الرصاص على رأس أخيه ليردوه قتيلاً أمام عينيه، مثلما فعلوا مع أمي!
ناديته ألست في سفر، ألم تكن خارج البلاد، ما الذي أعادك ليأتوا بك إلى هنا.. كلمة واحدة استقرت في ذهني ولم تفارق مخيلتي منذ ذلك التاريخ، (صحوة سامراء)، فقد ظهر أن كلاب الصحوة في مدينة سامراء تمكنوا من اعتقال زوجي وشقيقه وقاموا بتسليمهم على الفور إلى أجهزة الحكومة العميلة المرتدة لينتهي بهم الحال، كانتهاء حالي، عند (السيد) المعمم و(الأستاذ) الجزار!!
أخذ المحقق يطلب مني أن أجبره على الكلام، فقد كان يرفض النطق بأي شيء، حتى أن تلك الكلمات التي قالها لي هي كل ما سمعه منه الكلاب منذ تسليمه لهم من قبل صحوات العار، لهذا جاءوا به إليّ ليستنطقوه، ولن أتحدث عما جرى بعد ذاك، غير نقل آخر كلماته التي قالها لي قبل أن يأخذوه، وهو يختم تلك الدقائق القاتلة بالقول: (أصبري وأثبتي، موعدنا الجنة، بإذن الله)!
ثم أخذوه من عندي بعدما يئسوا من استنطاقه، ولم اعثر له منذ ذلك التاريخ على جثة أو أثر يوصلني إليه، وأقرب الاحتمالات أنهم أعدموه وقتلوه على أيديهم بعدما عجزوا عن الحصول على شيء منه! ورموه في مكان ما ليكون رقماً مكملاً لأعداد الجثث المجهولة الهوية التي باتت تعج بها شوارع بغداد.
بعد يوم من ذلك التاريخ أتصل أهل الجرم والدناءة والوضاعة بعائلتي طالبين منها تجهيز المال لافتدائي به، وإلا فأن القتل هو المصير الذي ينتظرني، وكان والدي قد عاد من سفره، وإخوتي قد سبقوه في ذلك..
كانوا يعيشون ويحيون على وقع جرس الهاتف ويموتون، فكلما رن جرسه تراكضت الخطى وتصاعدت نبضات القلوب، بل وصعدت القلوب نفسها حتى تكاد تبلغ الحناجر، فقد كانوا على نار وجمر الانتظار يجلسون، لعل هناك من يأتيهم بشيء عني!.
جاء النداء الذي كان مصدره (السيّد) وهذا كل أسمه، (سيّد) وكفى، أخبرهم أنني بخير، وأنني أعيش وأنتظر أن يشتروني منهم، وأنهم أن لم يدفعوا فلن يروني، وسأكون في خبر كان..
كان المبلغ أول الأمر خيالياً، (عشرة دفاتر)، وبعد أخذ ورد أستقر المبلغ على(سبعة دفاتر) أي سبعون ألف دولار، فالدفتر في عراق اليوم يعني عشرة آلاف دولار..
حمل أبي المبلغ معه ليذهب إلى حيث موعد التسليم والاستلام، أراد إخوتي (فؤاد) و(أحمد) مرافقته، فرفض رفضاَ شديداً أول الأمر، وأصر على الذهاب وحيداً، لكن إخوتي كانوا أشد منه إصراراً على مرافقته، غير مدركين، وربما يدركون، أن لحظات خروجهم من تلك الدار المنكوبة بمقتل أم، وخطف أخت، هي آخر ما يمتلكونه من رصيد السنين في هذه الحياة، فهم سيكونون تحت رحمة مجرمين متسلحين بالنجاسة والعهر والخطيئة قبل تسلحهم بالإجرام والإلحاد..
أستقل الثلاثة، أبي وإخوتي، سيارة قديمة تعود لعمي، بعدما باع والدي سيارته وكل ما يملك من أجل تأمين مبلغ الفدية، متجهين إلى حيث الموقع المتفق عليه عند (السدّة) كما يُسمّونها، تلك السدّة التي تقع خلف (مدينة صدام) أو (الثورة) سابقاً، والتي تسمى اليوم بمدينة (العهر)، والتي كانت شاهدة على جرائم يندى لها جبين الإنسانية ارتكبتها المليشيات الحكومية القذرة، بحق من يخالفهم في الدين والعقيدة!
أما أنا فقد دخل عليّ في ذلك اليوم الموحش من ينادونه بـ(السيّد)، وراح يحادثني تارة، ويركلني تارة أخرى على أصوات طقطقات سبحة كانت أصوات تلاطم خرزاتها تتصاعد مع حركة أقدامه وهو يرفسني بها، لتحفر في ذاكرتي وتنقش أسوأ الذكريات..
كان (السيّد)، الذي لم أبصر وجهه، يضع قدمه على ظهري، وأحياناً على رأسي وهو يحادثهم ويوصيهم بالقيام بما هو مطلوب بعد استلام المبلغ، في وقت ألتزمت أنا الصمت، فقد كانت الأمور تسيير بقرب الإفراج عني، وكنت أخشى أن أتحدث بما يُغضب (السيّد) أو يزعج (الأستاذ) حتى تتم صفقة الفدية وتنتهي على خير ما يرام..
غادر (السيّد) الذي أنهى زيارته واختتمها بوصايا مبهمة، مشفرة، وبصقة تناثرت على بقايا وجهي المتورم، وكلمات بذيئة بحقي فاحشة خادشة للحياء!
حملني أثنين من الكلاب بعد أن ألبسوني خرقة بالية، وأضافوا عصابة ثانية على عيني، ووضعوني إلى جنبهم هذه المرة داخل السيارة، وليس في صندوقها.. كانت السيارة حكومية، وتابعة إلى الشرطة على ما يبدو، إذ سرعان ما انطلقت منها صفارات الإنذار ما أن تحركت من مكانها، بعدما طلبوا مني النزول إلى الأسفل واضعين رأسي ونصف جسدي تحت أقدامهم.
توقفت السيارة في مكان ما، بدا لي أنه شبه منعزل، فلا حركة سيارات، ولا ضجيج، غير حفيف الهواء وهزيز الرياح، وترجل بعض ممن كانوا معي بالسيارة، وطلبوا مني عدم الحراك، وفجأة سمعت صوت والداي، فدبت في أوصالي الحياة، فصرخت أبي أنت هنا، تعال وخذني منهم..
وصلتني آخر كلمات والدي في هذه الحياة حينما قال لي: أبنتي هل أنتِ بخير.. سنأخذك.. اطمئني، أحضرنا المال.. لكن رشقة رصاص انطلقت من بنادق لتقطع الصوت، وتعقبها أصوات أخرى بين الصراخ والتهديد والوعيد، تمكنت من فرزها بيسر وسهولة، أنها أصوات إخوتي (فؤاد) و(أحمد) الذين حلمت برؤيتهم منذ سنين، بعدها سمعت رصاصات أخرى أسكتت جميع الأصوات، وحينما حاولت رفع رأسي، رغم قيودي وعصابة عيناي، تعرضت إلى ضربة على الرأس، شجته، فنزفت بغزارة وغرقت في بولي من شدة الرعب والخوف الذي عشته في ذلك الموقف العصيب، الذي انتهى بمقتل والدي وإخوتي، دون أن تتمكن عيناي من رؤيتهم وأنا التي كنت أتحرق شوقاً إلى رؤياهم، فلم أتمكن بعدها من تحريك جسدي حتى أغمي عليّ لأصبح جثة هامدة لا أثر فيها للحياة!
كان قدري الذي لم أكن أتمناه، من هول ما أصابني، أن يبقى خيط رفيع من الحياة بداخلي، تمسكت به حباً بالثأر، لا طمعاً بالحياة، فالتقطتني الأيادي من مكب للنفايات من بين عدة جثث أخرى، كنت أنا الوحيدة منها لا يزال قلبي ينبض بالحياة، لتوصلني تلك الأيادي إلى بقايا عائلة عالجتني من جراحات الجسد، بعد أن وثقوا حالي بالصور، فأخذت بعد أن شفيت من بعض جراحي أبحث لنفسي عن ملاذات لا تصلها يد المليشيات وطغاة السلطة، وأركان الاحتلال..
مرت أيام وأشهر وأعوام على نكبتي، ولا زلت أنادي، وأستصرخ، وأستنجد، وأبحث عمن يأخذ بثأري من المحتلين الغزاة، ومن حكام المجوس الطغاة، ومن (الأستاذ) و(السيّد)، وعملاء الصحوات.. فهل من ملبٍ للنداء؟!!
سيرة اعتقال وأسر وتعذيب هذه الحرة الأبية كشفت عن طبيعة تلك الحرب الإجرامية البشعة القذرة التي تشن ضد أمة الإسلام، فهذه الحرة المسلمة فضحت ما يجري لنسائنا ونساؤكم، بني جلدتي، في معتقلات الصلبان، وعرّت خزايا الصحوات، وكشفت عن جرائم الصفويين الجدد الأوغاد، وخسة ونذالة الفرس المجوس الأنجاس ضد بني الإسلام..
وعند خاتمتها، أيها القارئ المسلم، أياً كان عنوان بلدك، فأن هذه القصة ستضعك على المحك، وعند مفترق الطرقات، فإما إلى شرف وثأر للحرائر المسلمات، وإما إلى موت الضمائر ولبس ثياب العار، وعند هذه النقطة ستعرف قدر نفسك.. مُكرم أو مُهان!
almaadidimedia@gmail.com

مشاركة مميزة